لمناسبة الذكرى المئوية لميلاد هانا آريندت

1
هناك شبه إجماع لدى المهتمين بتاريخ الفكر المعاصر على أن ما قدمته المفكرة الألمانية / الأمريكية هنا آريندت (1906- 1975) يوازي في أهميته ما قدمه عمالقة الفكر الوجودي في القرن العشرين مثل جان بول سارتر و البير كامو وكارل ياسبرز وغيرهم من مساهمات فكرية لتأسيس فكر الحداثة الذي يمكن إعتباره المكوك المحرك في التحرر من شرنقة الفلسفة الأكاديمية والبحث في طيات الوجود الإنساني عن مجالات للفعل المسؤول في إتجاه تغيير الذات وبالتالي تعاملها مع مظاهر الوجود الفعلية. من هنا فقد أصبحت هنا آريندت جزءا لا يمكن التغاضي عنه في إطار الخطاب الفلسفي الأوروبي المعاصر، غير أنها تبدو شبه مهملة من قبل العدد الأكبر من المفكرين العرب، ربما بسبب جذورها اليهودية التي لم تتنكر لها، حتى بعد الحملة القاسية التي مارستها بحقها المؤسسات الصهيونية في أمريكا وإسرائيل بعد نشر بحثها quot;آيشمان في القدس. بحث في تفاهة الشرquot;. ومن الجدير بالذكر أن السلطات الإسرائيلية منعت نشر هذا البحث في إسرائيل، كما أنه لم ينشر بشكل متكامل في ألمانيا إلا في منتصف السبعينات من القرن الماضي.

2
ما هو جوهر الفكر الذي تمثله هنا آريندت التي تتلمذت على يد فلاسفة ألمان مهمين مثل هايدغر وكارل ياسبرز وهوسرل وأين تكمن خطورته في المجال العملي؟ قبل الإجابة على هذا السؤال أجد أن من المفيد الإشارة الى أن هانا آريندت كانت ترفض منذ هجرتها من ألمانيا عبر فرنسا وإستقرارها في الولايات المتحدة أن يطلق عليها لقب quot;الفيلسوفةquot; وتفضل لقب quot;المنظرة السياسيةquot; إنطلاقا من قناعتها بأن الفكر التحليلي الفلسفي لم يتمكن من مجابهة النازية وغيرها من الأنظمة الشمولية التي تركت بصماتها على مجمل الحدث السياسي في بدايات القرن العشرين وعلى إمتداده، وهي تخص بهذا النقد اساتذتها الذين خيبوا أملها، إذ أحتموا ndash; بإستثاء كارل ياسبرز- بمظلة النازية سيرا على خطى معلمهم الأول هايدغر الذي حاول أن يبرر فلسفيا تطلعات النظام النازي الشمولية. في إطار هذا التناقض تبدو ظاهرة quot;الشرquot; التي تمتلك جاذبية غريبة لا يقتصر تأثيرها على بسطاء الناس، بل يشمل أيضا عقولا كبيرة، جديرة بالبحث، بل يمكن إعتبارها إحدى القضايا المركزية في الفكر المعاصر لأهميتها في معالجة موضوعة الأنظمة الشمولية، وما تحققه هذه الأنظمة من تشويه للوعي الإنساني. ولسنا في مجال التطرق لمفاهيم الشر والخير في إطارها الأخلاقي التقليدي، وإنما، وهذا ما حققته هانا آريندت بإمتياز، في البحث عن ما يعطينا القدرة على مواجهة كل ما يلغي عن الإنسان مسؤوليته الذاتية ويضعه في إطار كتلة هلامية تطيع صاحب الأمر طمعا في مكافأة ما ربما قد تأتي قريبا. هذا هو جوهر الفكر الإستثنائي الذي أسست له هانا آريندت ووجد صداه في كافة التيارات الفكرية في القرن العشرين وما زال يمتلك الكثير من التطابق مع ما يجري من تطورات سياسية وفكرية في زمننا هذا.

3
صنفت هانا آرندت ظاهرة الشر بكونه quot;ظاهرة تعجز أمامها الكلمة ويتراجع أمامها الفكرquot;. لمواجهة هذه الحالة تركز هانا آريندت على موضوعة quot;الفعلquot; الذي هو على عكس التفكير والتكوين لا يمكن أن يحصل بدون quot;مشاركة الآخر التي تمنحنا حرية القدرة على البداية.quot; في هذا يبدو من الواضح أن الذات الفاعلة هي الطريق الأفضل لمجابهة quot;الأنظمة الشموليةquot; التي تحيل العقل الإنساني الى التقاعد عن طريق نشر الأوهام التي توحي بنهاية التاريخ والتحرر من نتائجه في عالم فردوسي مقبل. في كتابها quot;الحياة الفاعلةquot; تحاول هانا آريندت سبر أغوار الفعل الإنساني في عالم يحاول تجريد الفرد من خصوصيته وإخضاعه لقانون quot;القطيعquot;: جذر المجتمعات الشمولية.

في quot;عناصر وجذور الشموليةquot; الصادر في سنة 1951 تقول هانا آريندت: quot;حين يستحيل كل شئ أداة لتحقيق أهداف إيديولوجية يصبح العالم قاعة مغلقة لا مجال فيها للجديد.quot; يعني هذا في النتيجة أن أدلجة الواقع تؤدي في النهاية الى تقييد الفكر وإلغاء القدرات الخلاقة للفرد بهدف تقنينه ووضعه في أطر لا يمكنه تجاوزها. ولو تمعنا في هذه المقولة فسنجد أنفسنا في النهاية في جذر المؤسسات والأفكار الشمولية التي أصبحت حاليا مصدرا للفكر الإرهابي التكفيري بكل ما يحتويه من إلغاء للآخر ومنعه حتى من التفكير الحر البعيد عن القيود الإيديولوجية. في صدد النقد الذي أحاط بدراستها حول محاكمة آيشمان تقول هانا آريندت: quot;لدي تفهم كبير لمن أنتقدني وأعتقد أن السبب في ذلك هو قدرتي على الضحك. وللحقيقة فأنني كنت مقتنعة بأن آيشمان شخصية مضحكة. لقد قرأت التحقيق مع آيشمان (3600 صفحة) بدقة كبيرة، وضحكت بصوت عال. هذا هو ما ينتقدونه.quot;
في سعيها المتواصل لكشف جذور الشر تمكنت هانا آريندت من تشخيص جملة من جذور الكوارث البشرية في القرن الماضي وربما فتحت أمامنا ابوابا واسعة لتفسير ما يحيط ما يحيط بنا من مظاهر الإرهاب الفكري والجسدي المغلفة بتبريرات دينية وإيدلوجية غير قابلة للنقاش.