بادئ ذي بدء ما أعرضه في هذا المقال ليس دراسة شاملة تستقصي كل جوانب الرواية وظلالها ndash; إن صح التعبير ndash; بل هو إشارات وملاحظات نقدية بخصوص شكل الرواية وموضوعها. ويصعب علينا بعد أن نفرغ من قراءة الرواية أن نصدق أنها تجربة أولى لمؤلف شاب (يدعى عاطف أبو سيف). فهي مكتملة الشروط الفنية بل وتدل على ملكة روائية فذة تعدنا بالكثير على صعيد اللغة والتقنيات السردية والموضوع ذاته.
الرواية هي بحق رواية الفلسطيني الباحث عن الذات والهوية، هذا الفلسطيني الذي أضاع هويته في -1948 وما زال يبحث عنها ndash; نرى أفكاره مشتتة في فضاء الرواية. ويتنامى الصراع في جوانحه بل ويشتدّ حين يصطدم بالآخر. ويتجلى هذا البحث عن الهوية في شخصية تام الباحث عن أبيه الفلسطيني، وفي شخصية الأب نفسه الذي أضاع أهله، كما يتجلى في شخصية الطالب الفلسطيني الباحث عن جذوره في يافا، وهذه الشخصيات هي الذاكرة التي تسرد علينا ظلالها، لكن هذه الذاكرة ليست فردية فقط، بل هي رمز للذاكرة الجمعية الفلسطينية، الأب هو رمز لفلسطين، والابن رمز للجيل الذي ولد في الشتات وكما ضاعت فلسطين في 1948 ضاع الأب كذلك، وكما أن هذا الجيل لم يرَ فلسطين فكذلك الابن لم يرَ أباه، وكما لم يبقَ من الأب سوى آثاره كذلك لم يبقَ من فلسطين ما قبل 48 سوى آثار داسها اليهود وقرى هدموها. لكن هذا البحث عن الهوية يصطدم ببحث آخر عن الهوية على نفس هذه البقعة من الأرض (فلسطين)، هذا البحث يقوم به الآخر اليهودي الذي تعبر عنه الرواية من خلال حديث سارة.
أحد الجوانب المهمة في هذا الرواية أنها رواية أفكار، فهذه السمة واضحة في عدة أماكن في الرواية خاصة حديث الطالب مع زميله في السيارة التي تخترق إسرائيل في طريقها للضفة الغربية. لكن المؤلف لا يجعل من هذا الحديث يطغي على روايته ويوازن بين الفكر والعاطفة متكئاً على السرد القصصي الممتع والذي يسحبنا من شاطئ الأفكار لأعماق النص كدوامة لا نحس بها.
إن الروائي يحمل في داخله إرث الرواية الفلسطينية عن وعي وبلا وعي، وينطلق في هذا الإرث إلى كتابة روائية جديدة مغايرة في اللغة والموضوع، لكن لها أيضاً خصوصيتها الفلسطينية التي تجمعها مع الروايات السابقة لها.
من أبرع جماليات الرواية الصورة الفنية التي تقابلنا في كل صفحة فترقى بالنثر لمستوى الشعر، بل وتخلق منه أحياناً قصائد نثر، وتضفي على مشاهد الرواية شعرية أخاذة، ولا غرو ففي قلب كل كاتب شاعر كامن يتسلل بين السطور ويرسم لوحاته بالكلمات التي تغني عن الرسوم الداخلية التي تزين الكتب عادةً. الكاتب هنا يلعب باللغة ويشحن الكلمات بطاقات شعرية تمنح النص تجريدية حيناً وعاطفية حيناً آخر، وفي كلتا الحالتين ينتشي القارئ بلذة النص.
يمارس الكاتب التجريب إلى حد ما في شكل الرواية، فيستخدم تعدد الأصوات quot;البوليفونيةquot; (Polyphony)، حيث نجد للرواية ثلاث رواة أو أصوات هم الطالب وتام وأيضاً الأب الذي يحدثنا من خلال أوراقه التي قرأها تام بعد وفاته، كما نجد أن الحديث نفسه أحياناً يطرح أكثر من مرة، لكن كل مرة من وجهة نظر جديدة، مثل علاقة تام بالطالب الفلسطيني حيث نقرأ وجهتي نظريهما معاً، وكذلك علاقة أبو تام بأصدقائه.
يشكل الزمن عاملاً هاماً في هذه الرواية، فنلمح تداخل الأزمنة في موضع ما فنجد الماضي يجاور الحاضر، وهذا ليس غريباً فيما يخص هذه الرواية لأن هذا ما يحدث فعلاً في ذاكرة كل منا حيث تتداخل الظلال والأصوات والأحداث، فإذا ما عدنا بذاكرتنا للوراء نجد مشاهد من الماضي البعيد تختلط بصور من الماضي القريب ويلتقي مفهوم الزمن ويصبح الكل حاضراً في لحظة التذكر، إن الكاتب هنا يسترجع الماضي لذا يستخدم تقنية (flashback)، إنه يحاول التقاط الماضي والتشبث به قبل أن يضيع سدى، لذا يسرد المشهد تلو المشهد من الذاكرة حتى يصبح للحياة معنى. أود أن أشير هنا أيضاً إلى ما اسميه quot;اقتناص الزمنquot; ndash; إن صح التعبير ndash; والذي أعني به قبض الكاتب على حدث معين في لحظة زمنية قصيرة والتوغل فيه واستقصاء كافة جوانبه والاستفاضة في وصفه حتى أن الحدث الذي لا يأخذ من كاتب آخر سطرين أو ثلاثة يصل عنده لصفحة تقريباً أو أكثر. وهذا دليل على براعة في السرد الروائي تستحق الإعجاب، مادامت تخدم النص وتصل لمناطق قد لا يلمحها القارئ من الوهلة الأولى.
هذه رواية إنسانية، ففي مقابل الحقد والعنصرية عند بنيامين نجد الكاتب يطرح السلام والحب بين البشر كحل للمشاكل والحروب القائمة والحب هنا ليس فقط مقصوداً به الإنسان تجاه الإنسان، بل الحب بين الجنسين بغض النظر عن الفروق الدينية والعرقية والقومية، وأبلغ تصريح عن وجهة نظر المؤلف هذه تأكيده أن العالم يتخلى الآن عن فكرة المجتمعات لصالح كونيته. وفي عرضه لعلاقة الطالب الفلسطيني بهيلين اليهودية ** يبين مدى صعوبة التقاءهم الفكري في ظل المشكلة التاريخية بين الفلسطينيين والإسرائيليين وعدم حصول الطرف الأول على حقه حتى الآن. وتظل قضية الحب بينهما معلقة دون حل تاركة الباب مفتوحاً لتفسيرات عدة شأن كل رواية ناجحة، إلا أنه يمكننا الاستنتاج من النظرة الكونية للكاتب إمكانية السلام والحل العادل للقضية الفلسطينية إذا ما أخذ المظلوم حقه، وقد يكون نجاح قصة الحب مستحيلاً في الماضي حيث حالة الحرب المطلقة لن الآن وفي ظل مرحلة اختلط فيها السلام بالصراع يصبح أمر نجاح هذه العلاقة مسألة فيها خلاف. لكن نتمنى جميعاً كإنسانيين أن يأتي وقت يحسم فيه الصراع لصالح السلام العادل، وتكتب الرواية الفلسطينية التي يتزوج فيها الفلسطيني الإسرائيلية والإسرائيلي الفلسطينية في مجتمع يخلو من التعصب الدموي.
ترصد الرواية علاقة الأنا بالآخر سواء علاقة الأنا العربي بالآخر اليهودي، أو علاقة الشرق بالغرب، وقد عرضت روايات عربية سابقة لعلاقة الشرق بالغرب، لكن كاتبنا لا يتعمق في هذه العلاقة بل يعرض منها ما يتصل بقضيته الأساسية الفلسطينية. الشرق هنا هو quot;شرقquot; المستشرقين الذين عملوا على تشويهه ndash; كما فضحهم إدوارد سعيد ndash; وأكملت وسائل الإعلام الغربية والصهيونية هذا التشويه للعرب والفلسطينيين خاصة، ومن أبواق هذه الدعاية اليهودية عن الشرق والغرب الأستاذ البريطاني اليهودي بنيامين الذي يشكل رمزاً للصهاينة الذين يخدعون الغرب ويزيفون لهم الحقائق. ويمثل تام في زيارته الأولى لفلسطين ndash; الغرب المخدوع حيث كان ضحية الأبواق الصهيونية، وشكل علاقته بسارة علاقة الغرب بإسرائيل، الشرق هنا كما صاغه الغرب فكارمن الأسبانية يصفها روبرت الايرلندي بالشرق غربية لأنها تحمل خصائص شرقية في نظره، بل أن تام نفسه يقع في الخطأ حين يقول quot;ولكن أين الشرقية في هذه الحداثة وهذه الفلسفة المهووسة التي تفوح ن كلمات كارمنquot; وكأن الحداثة والفلسفة مقصورة على الغرب. وفي مقابل فكرة أن الغرب والشرق نقيضان لا بد لأحدهما أن يسود الآخر، تبرز فكرة إنسانية ديمقراطية أخرى هي أن كل منهما يكمل الآخر لذا عليهما أن يعيشا معاً لا أن يضيعا في دوامة الصراع. ويبدو أن الغرب في الرواية من خلال بلدين هما روسيا التي يدرس فيها صديق الطالب، وبريطانيا التي أتى منها تام. وللجنس دوره الهام في علاقة الأنا بالآخر سواء اليهودي أو الغرب كما نرى مثلاً في علاقة صديق الطالب بالروسيات أو الأوكرانيات وعلاقة تام بكارمن وسارة وعلاقة الطالب بهيلين. لكن الغريب أن الجنس ليس مطروحاً في العلاقة العاطفية مع الشرقية العربية، كما رأينا قصة الحب بين أبو تام وجارته في مصر حيث كانت علاقة عذرية.
أما حبكة الرواية فليست تقليدية بحتة يعرض الكاتب الأحداث والأفكار والمواقف من عدة زوايا وعبر عدة نماذج بشرية ذات قضايا متنوعة، ولا تحوي الرواية عقدة تنتهي بحلها كما في الروايات الكلاسية لكنها تطرح أسئلة وتثير أفكاراً أكثر مما تطرح أجوبة، وهذه هي الرواية الحديثة الحقيقية.أما عن السرد فينساب عفوياً ويحمل أحياناً أمثالاً ولغة عامية أعطت الرواية بالإضافة للحوار الحميمي والرسائل والمكالمات الهاتفية بعداً حكائياً شعبياً يلتصق بتراث الأرض الفلسطينية.
إن quot;ظلال في الذاكرةquot; رواية تدفعنا للقول بأن هذا هو الأدب الذي علينا أن نكتبه في عهد ما بعد السلام الذي تساءل الكتاب ماذا نكتب فيه؟ فهي رواية لا تغفل الماضي الفلسطيني وتربطه بالحاضر وعبر تفاعلهما ينبثق سؤال المستقبل عن الزمن والهوية والقضية، فتغدو الرواية عملاً حاضراً دوماً وليس مجرد رواية تاريخية لمرحلة ما. إنها رواية واقعية حداثية.
التعليقات