صفاء ذياب- بغداد: هل يمكن أن نحسب عدد الشعراء العراقيين الذين يكتبون قصيدة نثر؟ أطرح هذا السؤال وأنا أقرأ نماذج فرنسية وأميركية من قصيدة النثر، وأجدها- حتماً- لا تشبه ما يسمى قصيدة النثر التي نكتبها نحن في العراق. فنحن ما زلنا نبحر في الشعر الحر الذي اختلط علينا بسبب تسمية نازك الملائكة التي أطلقته على قصيدة التفعيلة... بل القصيدة العمودية المقطعة لا أكثر... هذا الالتباس بقي مستمراً حتى يومنا هذا، فكلما أفتح مجموعة شعرية مجنسة على أنها قصائد نثر أجد أمامي قصائد تدور في فلك وزني أو إيقاعي بصورة أو بأخرى. في حين نسمع الكثير من ينادي بوجود قصيدة نثر عراقية تختلف عن قصيدة النثر العربية، فضلا عن الغربية... إلا أنني لم أجد حتى الآن ما يبرر وجود هذه القصيدة في العراق، وما يؤكد كلامي هذا عدد الشعراء الذين التزموا بكتابة قصيدة نثر بمعاييرها المعروفة، بدءاً من روفائيل بطي، ومروراً بعبد القادر الجنابي وسركون بولص من الستينيين، وحتى سلام كاظم وكمال سبتي من السبعينيين، وصولاً إلى جيل الشعراء الثمانينيين الذي حاولوا تبني مشروع قصيدة نثر عراقية خاصة، إلا أنهم غرقوا في بحر التجريب ولم يتنبهوا إلى ضياع عدد كبير منهم في هذا التجريب، وخروجهم حتى على نصوصهم التي نظروا لها، وأرادوا ان يجعلوا منها نماذج تحتذى.
في الوقت نفسه، بدأ جيل جديد من الشعراء العراقيين برزوا في تسعينيات القرن الماضي بالاتكاء على تجربة من سبقهم من الثمانينيين وأرادوا الخروج عليه، إلا أنهم، وبسبب دخول نماذج كثيرة استسهلت ما يسمى (قصيدة نثر)، لم يشكلوا لهم أيضاً هوية واضحة، على الرغم من محاولتهم كتابة نماذج مغايرة نوعاً ما عن قصيدة النثر الستينية أو الثمانينية. ولهذا، نحاول طرح سؤال على من جنسوا أغلب نصوصهم بـ(قصائد نثر)، وهو: كيف تكتب قصيدة النثر العراقية؟ وهل استطاعت قصيدة النثر (العراقية) أن تنضبط ضمن مقاييس قصيدة النثر العالمية، التي تتسم بـ(إيجاز، كثافة، لا غرضية، لا ادعاء)؟ مع العلم أن قصيدة النثر الأوربية لا تقطّع كما قصيدة التفعيلة أو الشعر الحر، بل تكون على شكل كتلة، تحمل كل ما يحمله النثر من أدوات وشروط في الكتابة. أم أنها كانت تطوراً لقصيدة التفعيلة العربية، ولكن بعدم انضباط وزني أو إيقاعية عالية؟

هل تخلق المواصفات الشعرية الجاهزة نصاً؟
من أجل الوقوف على بعض أراء الشعراء الذين تبنوا قصيدة النثر كمشروع لهم، نقراً للشاعر شاكر لعيبي رأيه في مشروع قصيدة النثر بصورة عامة، والعراقية بشكل خاص:
شاكر لعيبي: لكي لا أعاود قول ما قلته إجابة على السؤال، أحيل على تعليقي المنشور في أكثر من مكان المعنون quot;هل ثمة قواعد نهائية في كتابة قصيدة نثر؟quot;. واسمح لنفسي بالقول، وإنْ بفظاظة لا أحبها، أن صيغة السؤال توحي وكأننا أمام مواصفات مضبوطة- تشابه تلك المواصفات المطلوبة في الإنشاءات الصناعية- تتعلق بقصيدة النثر، وهنا يلخصها السؤال بـ(الإيجاز، الكثافة، اللا غرضية، اللا ادعاء). وللتوقف مليا أمام هذه السمات لندقق بالمعطيات التالية:
1-لم تكن مجموعة أنسي الحاج الشهيرة (الرسولة بشعرها الطويل) قصيدة موجزة البتة، وهي نص نثري عن جدارة. ولم تكن الكثافة المأمولة سمة من سماتها الكبرى، بل الشعرية المبثوثة في روحها ورؤيتها.
2-لا افهم اللا غرضية إلا بمعنى غياب أسئلة الحياة والكينونة الكبرى عن النص الشعري، ولا أحسب الشعر إلا همّاً مقيماً ملتصقا بمشكلة الكائن والوجود، ولعل تاريخ الشعر يبرهن بقليل من العناء على هذا الزعم.
3-أما اللا إدعاء فهو استهداف من نمط خاص أي لا شعري عن جدارة، ولا علاقة للشعرية به، ويقع في نطاق الأخلاقي أكثر مما يقع في نطاق الأدب.
4- لو أنَّ قصيدة النثر هي قطع من الماضي الشعري، أيّاً كان شكله، فلا توجد في يقيني قطيعة نهائية، لأن القطيعة تتضمن عناصر، قليلة أو كثيرة، من الإرث الشعري المعني، سواء تعلق الأمر باعتباطية العلاقة بين الدال والمدلول في قاموس معين، أو بما يحمله القاموس اللغوي المستخدم من إشارات دلالية أو تصويتات نغمية أو إيقاعات وزنية، في النثر والشعر على حد سواء.
5-لو أن قصيدة النثر تستهدي بحداثة ما، فإن أحد شروط الحداثة الجوهرية، في يقيني، أنها لا تستطيع الثبوت على انساق نهائية ومعيارية في الإبداع، في حين أن السمات المقترحة لن تكون سوى تقعيد معياري ونهائي لسمات ثابتة. وهنا يقع ما أسميته مراراً وتكراراً (بالعمود الشعري الجديد) المقترح ضمنا لقصيدة النثر، وهو أمر أرفضه تماما.
6-لو أن الحداثة هي تجريب مستمر فإن كل تقنية شعرية ستصير ممكنة في خلق قصيدة النثر بما في ذلك التفعيلات اللا إرادية في النثر بل القوافي الإرادية، وهو ما سعت إليه تجربتي باستدراج القافية في قصيدة النثر التي استهجنت بصوت عال في سياق التقعيدات المعيارية المناهضة جذريا للحداثة السائدة في العالم العربي.
7-أن مفهوماتنا في الثقافة العربية عن الحداثة غير قائمة على المعرفة قدر ما تتابع منطق الموظة الأدبية. لذلك فأن مفهوما محددا معمَّماً- وأشدد على الصفة الأخيرة- للحداثة يغيب في ثقافتنا الراهنة، وأن استنكار التجريبية يعلن صراحة حتى لو تعلق الأمر بقصيدة النثر، ويا للغرابة. انظر ما يقول الناقد السوري الفاضل عهد فاضل عن شخصنا من أننا شاعر تجريبي في الوقت الذي ينصرف العالم عنها. هذا الاستنكار للتجريبية يدل على سوء فهم متأصل للحداثة نفسها في العلم والأدب، ولقصيدة النثر برمتها.
8-لقصيدة النثر العراقية جذور تاريخية صارت معروفة، رافائيل بطي (1898-1954) والكبير حسين مردان.
9-وقع استبعاد عراقي، نسبي لكن واضح المعالم، لهذين الاسمين من المدونة الشعرية الوطنية المعتبرة ذات قيمة أدبية، بسبب هيمنة عقلية محافظة في الوسط الثقافي المحلي، ما زالت سائدة حتى يومنا وإن بأشكال وأقنعة متنوعة، بعضها حداثوي.
10-مثلما وقع هذا التجاهل المتعمد للتجارب الطليعية السابقة، يقع عدم إلحاح ذي مغزى لتجارب أصلية في الشعر العراقي الطليعي مقاربة بالتجارب المعقولة لكن المنمَّطة بهذا القدر وذاك. خذ (القصيدة المدوّرة) التي طوّرها إلى مديات باهرة حسب الشيخ جعفر، انطلاقاً من إرث الشعر العربي، وانظر مقدار التعمد الستيني للغض من طرفها. وانظر إلى الصمت المريب والنقد القاسي التي تعرضت له تجربتنا المتواضعة في إدراج القافية في قصيدة النثر اليوم.
11-إن فكرة (الكتلة) الغائمة التي أعتقد أنها ستصير موظة شعرية ونقدية جديدة منذ الآن فصاعداً، لم تنتج غالباً إلا نصوصاً نثرية ليست سوى قصص قصيرة موضوعة على أسطر منفصلة.
12-الشعر والأدب ثم قصيدة النثر لا تلتزم إلا بنفسها، أي بشروط التجربة الداخلية والرؤية الوجودية للشاعر وهي تبحث وحدها عن الشكل الملائم لها، وليس أي اشتراط براني.
13-تعالوا نفتش عن الرؤية الأساسية قبل التفتيش عن التقنيات الباردة المحايدة والاشتراطات المعيارية ذات الأصول المُتنازَع عليها.

الشعر خارج التصنيفات
ويرى الشاعر والمترجم سهيل نجم أن الشعر خارج التصنيفات، وأن ما نكتبه يجب علينا أن نبعده عن التجنيسات أو التسميات التي يمكن أن تضيع ما نكتبه ونبتعد عن الإبداع
:

سهيل نجم: على الرغم من كل التوصيفات والتصنيفات التي يسعى مؤرخو الأدب والشعر جاهدين إلى وضع القصيدة المعاصرة من خلالها في هذه الخانة أو تلك، لا أجدني منساقاً إلى أي منها، لا بل ارى في ذلك تنميطاًَ خانقاً إن لم يكن ذلك محاولة مدرسية يعمل فيها الدارسون الذين جل همهم البحث عن موضوعات شكلية تكاد تكون خارج الهم الشعري الشاعر. لذلك لا ارتضي الاذعان لتصنيف القصيدة التي أكتبها على أنها قصيدة نثر، فهذا حسب اعتقادي مصطلح خلاسي هجين ينطوي على تناقض لا يمكن حله، فالشعر شعر، والنثر نثر، ومحاولات التداخل بينهما عند البعض من الكتاب والشعراء لها ظروفها الفنية والموضوعية الخاصة. ما أكتبه واصدقائي الكثيرون أعده شعراً خالصاً ليس بمعنى التجريد ولكن بمعنى تجوهر الشعر في ثناياه، وبمعنى ابتعاده عن الغرضية وتوفره على الكثافة والتركيز والأسلوبية البلاغية الشعرية التي تعبر عن استرداد المخيلة البشرية لحقوقها كما قال بروتون.
لقد انتهينا من مرحلة ارتباط القصيدة قسرياً بالإيقاعات الصارخة ذات الأوزان التفعيلية والقوافي التي ترن في الآذان كأجراس الكنائس، وكل ما يجره ذلك من خطابيات لا لزوم لها أو هي بالأحرى أقرب إلى محافل خارج المحفل الشعري. وانتهت كذلك المرحلة الوسطى التي أعاد فيها الشعراء توزيع أوزان الفراهيدي. وتوصلت القصيدة اليوم وذهبت إلى مديات كان من الصعب الوصول إليها مع تلك المقيدات العروضية المنغمة ذات الغنائية الخارجية المائلة إلى الصخب في أغلب الأحيان. القصيدة الجديدة صارت تحفر في العمق اللغوي، ونتيجة لذلك تحفر في العمق الإنساني لاستفادتها من كل إمكانيات المخيلة الرحبة التي تكتشف في انزياحاتها اللا نهائية مضامين ومعانٍ ودلالات لا نهائية أيضاً. وبناءً على هذا أعتقد أن المسؤولية الملقاة على الشاعر صارت أثقل وأشد مما كان وكذلك صارت تطرح اختباراً أصعب على الشاعر. عليه أن ينجح في أن يميز ويمحص في المضامين الجديدة التي تنبثق من نسيج شكله الشعري. الذي يشدني إلى القصيدة، التي أطلق عليها القصيدة الحرة اليوم، هو تلازم الجمالي فيها مع الإبداع الفكري الفذ ليرتقي فن الشعر إلى ما هو أسمى من التعبير العاطفي البسيط أو الحماسي.

يا لنا من حالمين كبار...
يرى الشاعر وسام هاشم ان قصيدة النثر العراقية كانت تدور في فلك يختلف تماماً عن مفهوم قصيدة النثر الذي نظرت له سوزان بيرنار:


وسام هاشم: ثمة غرابة ما أجدها في السؤال تتمثل في أننا في قصيدة النثر العراقية كنا ندور حول مفهوم مختلف تماما عن قصيدة النثر هذا (قد يكون من الصواب التحديد بهذا الصدد ما يسمى بجيلي السبعينيين والثمانيين حيث كان للستينيين فهماً أعمق برأيي بحكم القرب زمنيا وريادياً من فكرة قصيدة النثر) أقول كنا نَدور حول مفهوم الإنثيال لا الإيجاز، والسرد لا الكثافة، ولكن من الممكن أن أزعم بحدودي المتواضعة أننا كنا أيضا نرى بضرورة اللاغرضية ولا إدعائية وهذا بالمناسبة ربما كان من أسباب نجاة قصيدة النثر او النص النثري العراقي في حينها من التباسات نصوص الحرب والتمجيد التي طالت فنونا شعرية وكتابية أخرى.. هذا موضوع آخر طبعا..
أعود الى الغرابة لان مهمة الإيجاز والكثافة تبنتها في حينها نصوص شعراء ما سُميّ (القصيدة اليومية) التي بشكل أو آخر كانت تعتمد على شكل قصيدة التفعيلة حصراً..
بهذا أضع أمام نفسي أيضا تساؤلا جديدا.. لكن من قال أن النص النثري العراقي كان ابناً شرعيا لقصيدة النثر العالمية؟ هل كان محور انشغال شعراء النص النثري حينها بحدود ومواصفات قصيدة النثر العالمية؟
صحيح ان لكتاب سوزان بيرنار وقعه الخاص لكن ربما لشحة الكتب والتنظيرات التي كان من الممكن أن تكون المتكأ الذي تتكئ عليه التجربة الفنية في النص النثري العراقي حينها ولا أعني هنا تجارب قصيدة النثر بل أعني التنظيرية منها فقط..
كانت حروب السبعينيين الشرسة أحيانا ودفاعهم عن النص النثري في غالبيتها بسبب هجومات مريدي النص التقليدي وقصيدة التفعيلة التي تكاد تكون أبعد عن المعارك الفنية وتقترب من أُسها الاجتماعي وربما السياسي في أحايين كثيرة..
الآن وبعد كلّ هذه السنوات والتجارب والنصوص والمجاميع والأجيال قد نكتشف ان انشغال واشتغال قصيدة النثر العراقية كان بعيداً عن مواصفات قصيدة النثر العالمية بالمواصفات التي أدرجتها في سؤالك..
ولم يكن- وهذا ليس ضعفا أو وهناً بل ربما أجده مصدر امتياز لها- سوى اشتغال على مغايرة ما وإنجاز خارج السائد في حينها..
أينبغي ان أشير بهذه العجالة أن الكثيرين منّا فضلوا تسميتها نصا بدلا عن تسميتها قصيدة نثر...؟ هل كنا نريد التملص أم توكيد الذات خارج أجندة قصيدة النثر العالمية أيضا؟ يا لنا من حالمين كبار!!

إساءة الفهم وقصيدة النثر العراقية
باسم الأنصار يدرك فحوى قصيدة النثر أكثر من العديد من الشعراء، لأنه كاتب للقصة القصيرة التي حاولت قصيدة النثر أن تستفيد من تقنيتها، ومن ثم فهو بحث في جذور هذه القصيدة حتى استطاع ان يكوّن لنفسه نصاً يمكن ان نطلق عليه quot;قصيدة نثرquot;:


باسم الأنصار: برأينا ان اساءة الفهم شوشت على الحركة الشعرية العراقية والعربية الكثير من الامور، وهي قد تكون اساءة غير مقصودة من قبل رواد الشعر العربي الحديث الذين اطلقوا المصطلحات الشعرية بشكل غير دقيق. فالإساءة الاولى كانت على يد الشاعرة نازك الملائكة التي نقلت لنا مصطلح الشعر الحر وألبسته على قالب شعري لا يناسبه. فبدلا من ان تطلق على قصيدة التفعيلة التي نظّرت لها وكتبتها مع السياب وغيره من الرواد مصطلحا يناسبها فانها اطلقت عليه مصطلح الشعر الحر الذي يختلف قالبا عن قصيدة التفعيلة. وبعدها بفترة ظهرت الاساءة الثانية على يد الشاعر ادونيس او على يد مجموعة (شعر) الشهيرة وملخص الاساءة هي انها ألبست القصيدة الحرة مصطلحا يختلف عن مقاسها وحجمها ألا وهو مصطلح قصيدة النثر. فراحت جموع الشعراء العرب (باستثناء البعض طبعا) بكتابة القصيدة الحرة تحت يافطة قصيدة النثر خطأ.
برأينا ان الشعرية العربية مرت بأربع مراحل من حيث الشكل والقالب الا وهي كالاتي:
1 . قصيدة التفعيلة الكلاسيكية (الشعر العمودي المعروف).
2 . قصيدة التفعيلة الجديدة (الملائكة والسياب).
3 . القصيدة الحرة (وهي الخالية من الاوزان والقافية وذات الشطر الواحد).
4 . قصيدة النثر (وهي المكتوبة مقطعيا وحسب المواصفات البودليرية التي روجت لها سوزان برنار).
إذاً، ليست هناك ظاهرة شعرية في العراق اسمها قصيدة نثر باستثناء بعض المحاولات التي يطرحها هذا الشاعر او ذاك او باستثناء ظاهرة الشاعر عبد القادر الجنابي الذي رفع لواءها فهما وكتابة.
إن كل نص شعري غير مقطعي ولا يحتوي على الاشتراطات الغربية لقصيدة النثر، ويدبج تحت مصطلح قصيدة النثر، هو نص يعبر عن خلل مفهومي لكاتبه. فلا نستطيع القول ان قصيدة النثر العربية او العراقية لها شكلها الخاص ألا وهو شكل النص صاحب الشطر الواحد لان ذلك يخالف مسببات ظهور قصيدة النثر في فرنسا وفي اوربا، وذلك لان الشكل المقطعي لقصيدة النثر لم يأت اعتباطا وانما هو مرتكز على ضرورات فرضتها طبيعتها وشكلها. فأهم اسباب شكل قصيدة النثر المقطعي هو اولا لكي تختلف عن القصيدة الحرة والتفعيلة والكلاسيكية المبنية على الشطر الواحد، وثانيا لان شروط كتابتها تفرض عليها ان تكون بهذا الشكل وليس غير ذلك. فالقصيدة الحرة ذات الشطر الواحد تبنى على ايقاع داخلي تفرضه اعماق كاتبها عليها. فانتهاء الشطر الشعري والنزول الى كتابة شطر شعري اخر لم ينتج اعتباطا وانما هو نتاج لايقاع داخلي يشعر به الشاعر لحظة كتابته للنص الشعري.
باختصار ولكي لا نتجاوز مطلب المحرر بعدم الاطالة هنا، ان قصيدة النثر، هي سرد منثور بلغة شعرية وبشكل مقطعي باختزال وتكثيف ممزوجين بالاعتباطية الفنية. ولهذا نسأل، هل انتج الشعر العراقي حالة عامة من هذا الشكل الشعري ام انه انجز نماذج متفرقة هنا وهناك في مسيرته الشعرية؟ انا ارى ان قصيدة النثر لم تصبح حالة عامة في الشعر العراقي لان كل ما انتجه هو ينتمي الى القصيدة الحرة ولكن تحت تسمية خاطئة ألا وهي تسمية قصيدة النثر.

هل هناك قصيدة نثر عراقية؟
ويتساءل الشاعر عبد الخالق كيطان عن إمكانية وجود قصيدة نثر عراقية، خصوصاً وأننا يجب في بداية الأمر ان نبحث عن نص عراقي له خصوصيته وتمثلاته الخارج من عدة حروب:

عبدالخالق كيطان: هل من حقنا إطلاق اصطلاح قصيدة النثر العراقية؟ هذا السؤال الافتتاحي أراه جديراً بالمعاينة، خاصة بعد تجربة ما يمكن تسميته جيل الحروب، وأعني شعراء ما بعد السبعينيات. فتجربة هؤلاء في قصيدة النثر تمنحنا كما أزعم فرصة مناسبة للحديث عن قصيدة نثر عراقية بعد أن اجتهدوا في انتاج نصوص عراقية لا تحيل، كما هو الفهم، إلى نصوص قصيدة النثر العربية، بل أكاد أزعم بأن التجربة العراقية الجديدة قد تقاطعت جملة وتفصيلاً مع النموذج العربي، وأمامك أطنان من الشعر العربي وبإمكانك المقارنة، بل أن المؤثر الأكبر في قصيدة نثرنا العراقية، ونقصد أدونيس، نرى حضوره يتضاءل شيئاً فشيئاً في متن القصيدة العراقية الجديدة في الربع قرن الماضي.
ومن فوائد النموذج العراقي بصورته التي أتحدث عنها تقاطعها مع النموذج العالمي المعروف تأريخياً حول قصيدة النثر، لقد آن لنا أن نبحث في جماليات النص العراقي بما هو نص عراقي، وجديد بالضرورة. أهوال ثلاثة حروب وما تبعها من موت وخراب وحصار وهجرة وفقر حرية بانتاج معادلات كتابية غير خاضعة لتأطير خارجي. ومن نافل القول بأن أغلب الاتجاهات الإبداعية العالمية لشعوب العالم قد نهضت بعد المرور بتجارب قد تتشابه مع التجربة العراقية المعقدة. نحن حقاً أبناء الألم، لا نبالغ في ذلك ولا نستعذبه بمازوشية كما يتوهم البعض، هي الحقيقة التي فرضت علينا ولم نسهم في اختيارها، هكذا ولدنا ونحن نرى الحروب تتقاذفنا فيما تكشر الديكتاتوريات الحديدية وجوهها القبيحة أمامنا وتغلق أي فرصة للتأمل. ماذا يفعل المبدع العراقي غير أن يفكر باجتراح أنماط كتابية تستطيع على الأقل أن تعيد الاتزان للأرواح المعذبة؟
ولم تشذ قصيدة النثر العراقية عن مجمل طرائق التفكير الإبداعية الأخرى.
شعر الثمانينيات كان يذهب بقوة نحو مغامرة لغوية لم تألفها قصيدة النثر خارج الحدود العراقية، ثم جاء الشعراء التسعينيون ليعيدوا الاعتبار لمفهوم القصيدة اليومية، وهذه المرة كان عليهم أن يتقاطعوا مع نصوص القصيدة اليومية التي كانت قد تشكلت في تاريخ قصيدة النثر العراقية والعربية، وهي مغامرة خطرة من المرجح أنها أوقعت الكثير من نصوصنا الجديدة في فخاخ العادي والمبتذل، ولأن التجربة العراقية تجربة معقدة على الصعد كافة، كما أسلفنا، فليس من الغريب بمكان أن نقرأ في الأعوام العشرة الأخيرة دعوات محمومة يقودها شباب وتنادي بإعادة الاعتبار للقصيدة العمودية!!!
قصيدة النثر العراقية وفق هذا المنظور تمثل ولادة خاصة، ولادة فرضتها ظروف موضوعية كثيرة، ومن المرجح أن هذه الولادة ستستمر في التعقيد، وأقصد أنها ستحاول أن تتفرع بأشكال مختلفة هنا وهناك تبعاً للمزاج العام العراقي.
ليس الشعر إلا ابن واقعه. هكذا أزعم، وبعد تجربة عقد كامل خارج العراق أستطيع أن أقول أن المؤثر العراقي هو الذي يمد quot;تجربتيquot; على الدوام بما يشحنها ويدفعها لانتاج النصوص، وبالطبع فقد صارت قصيدة النثر في هذا السياق القالب الذي أركن إليه فيمنحني الطاقة على إعادة صياغة كل هذه الفظاعات التي تندلق أمامي في الشارع أو من على شاشة التلفزيون أو من خلال صفحات الأنترنت. وبالنتيجة ليس البحث في شكل كتابة النص: مقاطع، أسطر ناقصة أو كاملة، ذا جدوى هنا، المهم هو بناء النص، وقدرته على أن يكون كاملاً بذاته ومنتجاً للمعنى وقادراً على الإحالة أيضاً.
أزعم أن خصوصية قصيدة النثر في العراق أمر مفروغ منه، وما يمكن أن نبحث فيه من الآن فصاعداً هو أسئلة من قبيل علاقة هذا النص بالجمهور، أو قدرته على البقاء والمواصلة، أو في مرجعياته العراقية، أو لغته وبنيانه، وأخيراً في قدرته على أن يكون ممثلنا أمام شعوب العالم وثقافتاته.

كهف لم يكتشف بعد
للشاعر عباس خضر نظرة مغايرة عن الشعرية العراقية عموماً وقصيدة النثر بشكل خاص، فهو ينظر إلى الشعر العراقي من خلال تجارب مفردة من دون تشكيل هوية متكاملة يعرّف بها نفسه للعالم:

عباس خضر: قصيدة النثر العراقية تحتفي كثيرا ببيان أولي لشاعر ولا نعرف سبب هذا الاحتفاء، الذي من المفروض ان يكون مجرد احتفاء بالنص الذي يشير له البيان وليس لمحتوى البيان بحد ذاته، إن الأمر هنا يبدو مثل فعل سعادة طفل بعلبة الهدية وليس بالهدية نفسها. في هذه البيانات يتحدث بعض الشعراء عن فتوحات شعرية قادمة، و لكن عندما نقرأ المنتج الشعري لصاحب البيان نصاب بحيرة حقيقية، فلا نصدق أن صاحب البيان النثري، الذي لا يخلو بيانه من شعرية/ أدبية سردية، هو نفسه صاحب النص الشعري المصاب بورم المفاصل... على أرض الواقع وبعيدا عن البيانات التي تشبه بيانات الحكومات العربية في لهجتها الثورية، نجد أن قصيدة النثر العراقية والعربية تسير عموما في اتجاهين: الأول، قصيدة نثرية ولكن بروح مقفاة وموزونة ومصابة بمختلف الزحاف، وتحمل في داخلها الكثير من قيم ومضامين القصيدة الخليلية، وبالذات مديح الطغاة وتمجيد للحروب. والثاني قصيدة تحاول الخروج من هذه العلل ولكن كثرة ممثليها، وبالذات من صنعتهم مصانع صناعة الأدب المؤسساتي، وكذلك توافد الحالمون بلقب شاعر، الذي يكاد أن يكون مرضاً عند البعض وخصوصاً لدى أهل الصحافة، جلب على هذا الشكل وهذه الروح الوبال، والسبب عدم قدرة هؤلاء على الاستمرار في مواجهة النبذ والتهميش الشعبي والاكاديمي الذي تعيشه هذه القصيدة أو لضعف امكاناتهم وأدواتهم الشعرية. ولكن على الرغم من ذلك حاول بعضهم تقديم محاولات بلاغية جديدة، ولكن نصوصهم في عمومها كانت تفتقد للأهم وهي الجمالية الأدبية/ الشعرية. فنجد في أحيان كثيرة تراكيب غريبة وعجيبة مثل quot;أنف العطاس، وفم اللسان، وشحرورة المخ... وألخquot; تراكيب أثقلت النص لعدم توافقها مع كتلة النص بأكمله. فالتصور الشكلاني الثمانيني في العراق مثلاً، ولعدم قدرته على ملامسة الواقع بسبب ظروف الدكتاتورية، نجده كان ينظر للصورة الشعرية الخالصة على أنها الأهم في عملية الخلق الشعري، وهذا شيء رائع! ولكن، في الواقع كان يميل هذا النص للتراكيب الغرائبية، التي أعتقد الشاعر يومها أنها هي العنصر الاهم (التغريب) الذي مجدته الشكلانية الروسية. الكثيرون من شعراء النص الثمانيي نسوا أن التغريب يرتبط أصلاً بعملية الخلق كعنصر اغترابي أو بنية اغترابية أو مدى فعاليته في سياق ما، وليس مجرد تركيب بين كلمتين لأجل ايجاد تركيب غرائبي لا أكثر، وهذا بالذات، حول الكثير من نصوصهم إلى طلاسم، نحرت الصورة الشعرية نفسها على دكة المضاف والمضاف إليه.
أما بالنسبة للرواد، فيشن أحدهم على سبيل الذكر في بيان شعري حرباً على الشاعر العربي عموماً، الذي- كما يقول- أنه يكتب قصيدة نثر حديثة، ولكنه يحمل ذات المضامين التي جاءت بها القصيدة الموزونة. وفي هذا لدى هذا الشاعر الحق تماماً . ففي جزء كبير من الشعر العربي ما زالت الروح تهيم في خيام الصحراء وولائم الأمير، ولكنه في بيانه وفي كتاباته حول الحداثة الشعرية يكتب لنا نثراً مشحوناً بشعرية وأدبية ممتعة ولكنه من جانب آخر، لم يقدم لنا في الحقيقة، باستثناء القليل، غير نصوص شعرية بسيطة.
هذه البيانات والنصوص تضعنا أمام واحدة من العلل، وهي أن التنظير في هذه الحالة قد سبق النص، وحتى لو جاء النص مطابقاً للتنظير، فهو قد تم اعداده ليناسب القالب المعد سلفاً. فكلما جاءت سيرة قصيدة النثر، نجد سارة برنار وبحثها quot;قصيدة النثر من بودلير إلى أيامناquot; أمامنا وكأنه الكتاب المقدس لدى البعض، بعضهم يحاول أن يجعله المرجع الاساسي لكل ما يكتب، وينسى الكثيرون أن هذا البحث وملامح القصيدة التي جاءت بها سارة برنار، جاءت بعد دراسة طويلة وعريضة للنص الأوربي وبالذات الفرنسي نفسه، أي أن النص هنا قد سبق التنظير. ولكن، مثل هكذا دراسة تعتمد في الأصل على النص في انطلاقها لدراسة شكل وملامح هذه القصيدة عراقيا أو عربياً ما زال في عالم الغيب. لكن اشكاليات قصيدة النثر هي أكثر من هذا، فهنالك مشكلة المصطلح وهناك مشكلة مرجعية هذا النص، وعلاقته بالنص الاوروبي وجمالياته. وخصوصاً أن الأوروبي لديه رحلة وتاريخ وواقع يختلف تماماً. علم البلاغة الأوروبي ليس هو ذاته العربي، فالآخر لديه أكثر من شكل ونظرية في هذا العلم، والحديث يكثر عن بلاغة قديمة وحديثة ومودرن. هذا إضافة لفن الشعر ونظرياته، وكذلك الشعرية وتحولاتها ونظرياتها، والنقد ومناهج التحليل الأدبي والنظرية الأدبية وتاريخها المتشعب... والأهم من ذلك أن موضوعة quot;قصيدة النثرquot; ومشكلات هذا الشكل لم تعد بمشكلة قائمة، فمنتج هذه القصيدة أصبح لديه مكانه في المناهج المدرسية والجامعية وهذا ما يفتقد إليه العراقي والعربي عموماً. فهل من الضروري حقاً، الحديث عن أهمية مطابقة قصيدة النثر العراقية مثلاً للنموذج الفرنسي؟ ومن هنا يأتي الجواب على سؤال quot;كيف تكتب قصيدة النثر العراقيةquot;، أن بعض قصائد النثر العراقية لم تستسلم للتقفية الروحية وللقالب الأوروبي، والمرجعية الانشائية للبيانات، وتسير اليوم في تشكيل جمالياتها الخاصة، وهذا نجده كذلك لدى بعض الشعراء العرب. ولكن أن عدم وجود دراسات اكاديمية عربية لهذا الشكل من الكتابة، جعل الكثير من هذه المحاولات والعراقية بالذات تعيش حالة من العزلة القاتلة. هذا الشكل وهذه الروح التي تخالف المرجعيات نجدها لدى أكثر من شاعر، ونجدها كذلك تختلف شكلاً ومضموناً من شاعر لآخر. أن غياب الدراسات الاكاديمية وبقاء دراسة قصيدة النثر في عالم الكتابة النقدية الصحفية وكذلك عدم وجود أرضية شعبية، التي من المفترض أن تعدها للقراءة والفهم والبحث المدارس والجامعات، وليس الشعراء، جعل مشاكل قصيدة النثر ترتبط بمشاكل أخرى عامة، منها الأمية وسيطرة الشفاهية على الحياة العربية. هذا علاوة على طبيعة الإعلام العربي وتقاليده، فهذا الاعلام يرتبط كذلك بمؤسسات أغلبها حكومية وحزبية، وهذه في طبيعتها تحاول أن تلعب على السائد، لجمع القطيع حولها، لهذا نسمع كل يوم عن فرسان وقادة وزعماء وفحول في الشعر كما هو الحال في البوادي والصحارى. وهنالك شعراء يقدمون على أنهم الأفضل والأعظم، ولكن ليس لهم من الشعر إلا النتف، وهنالك صحفيون ورؤساء تحرير صفحات ثقافية اشتهروا كشعراء ولكن القراء يعرفونهم من خلال المقال لا أكثر. فالشعر العراقي مثلاً في أغلبه، تحدده ظروف لا دخل لها بجمال النص أو موهبة الشاعر بقدر ما تحدده علاقات ومناصب ووظائف ومؤسسات حكومية وصداقات بين هذا وذاك. فما أكثر ما يُكتب وما يُمجد ومن يصيح في المعمورة بأنه الشاعر الأشعر وذاك الشاعر الأمرد، ولكن ما أقل الشعر!
أين هو الشعر من كل هذا؟ أن القصيدة الرائعة موجودة والشاعر الموهوب موجود في الساحة العراقية. ولكن المشكلة، كما قلنا، ليست في هذا الشاعر وفي نصه إنما في الظروف الثقافية والسياسية والاجتماعية العربية التي تحيط به وبنصه quot;فكل ما حول الشعر يبدو كئيبا مخيباًquot; كما قال قسطنطين كافافي. وعلى الرغم من ذلك، فان بعض شعراء قصيدة النثر العراقية هنا وهناك، يكتبون قصيدتهم بروح وبشكل مغاير وكأنهم حملة النار المقدسة، ويدركون تماماً، ما قاله شاعر quot;النثر المركزquot; حسين مردان قبل عقود:
أنت هنا فوق الصخر
فاذهب: فلم يزل في أعماق الغابات المظلمة
كهف لم يكتشف بعد.

إشكاليات نقدية
الشاعر عبد الستار جبر، ينظر لهذه المسألة من وجهة نظر نقدية، خصوصاً وأنه يعد من النقاد الشباب الذي جربوا الكتابة في العديد من التصنيفات الأدبية، لهذا نراه يسحب سؤالنا إلى مفترقات نقدية وتاريخية، لتجنيس أو تبويب ما يسمى بقصيدة نثر عراقية خالصة:


عبدالستار جبر:
الحديث عن قصيدة النثر العراقية تحديداً يحيلنا إلى عدد من التجارب الكتابية في هذا الشكل الشعري الجديد، إذ لا يمكننا الاشارة إلى أنموذج محدد بعينه للقول انه يمثل الانموذج الاكثر انتشاراً وتداولاً على بوصفه قصيدة النثر العراقية، ولا أبالغ إذا ما قلت اننا امام اسماء او اجيال اكثر منها شكلا رسمياً يختزل خصائص محددة تعبر عن أدبية قصيدة النثر وشكلها، يستطيع الباحث والقارئ على السواء الركون الى انموذجها السائد بين الشعراء المعاصرين، وكأننا امام قصائد نثر شخصية، بمعنى انها لم تتحول الى اتجاه شكلي ذي خصائص محددة يلتزم بها من يسعى للكتابة فيها... فهي حصيلة تلقٍّ وفهم يمكن تسميته بالمفتوح او المائع لهذا الشكل الجديد، وكأنها فهمت بوصفها نصاً شعرياً ناقصاً، لكونه تحرر من قيدي الوزن والقافية، وكأنها quot;نيكاتيف القصيدة العموديةquot; وحتى التفعيلة من قصائد ما سمي بالشعر الحر، محتفظة بالشكل الكتابي لقصيدة التفعيلة (والتي خرقته في تجارب حسبت على تاريخها فيما بعد)، فهي القصيدة الحديثة التي تخلصت من الاثار التقليدية في كتابة الشعر العربي القديم (العمود) والمعاصر (التفعيلة)، هكذا فهمت، وهنا تكمن الاشكالية النقدية والسجالية التي رافقت ولادتها وما زالت، إذ إن السؤال النقدي الشائع الذي ما زال يطرح بشأنها هو ذلك المتعلق بمقارنتها مع القصيدة العمودية والتفعيلة في تاريخ الادب العربي وليس بمقارنتها مع قصيدة النثر الغربية (الاوربية او الاميركية)، ذلك ان قصيدة النثر العراقية تحديداً كانت مرجعيتها قصيدة النثر العربية وليس الغربية، مع الارهاصات الاولى لنماذج ادونيس وانسي الحاج من روادها، وكذلك الحال بالنسبة لقصيدة النثر العربية فقد خلقت لنفسها شكلا مختلفا بعيداً عن النماذج السائدة والمعروفة من قصائد النثر العالمية ولا سيما الاوربية، وتحديداً الفرنسية، فهي قصيدة متحررة (وهنا في معنى التحرر بعد سياسي اجتماعي نفسي للانسان العربي المقهور والرازح تحت قمع انواع مختلفة من السلطة، أسهم في تكوين وولادة هذه القصيدة، فهي نص جديد يمكن الشاعر من التخلص من هيمنة القصيدة التقليدية المرتبطة بهذه السلط) فلم يكن شعراء قصيدة النثر العرب معنيون كثيرا بخصائص أسلوبية عرفت بها قصيدة النثر العالمية كالايجاز والكثافة واللا غرضية كما ذكرتها وناقشتها سوزان برنار بالتفصيل في كتابها quot;قصيدة النثر من بودلير حتى ايامناquot; الذي عد انجيل شعراء قصيدة النثر الغربية، لكنه لم يكن كذلك بالنسبة لشعراء قصيدة النثر العربية الذين اطلعوا عليه في تسعينيات القرن المنصرم، أي بعد مرور ما يزيد عن ثلاثين عاماً من ولادة هذه القصيدة في تاريخ الشعر العربي الحديث. ما يبدو مهما بالنسبة لقصيدة النثر العراقية والعربية الان هو ان تعيد التفكير في جوهرها الادبي كشكل شعري او نثري جديد في اطار علاقتها الذاتية (العربية مع العمود والتفعيلة) والغيرية (الغربية مع قصيدة النثر الغربية) على ان لا يثار في اطار الشرعية الوجودية لها فهي قد اصبح لها وجود يراد له ان يكون في الهامش وعليه ان يصبح جزءاً من المتن، إذا ما استطاعت ان تنجح في اعادة التفكير بمساعدة النقد الذي يجب أن ينهض بمراجعة شاملة لمنجزها وتقييم تجربتها التاريخية.

البحث عن التسمية لا عن الشعرية
ويرى أحمد سعداوي أننا أهدرنا الكثير من الوقت عن اشكالية قصيدة النثر وكيفية تسمية النثر بالقصيدة، من دون ان ننجز نموذجاً متكاملاً يحسب لنا:


أحمد سعداوي:
قصيدة النثر العربية، والعراقية ارتبطت حالها حال الرواية، والكثير من التمثلات الحداثية للاجناس الابداعية المختلفة، بجملة من المحددات التاريخية، شكلت في النهاية روحية هذه الاجناس (ومنها قصيدة النثر) ودمغتها بطابع خاص، على الرغم من وفودها على الثقافة العربية، منجزاً وتنظيراً من الاخر الغربي وثقافته.
وارتبطت قصيدة النثر العربية والعراقية بأفق معرفي محدد ميزها عن افق قصيدة التفعيلة، يتعدا التحديد الشكلي الذي يميز بين القصيدتين، فقصيدة النثر العربية لم تكن ملتزمة بسياق النمو الشكلي والرؤيوي لمثيلاتها في الثقافتين الانكليزية والفرنسية، قدر ارتباطها بالحاجة التعبيرية والافق المعرفي للشعر العربي في مرحلة من مراحل تطوره وتشكله.
ولكن طابع الثقافة العربية خلق لهذه القصيدة مشاكل هي ليست مشاكل بنيوية فيها، بقدر ما هي مشاكل الثقافة نفسها التي انزرعت قصيدة النثر بين ظهرانيها. فدارت رحى الاسئلة حول الحدود الشكلية لقصيدة النثر، والتقاليد المحددة لإبداعية قصيدة النثر. وما المعيار النقدي والفني الذي تقاس عليه مفهومات التجاوز والتخطي الجمالي والرؤيوي لهذه القصيدة، وإذا كانت قصيدة النثر شكلاً مفتوحاً على التحول والتجاوز الدائم، فأين يقع شاعر النثر في النمطية ومتى يتخلص منها. وغيرها من الاسئلة.
أرى شخصياً، ان مخاض الاسئلة الكلية ذات الاطار الواسع حول قصيدة النثر عراقياً، ساهم في حرق الكثير من المراحل باتجاه روح قصيدة النثر، للكتابة انطلاقاً من هذه الروح. واعني بذلك، ان حضور قصيدة النثر عراقياً كان دائماً امام قصيدة التفعيلة، وكان جزءاً كبيراً من الجدل حول الشعر، هو جدل بين التفعيليين والنثريين، نقاداً وشعراء. والجزء الاخر من الجدل، هو جدل داخلي، اي داخل الجماعات المتبنية لقصيدة النثر، والامكانات التي يثار حولها السؤال دائماً عن القطع مع قصيدة النثر الادونيسية والماغوطية، او قصيدة النثر الستينية العراقية والسبيعينية والثمانينية والتسعينية.
ولكي لا اطيل، اقول بأن هذا الجدل اضمحل الان داخل العراق، لأسباب كثيرة يطول تفصيلها، ولكنه (وهذه المفارقة) يبدو انه يجري الان لصالح قصيدة النثر نفسها، القصيدة التي تكتب من دون اشتراطات شكلية مسبقة، سوى رهان كاتبها على حيازة جوهر ولبِّ الشعر، وارى ان وعي هذه الحقيقة، خارج مدار الجدل والسجال الشكلي والتبريري (تبرير شرعية قصيدة النثر) ارى انه وحده من يقربنا من معنى وفاعلية قصيدة النثر العربية الان.

بعد هذه الآراء ما زلنا بحاجة إلى تدوين اصيل وتأسيس حقيقي لقصيدة نثر خاصة بنا نحن العراقيين، لأننا أول من بدأ الحداثة الشعرية العربية، بدءاً من روفائيل بطي والرصافي ونازك الملائكة والسياب مروراً بالخمسينيين والستينيين الذي خرجوا بالأدب العراقي من ارتباطه العميق بالشعرية العربية القديمة إلى آفاق ما زالت واضحة حتى الآن، بل وتدفع بالوعي الشعري إلى أفق غير منتهٍ.