كنت في السادسة عشرة عندما سافرت الى لندن لاول مرة.. واذكر انني خرجت مع والدي لنطوف على المكتبات العربية هناك.. فلم يكن لدينا في كوبنهاجن مكتبات مشابهة للتي في لندن.. اذ ان مكتباتنا العربية ليست سوى غرف صغيرة عادة ما تكون قبو في احدى عمارات كوبنهاجن الاثرية.. اما بالنسبة لنوعية الكتب التي لدينا فهي غير متنوعة التشكيلة، هذا بالاضافة الى عددها الضئيل.. وتكاد تقتصر على الروايات الشهيرة لبعض الكتاب العرب..
لذلك كنا انا وابي متحمسين جدا للمكتبات العربية في لندن..
ذهبنا مشيا على الاقدام الى كوينز وَي، وفي البدء لم نرى اثرا لمكتبة.. وخلال بحثنا جذبني وجه من بين الكثير من الوجوه التي كانت تعج امامي.. وهتفت بابي ان انظر انه فلان.. كان ممثلا كوميديا معروفا.. وكنت من اشد المعجبات به.. فذهبت اليه غير عابئة بنظرة الحزم التي رسمها ابي على وجهه وقوله انه لن يسلم عليه.. ذهبت وسلمت.. واضطر ابي ان يلحق بي.. فرحب بنا ذلك الفنان ثم سالنا ان كنا نعلم في اي اتجاه تقع المكتبة العربية.. فاجبناه باننا نحن ايضا نبحث عنها.. ثم افترقنا عنه ببساطة.. وبحكم سني الصغيرة في ذلك الوقت فان ذلك اللقاء اسعدني، خاصة انني لم التقي اي شخص مشهور من قبل.. لكنني ما لبثت ان نسيته عندما وجدنا ضالتنا.. وانهمكنا انا وابي في البحث عن كتب جئنا من اجلها..
فجأة دخل ذلك الفنان الى المكتبة مسلما بصوت عال.. كانه يريد ان يعلن عن وجوده.. ثم سال بصوت اعلى.. اين الكتب الدينية..
دهشت للسؤال لوهلة، لاني لم اعرف كيف افسره.. ونظرت الى ابي فوجدته يبتسم بسخرية.. فاخترت نفس الابتسامة..
واليوم انا في الحادية والعشرين.. اعتقد اني اصبحت اكثر وعيا لاختار ابتسامتي بنفسي.. ساعلق ابتسامة اكثر سخرية واشد مرارة..
لقد كان فناننا العزيز يسال عن الكتب الدينية.. اولم يقرا عزيزنا quot;في كتبه الدينيةquot; ان من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها.. اليس من العجيب انه منذ خمس سنين يقرا كتبا دينية.. ورغم ذلك.. ومع كل ثقافته الدينية الرفيعة اتحفنا في العام الماضي باغنية (ابوية خطبني).. داعيا بكل وقاحة واسفاف الى اشكال جديدة من الانحلال الخلقي.. لن اذكر كلمات الاغنية الهابطة.. ولا محتواها من السباب والشتائم بشكل علني.. لكنني اتسائل.. ان كان قائلها يقرا كتبا دينية.. فكيف بثقافة مستمعيها.. دعنا من هذا.. فقد يكون مستمعوها quot;لا يقراون الكتب الدينيةquot;.. لكن كيف امكن لمثل هذه التفاهة ان ترى النور.. وكيف امكن ان تعيش بيننا وتترعرع ثم تكبر.. اهذه نتيجة سكوتنا كمتلقين.. سكوتنا الذي ساهم بشكل او باخر في تربية هذه الظاهرة..؟!
ترى لماذا نترك وسيلة مهمة وفعالة كالفن.. حكرا على هذه الفئة من الناس..
فلننظر الى الشعر مثلا...
سنجد ان الشاعر الماجن ياخذ نصيبا اكبر من نصيب الشاعر الاكثر وقارا.. الذي يُهمش بحجة ان الذوق العام اصبح يفضل الاخر.. رغم ان الذوق العام نفسه لا يختار بنفسه من يفضل.. ان من يختار لنا ويفرض علينا اذواقنا هي دكتاتوريات فنية دخيلة.. وهنا احب ان انوه الى انني من الد اعداء نظريات المؤامرة.. الا ان هذه الحالة بالذات هي بالفعل واقع عشناه وما زلنا حتى الان نرزح تحت تفاقماته..
لقد ارتبط اسم الفن والادب باسم اناس متحررين من القواعد الاساسية التي يفرضها اي مجتمع او دين.. بدأ ذلك كظاهرة تفشت في الغرب كانت بعد العصور الوسطى ويعتبرها البعض النقلة من تلك العصور المظلمة الى عصر اكثر اشراقا.. سميت تلك الظاهرة بعصر النهضة.. او الرينسنس.. حيث ثار الفنانون والادباء على الكنيسة وعلى استعبادها اياهم.. ثاروا عليها بفنهم، وتحدوها.. فتجرأوا حتى رسموا السيد المسيح عاريا، ورسموا الذات الالهية ايضا..
ولان ذلك الابداع الثائر كان ضد الكنيسة، اي ان الطرف المعادي هو كل ما يمثل الدين.. صار اي فنان اومبدع هو شخص معارض للدين.. وعممت هذه الصورة وعاشت الى يومنا هذا.. بسببها تمرد غالبية الفنانين والادباء على الطبيعة والدين والتقاليد السائدة وتعمد الكثير منهم ان يتصفوا بالغرابة.. ( فشكسبير) عملاق المسرح يجزم الكثيرون انه كان شاذا.. و(فان كوخ) الذي قطع اذنه ليقدمها الى حبيبته، مات منتحرا برصاصات اطلقها على نفسه بعد دقائق من اتمام اخر لوحاته.. بل بات الموت انتحارا هوموضة الفنانين والادباء.. فاقدم عليه الكثيرون.. مثل (سيلفيا بلاث) و(مارلين مونرو) و(همنغواي) و(ناتالي وود)..الخ..
وتعمد (مانيه) في لوحته الشهيرة (غداء في الطبيعة)، ان يصور امراة مجردة من ثيابها تماما يقابلها رجلان يرتديان ثيابهما كاملة.. يدخل في هذا الاحذية والقبعات، حتى بات لا يظهر منهما غير وجهيهما وكفيهما.. مما اثار زوبعة حادة من الانتقادات( لمانيه).. لانه اولا تمرد على الطبيعة التي كانت تفرض في ذلك الوقت الاحتشام على النساء.. وثانيا لانه اراد بتلك اللوحة استبدال دور المراة بدور الرجل او ربما باي دور اخر على شرط ان يكون تحرريا.. وهذا واضح من جعل الرجلين يتصفان بصفة هي احد اهم صفات المراة في ذلك الوقت مع تجريد المراة ذاتها منها..
كانت هذه التصرفات وغيرها ناجمة عن كبت الكنيسة للشعوب، ذلك الكبت الذي شمل كل شيء، فكان رد الفعل طبيعيا بالنسبة لاولئك الناس الذين تضرروا من ذلك الكبت.. فمن الظلم اذاً ان تُصدر الينا تلك الثقافة لاننا لم نواجه مثل هذه المشكلة.. لكنها فعلت، ومع الاسف تلقفناها.. فلم يُسمح لنا بابتكار ثقافة فنية اخرى تكون مناسبة لنا، تحاكي الاولويات التي يفرضها علينا ديننا وعاداتنا.. فصار فنانونا وادبائنا نسخ مكررة للغربيين.. فجاء الكثير من ابداعنا إما مستنسخا او في افضل الحالات مشابها لنظيره الغربي.. اما اذا ما اراد اديب او فنان ان يوصل فكرة او يرتقي بجمالية ما.. هاجمته تلك الدكتاتورية.. عن طريق تسليط الضوء على اعماله الاقل شأنا، او افكاره التي تسوق لنا على انها لا اخلاقية او غير مناسبة..
هنا يمكنني ان اضرب مثلاً وهو الكاتب احسان عبد القدوس..
كثف الاعلام اظهار هذا الكاتب على انه ماجن إباحي.. انا شخصيا لا ارى ذلك على الاطلاق.. وحتى وان كان كذلك.. فلماذا يا ترى لا نسلط المفهوم نفسه على كتاب اخرين.. فعبد الحميد جودة السحار لا يقل اباحية عن احسان.. بل ان اباحية احسان quot;اذا صح هذا التعبيرquot;.. اباحية موظفة لخدمة فكرة معينة غالبا ما توضع تحت خانة الخطيئة.. ولا خطيئة من دون عقاب عند احسان.. كما هو العقاب في (انف وثلاث عيون)، و(لا انام)، و(لا تطفيء الشمس).. الخ.. اما الخطيئة عند عبد الحميد جودة السحار فهي ترف.. خاصة ان ذكرالخطيئة بهذه البساطة عن طريق كاتب quot;اسلاميquot; يكتب في سير الانبياء والصحابة، يعتبر ضده لا معه..
- وهنا اعني رواية (جسر الشيطان) بالتحديد-.. بل ان السحار صور المجتمع الذي ينظر الى الخطيئة على انه معقد وظالم..متمثلا في شخصية (حسين) في (النقاب الازرق)..
وانا لا اعني بهذا ان احسان اقل ايباحية من السحار او العكس.. ان هدفي من ذكر هذا.. هو ان هناك اجحافا في حق بعض الكتاب.. لانهم كانوا يقدمون فكرا لا تريد تلك الدكتاتورية له ان يعيش.. انها دكتاتورية فنية ادبية تمتد احيانا لتشمل مصطلح السياسة ايضا.. اي انها دكتاتورية فنية ادبية سياسية.. فعندما لا يعجبها كلام عبد القدوس في السياسة مثلا.. تفجر في وجوه الناس قنبلة اباحيته..
عبد القدوس، الكاتب الشاب الذي كان اول من اتى على ذكر الاسلحة الفاسدة، والمعارض للملكية، ثم المتمرد بعد ذلك على الناصرية عندما بدات تتجلى له على حقيقتها.. كان افضل طريقة للهجوم عليه هي عن طريق تحويل رواياته وقصصه القصيرة الى افلام.. افلام تجعل كل من يراها يضع حاجزا بينه وبين تلقي فكر احسان.. لان تلك الافلام كانت تغفل متعمدة عن الافكار التي يطرحها احسان وتتمحور فقط حول اوضاع حميمة، ياتي احسان على ذكرها ربما لان جرأته القصصية لا تقل عن جراته السياسية..
اعود واكرر انني لا انزه احسان.. لذلك ساضرب امثالا لم تحضى بالاقصاء الذي حضي به هو.. كي ادلل على وجهة نظري..
يوسف السباعي.. كان ضابطا وابن الدولة المدلل.. لانه مرتبط ارتباطا وثيقا بالضُباط الاحرار ومقرب كاديب وضابط من جمال عبد الناصر.. لذلك نجد ان رواياته روج لها عن طريق الافلام التي مثلت تلك الروايات.. يتضح هذا عندما نجد ان غالبية هذه الافلام، قاسمها المشترك هو الممثل (احمد مظهر).. فهو بطل في (رد قلبي) و(نادية) و(غرام الاسياد) و(العمر لحظة) و(الناصر صلاح الدين)... وهذه ليست صدفة على الاطلاق.. فمظهر ضابط ايضا، مقرب من عبد الناصر ايضا، وصديق للسباعي ايضا.. بل اكثر من هذا، فلقد كان مظهر خريج دفعة سنة 1938 من الكلية الحربية، اي ان زملائه من نفس الدفعة هم جمال عبد الناصر وانور السادات.. بهذا نجد ان تلك الافلام من والى ومع الدولة.. فليس من العجب اذاً ان تُصرف ميزانيات ضخمة لانجاح هذه الاعمال.. وهو بالتاكيد ما لم يحدث مع احسان أو حتى مع غيره من الادباء، بالكم الذي حصل مع السباعي.. بل ان الدولة اتخذت روايات السباعي كالدساتير والكتب المقدسة.. فكتبه دائما ما تاتي على ذكر الافكار القومية التي تتبناها هي والولاء المطلق للشخصية الواحدة والاسهاب في كيل المديح اليها.. وهو ما لم يفعله احسان في روايته الاشهر التي تتحدث عن هذه الحقبة (في بيتنا رجل).. فلقد اعزى البطولة في روايته هذه الى شخصية الشاب (ابراهيم حمدي) وهو من عامة الشعب ولم يات على ذكرالقيادات quot;العلياquot;.. كانه يريد بذلك ان يقول ان الثورة كانت من صنيعة الشعب نفسه لا اولئك الضباط..
كُرم السباعي في حياته واصبح وزيرا للثقافة.. وكرم حتى بعد مماته على حساب بقية الادباء.. فكان اول اديب تروى قصة حياته عن طريق مسلسل درامي، من هذه الحقبة او المجموعة التي تضم احسان، السحار، نجيب محفوظ،محمد عبد الحليم عبدالله، ثروت اباظة، يوسف ادريس.. الخ.. بل اني منذ يومين فقط قرات انهم يريدون تمثيل فلم عن حياته ايضا.. وهنا يتضح التمييز بين هؤلاء الادباء جلياً..

هل اذكر المزيد من الامثلة.. نعم، دعونا نتجه الى حامل نوبل.. نجيب محفوظ..
عند احسان نجد المراة.. مخلوقا رقيقا رائعا عادة ما يكون جميلا ذكيا يركز احسان بشكل مكثف على ذكائه ويطالب بحسن معاملته واعطائه حقوقه المشروعة.. اما اذا ما اخطات المراة لدى احسان.. فان الخطأ بسبب المجتمع الذي اخطأ هو في معاملتها فدفعها بالتالي نحو الخطيئة.. او بسبب تراكمات تربية خاطئة نتجت عنها الخطيئة، كحالة مسلم بها.. وغالبا ما يكون السبب الاول والثاني مجتمعين معا للوصول لتلك الحالة.. والامثلة كثيرة جدا.. فهناك نادية في (لا انام) وليلى في (لا تطفيء الشمس) وامينة ونجوى في(انف وثلاث عيون).. وفايزة في(الطريق المسدود)..الخ..
عند نجيب، المراة دائما ساقطة.. فهي كائن ساقط اصلا يولد هكذا ثم يتحول امراة.. اما اذا ما حاولت المراة عند نجيب ان تشذ عن القاعدة quot;النجيبيةquot; فستتحول الى مثال خانع خاضع لا راي له ولا شخصية.. والامثلة كثيرة جدا لدى نجيب..مثل (زبيدة وزنوبة وجليلة ومريم وام مريم ) كالمثال الساقط و(امينة وعائشة وخديجة) كالمثال الخانع وهذه شخصيات كلها من ثلاثيته الشهيرة... وهناك المزيد من المثال الساقط على وجه الخصوص لانه يكثر منه في رواياته..فهناك (ريري) في ( السمان والخريف) والاخت في (بداية ونهاية) وفتاة( زقاق المدق).. وامراة (اللص والكلاب).. ونساء عوامة (ثرثرة فوق النيل)..انها امثلة متكررة في كل كتبه.. ومع ذلك لم نجد احدا ينقده من اجل ذلك.. بل لقد علا شانه وارتقى وبني حوله حجاب من الحصانة بعد حصوله على جائزة نوبل..

لقد تمكنت تلك الدكتاتورية بهذه الطريقة من تحجيم الكثير من رموزنا تحت مسميات الدين والعادات واحيانا المباديء.. ودفنت افكارهم وسفهت جراتهم حتى بات المتلقي ينكرها..
ارجو ان نبني لانفسنا اساسا صحيحا لفنوننا وآدابنا.. فنستبدل تلك الدكتاتورية بديمقراطية ابداعية.. نمنهجها على اساس ديننا وعاداتنا كما نفهمها ونعرفها نحن لا تلك الثقافات الدخيلة علينا..

كوبنهاكن

[email protected]