ملاحظات على الشعر العراقي المعاصر

laquo;ماذا يفعل الشاعر وكيف يتعامل من الوضع البشري؟ ما هو التاريخ بالنسبة له؟ هل يمكنه أن يرى كل هذا ويسمع جميع هذه الأصوات المسحوقة ولا يستجيب؟ ولكن كيف يستجيب؟ هناك الشاعر الذي يتشبث بايديولوجيا معينة تسمح له بأن ينفث بضعة أبيات تعبر عن موقف مسبق يتكفل به الحزب الذي ينتمي اليه وهناك الشاعر الذي له قضية سياسية ينظر من خلال تعاليمها الى هذا المشهد الانساني المريع، ولكن هناك في الطرف الأقصى الشاعر الذي لا ينتمي الى حزب ولا يعتنق أية قضية سياسية، يواجه العصر بكامله من خلال انتمائه الانساني المحض، هذا هو الشاعر الوحيد الذي يستطيع أن يعطينا شهادة حقيقية عن نفسه وعصره ومستقبل العالم وفاجعته hellip;quot; سركون بولص من حوار أجراه معه هادي الحسيني

1- هل هذه مشكلتي وحدي التي أطرحها هنا، أم انها مشكلة الشعر العراقي المعاصر كله منذ الثورة التجديدية التي قام بها شعراؤنا الذين اصطلحنا على تسميتهم بالرواد في نهاية الأربعينات من القرن الماضي؟ كم أشعر بالأسى والتعاسة عندما أرى في رفوف المكتبات في بغداد وعمان وسواهما من العواصم العربية الأخرى، أعمال الكثير من الشعراء العرب تطبع مراراً، وبعض هذه الأعمال أقل ما يقال عنها انها رديئة ولا تستحق القراءة ولا أرى أعمال الشعراء العراقيين الأكثر ابداعاً وحداثة وأصالة. أمامي الآن قوائم أعددتها منذ فترة تضم أسماء الشعراء الذين ظهروا في العراق خلال العهود الخمسة الماضية، وكلما تأملت في الأسماء والنتاجات التي أصدرتها. أشعر بحسرة كبيرة للارث الذي يكاد يذهب هدراً من جراء حالات الاقصاء والتغييب المستمرة والمدمرة التي تهيمن منذ عهود طويلة في أوساطنا الشعرية والثقافية بسبب النظريات والمفاهيم النقدية المشوهة والقاصرة التي أوجدتها القوى الايديولوجية والسلطات التي تعاقبت على حكم العراق، وهي كلها ذات توجهات وأبعاد غريبة عن جوهر الابداع. تقوم نزعاتها الدوغمائية والطائفية على اقصاء جهود وابداع الآخرين الذين تتعارض طروحاتهم وأهدافهم الابداعية مع فهمها القاصر للابداع. متوهمة في الآخر أنه عدو خطر وشرير يجب قتله معنوياً وازاحته وتغييبه من الواجهة الثقافية طالما انه لا يسير وفق طروحاتها وتوجهاتها القائمة، وقد تعودنا في العراق أن تظهر وفق هذه المفاهيم الايديولوجية في كل عقد مجموعة كبيرة من الشعراء شأنها شأن انقلاباتنا العسكرية الدموية. يطلق عليها النقد المتهافت مصطلح laquo;جيلraquo; حتى أصبح لدينا الآن جيل الخمسينات وجيل الستينات وجيل السبعينات وجيل الثمانينات وجيل التسعينات، والنقد المتنطع يشحذ أسلحته الآن بانتظار ظهور الجيل القادم المزعوم ليذبح طموحاته المشروعة في الابداع والمغايرة والتجريب قبل أن تولد وتترسخ في أرض الواقع الذي يلتهب بهذه المفاهيم الايديولوجية، وكل جيل من هذه الأجيال يلغي الجيل الذي سبقه في الظهور من خلال نزعة فاشستية مترسخة منذ زمن طويل في واقعنا الثقافي العراقي ومهاترات صبيانية وادعاءات فارغة يقوم بها الشعراء والنقاد على حد سواء. وهذا عائد باعتقادي الى غياب التقاليد الثقافية الرصينة منذ نهاية الخمسينات بسبب سياسات الأحزاب والسلطات الحاكمة معاً، وهذا الاقصاء والالغاء في الواقع الشعري والثقافي يشبه من وجوه عديدة انقلاباتنا العسكرية، فكلما تأتي مجموعة من المغامرين العسكريين الى الحكم تسندها دباباتها وعشائرها ومجازرها. تبدأ فور اعلان بيانها الأول الذي يعد الشعب الجائع والمحبط بالرفاهية والحرية والتعددية والمشاركة في الحكم، بتغيير النشيد الوطني وألوان العلم العراقي والعيد الوطني للبلاد. ألا تذكرنا هذه الحالة بمحنة السياب النفسية التي سببت موته عندما أنهى علاقته بالحزب الشيوعي وراح يكتب من باب النكاية قصائد قومية عن وهران وبور سعيد والمغرب العربي؟ وعندما تم ابراز البياتي بعد الفراغ الذي تركه السياب من الحزب وسلطت الأضواء عليه راح يكتب قصائد عن برلين وموسكو وعمال بولونيا والأممية قبل أن يفقد وظيفته في السفارة العراقية في موسكو ويذهب للاستقرار في القاهرة بناء على دعوة من جمال عبد الناصر ليكتب بعد ذلك قصيدته laquo;الى جمال عبد الناصر الانسانraquo; متخلياً عن هجائه القديم له.

2- أشعر بالغثيان دائما كلما تذكرت laquo;ملتقى شعراء السبعيناتraquo; الذي أقامته مجلة الطليعة الأدبية التي تصدرها وزارة الثقافة و الاعلام عام 1978 وتمت فيه دعوة 12 شاعراً فقط ليمثلوا جيلهم. لماذا؟ لأن الوزارة العتيدة تعتقد أن الآخرين ينتمون أو يتعاطفون ايديولوجياً ومعرفياً مع جهات أخرى خارج فلك السلطة، وهكذا تتم عملية الاقصاء والتعتيم حتى لا تظهر السلطة الحاكمة فقيرة ابداعياً بشعرائها الذين كرستهم وأغدقت عليهم العطايا السخية ورسختهم من خلال وسائل اعلامها الكثيرة ومهرجاناتها ووظائفها واصداراتها. من ناحية ثانية، ينطبق نفس الشيء على الجانب الآخر الايديولوجي أيضاً ولو بدرجات متفاوتة فردياً وحزبياً، ولو نظرنا الى ما فعله سامي مهدي في بداية التسعينات رداً على كتاب عبد القادر الجنابي: laquo;انفرادات، الشعر الستيني في العراقraquo; في كتابه laquo;الموجة الصاخبة، شعر الستينات في العراقraquo; نجد انه جعل من نفسه الشاعر الطليعي الوحيد، رداً على عبد القادر الجنابي الذي أتهمه بالمحافظة وعدم التجديد في هذا الجيل. وادعى سامي انه كان يبذل الجهود الخارقة في المغامرة والحساسية الشعرية الجديدة وحاول أن يقصي جميع شعراء الستينات ويجردهم من أي انجاز وابداع، وبالمقابل فعل فاضل العزاوي ما فعله سامي مهدي في كتابه laquo;الروح الحية، جيل الستينات في العراقraquo; حيث جعل من نفسه العراب الأوحد أيضاً لجيل الستينات في الابداع والتجريب وراح يفتخر بقصيدته العصماء laquo;القصيدة تأكل نفسهاraquo; وهي مأخوذة من الشاعر التركي ناظم حكمت حيث يقول في قصيدته المكتوبة في الثلاثينات من القرن الماضي laquo;بحر الخزرraquo;:
الفرسان الفرسان ذوو الخيول الحمراء
خيولهم ذوات أجنحة من الريح
خيولهم ذوات أجنحة من
خيولهم ذوات أجنحة
خيولهم ذوات
خيولهم
خيول.
وليراجع القارئ مقدمة المجلد الأول من أعمال ناظم حكمت، ترجمة فاضل لقمان، اصدار دار الفارابي 1979 وهنا أثبت شهادة لشاعر مبدع وأصيل من جيل الستينات حول هذه الظاهرة الغريبة هو سركون بولص حيث يقول في حوار أجراه معه الشاعر هادي الحسيني ونشر في صحيفة laquo;الرأيraquo; الأردنية وأعادت نشره صحيفة laquo;ثقافة 11} العدد 18 والصادرة في 1/ 1 / 1998ما يلي: quot;أصواتنا نحن الستينيين لا تكتفي بأن تقدم مجرد قصيدة يتملاها القارئ، وانما نطمح الى يصطدم ذلك القارئ بفجيعة الواقع، أي أن نكتب قصيدة في عالم مشحون بالتناقضات والجنون والرعب والاحتقار والتدمير، هذه هي بيضة العنقاء التي أفرخها الغضب في العراق، والبقية تاريخ موجود مكتوب بشكل سيئ لأن من هيمن على تقديم هذا التاريخ كانوا بضعة أشخاص لهم انتماءات ضيقة وأنوات نرجسية متضخمة لا تصلح لأن تبوئهم تلك المكانة، سامي مهدي أولهم، وثانيهم فاضل العزاوي، هذا الثنائي الذي ينبغي تزويجه في زفة صاخبة والتخلص منهما ليتفرغ شعراء آخرون جديرون بهذه المهمة لتسجيل وقائع هذا التاريخ بشكل صادقquot;.
لقد كان العزاوي في laquo;الروح الحيةraquo; يطلق التهم جزافاً وقد ادعى ان حسب الشيخ جعفر كان يمدح صدام حسين كلما احتاج الى المال، وهذا غير صحيح طبعاً وأقصى بالتالي جهود الكثير من أبناء جيله ليتربع هو وحده على عرش الستينات. وهل ننسى الانطولوجيات البائسة التي صدرت في العراق خلال السبعينات وحملت عناوين فضفاضة كتلك التي حررها علي العلاق وحملت عنوان laquo;مختارات من شعراء الطليعةraquo; وضمت قصائد رديئة لشعراء يتغنون بأمجاد الأمة والمشروعات القومية والنضال ضد الاستعمار والامبريالية مع اننا كنا مستعمرين من قبل مغول الداخل الأكثر تخلفا ودموية من كل استعمار في العالم، وكذلك انطولوجيا منذر الجبوري quot;مختارات من الشعر العراقي المعاصرquot; التي ضمت قصائد بائسة وهزيلة لأبواق السلطة ممن مجدوا سياساتها وشعاراتها القومية الزائفة، وكذلك انطولوجيا طراد الكبيسي فقد كانت فقيرة من حيث الحصيلة الابداعية الى حد كبير، لأنها ضمت قصائد تحكمها رؤية ايديولوجية معينة تنظر الى الابداع من زاوية الحدث الضيق والزائل، وقد أقصى فيها الكثير من الشعراء المبدعين، وحسنا فعل سعدي يوسف عندما أسقط من الطبعة الأخيرة لأعماله التي صدرت عن دار laquo;المدىraquo; المقدمة التي كتبها طراد الكبيسي الذي يعتبر أبرز ناقد ايديولوجي واكب خطوات جيل الستينات، وقد أصدر العديد من الكتب عنه، نذكر منها laquo;شجر الغابة الحجريraquo; و {الغابة والفصولraquo;. يكتب في مقدمته لأعمال سعدي يوسف في القسم الثاني منها laquo;كان الشعب بقواه الوطنية وجماهيره وأدبائه يخوض نضالاً مريراً ضد الاستعمار والحكومات الرجعية العميلة والاقطاع والتخلف الثقافي وسيطرة الفكر اليميني والغيبي يوم بدأ سعدي يكتب الشعر أو يحسب انه يكتب الشعر، وكانت الحركة الشعرية الجديدة في بداياتها تكافح هي الأخرى وسط تيارات تقليدية وعقلية سلفية ترى في كل جديد خطراً عليها كوجود معنوي مرتبط بمصالح مادية استغلالية لا انسانية، ولعله كان من حسن حظ هذه الحركة النامية الجديدة انها لم توجد وسط خصوم أقوياء سياسياً وفكرياً بل وجدت وسط أصدقاء أقوياء أيضاً، فقد كانت الحركة الوطنية ملتهبة والقضايا الجماهيرية ملتهبة هي الأخرى. الثورة تنضج، والحاجة الى تجديد أساليب الكفاح والتعبير قولاً وفعلاً ملحةraquo;، لنتساءل هنا. ما علاقة هذا التنظير الذي كان شائعاً في الأدبيات الحزبية بالعملية الابداعية في تجربة سعدي يوسف الذي شيد عمارته العالية من خلال المعرفة العميقة والرؤية الجمالية والابداعية للعالم؟ لكننا سنتعرف على الجواب عندما نعرف ان الكبيسي كان قد أصدر عام 1986 كتاباً بعنوان laquo;التجربة الخلاقة، قراءة في فكر الرئيس القائد صدام حسينraquo; والتجربة الخلاقة كتاب للبروفيسور مورا ترجمته من الانجليزية الى العربية الشاعرة المرحومة سلافة حجاوي وصدر ببغداد في طبعتين. يتحدث فيه مورا عبر دراسة مستفيضة وممتعة عن تجارب ثمانية شعراء من العالم أعطوا الحداثة زخماً كبيراً في القرن العشرين منهم اليوت، لوركا، كافافي، رفائيل البيرتي، المفارقة الواضحة هنا أن الكبيسي يتحدث عن الفكر الغيبي واليميني في سنوات الخمسينات ويكتب في الثمانينات عن فكر صدام حسين واشراقاته الفلسفية المزعومة، وبعد هل نذكر كتاب الدكتور محسن الموسوي laquo;كشف المضامين البورجوازية في الشعرraquo; الذي يبدو انه قد تخلى عنه الآن ولم يعد يذكره في قائمة مؤلفاته النقدية، حيث يؤكد فيه أن اليوت وسان جون بيرس وسواهما من شعراء العالم الكبار لا تجب قراءتهم لأن شعرهم يحتوي على مضامين بورجوازية مدانة، ولست أدري لماذا تدان المضامين البورجوازية في الشعر اذا صحت هذه الفرضية. ثم ما علاقة شعر هؤلاء العمالقة الذي استبطنوا محنة الوجود والانسان في العالم بهذا الحكي؟ كان هذا الكتاب والكتب الأخرى التي على شاكلته هي التي تنظر لشعرنا في سنوات السبعينات عندما كانت تدوخ رؤوسنا شعارات ومفاهيم laquo;الواقعية الاشتراكية والالتزام والبعد القوميraquo; يا للمفارقة.

3- هناك شعراء في العراق غادروا عالمنا منذ ما يربو على الثلاثين عاماً وبقيت أعمالهم الأكثر أهمية من أعمال الكثيرين من الشعراء العرب، مبعثرة ومعتماً عليهاً ولم تكلف أية جهة نفسها عناء جمعها واصدارها بما يليق. ألا يحق لنا الآن أن نتساءل عن أعمال حسين مردان ورشدي العامل وعبد الأمير الحصيري وحافظ جميل وعبد القادر رشيد الناصري ورشيد مجيد وعبد القادر العزاوي. لا مؤسسة ولا جهة ما تكلف نفسها مهمة اعداد ونشر أعمال هؤلاء الشعراء باعتبارها ارثاً ثقافياً وروحياً. وحدها أعمال عبد الرزاق عبد الواحد ومحمد حسين آل ياسين وكمال الحديثي وعلي الياسري شعراء laquo;أم المهالكraquo; بمراسيم جمهورية كذلك أعمال الشعراء العرب الذين مجدوا حروبنا المشؤومة من مصريين وخليجيين ومغاربة ومغتربين في أمريكا وكندا والبرازيل، تطبع في طبعات أنيقة وبالألوف وعلى ورق ملون مع انها ليس فيها ما يستحق حتى مجرد تصفحها، وحالة الاقصاء هذه في ثقافتنا وشعرنا جعلت الشعر والشاعر ينكمشان على نفسيهما، بل أن البعض ودع الشعر نهائياً بعد أن كرس له حياة كاملة بسبب التهميش والحصار الثقافي والمعنوي والقهر المستمر، ان لم يكن السجن والنفي وبالتالي لم يعد العراق الشاعر ينتج بعد الرواد وسعدي يوسف سوى شعراء بلا شعر اذا استثنينا بعض المواهب القليلة والكبيرة، جيل يلغي، وجيل يهمش ويعتم على ابداعات وانجازات جيل، لا تطورات طبيعيية ومعرفية تتراكم باستمرار، ولا اندفاعات شعرية تجدد ولا ثورة حقيقية تنسف المفاهيم التي رسخها جيل الرواد الذي انشغل بأساطيره و رموزه واسقاطاته التاريخية على واقعنا المتردي، وغنائيته وتهويماته التي ما عادت تهم أحداً، وهكذا تربع روادنا على عرش laquo;الشعراء الكبار العظامraquo;. من المسؤول عن حالة الاقصاء والتهميش هذه التي نعاني منها؟ انه النقد المتهافت والمتحجر الذي يدوس في كل لحظة على ابداعات الشعراء الذين ظهروا لاحقاً واجترحوا المفاهيم والحساسية الشعرية الجديدة والمغايرة، وكانت مكافأتهم هي التقزيم والتعتيم والنفي في الداخل والخارج، وهكذا أصبح البعض لا يسير إلاّ على عكازات بسبب اليأس والاحباط المستمرين، وانتقلت هذه العدوى الينا نحن شعراء الثمانينات بسبب المفاهيم الايديولوجية التي كانت مهيمنة على شعرنا عند الكثير من الشعراء والنقاد، فذهبنا نحارب بضراوة ضد هذه الظاهرة وضد كل ما يدمر مشروعاتنا الشعرية والمعرفية laquo;وأستثني هنا الشعراء الذين كرستهم دوائر اعلام السلطة ليمجدوا حربها المشؤومة مع ايران وطبعت مجموعاتهم وسلمتهم وظائف في الصحف والمنتديات الدعائية الأخرىraquo; لأننا كنا قد شهدنا ولادة عبقريات شعرية كبيرة خارج خارطة الشعر العراقي وشهدنا كذلك المناخ الكئيب وجو الاحتضار الذي فرض خمودا ته على وسطنا الشعري في هذه الفترة بسبب المكائد السياسية والمذابح الفاشية التي هيمنت على حياة الشارع العراقي، وأكبر دليل يمكنني أن أقدمه هنا هو خفوت حماسات شعراء السبعينات باستثناء بعض المواهب التي واصلت مشوار الابداع الى الآن، وتراجع عطاء مجمل شعراء الستينات اذا استثنينا أيضا بعض المواهب المعروفة بانجازاتها الساحرة، ومن أجل فهم أكثر لهذه الظاهرة المؤسفة أقدم هنا مقتطفات من شهادة للشاعر حميد العقابي وهو شاعر بدأ الكتابة في منتصف السبعينات وغادر العراق مبكراً الى المنفى حيث يقول: laquo;جيل من الشباب بدأ الكتابة في النصف الثاني من السبعينات ولم ينشر داخل العراق سوى بضع قصائد ولكن الأحداث قد أنضجته وقد نشأ بحساسية تختلف عن حساسية شعراء بداية العقد الذين فرضوا على الساحة الأدبية العراقية ولما يكملوا عدتهم الفنية بعد، أقول laquo;فرضواraquo; لأسباب سياسية محضة ناتجة عن المزايدة ما بين طرفي التحالف المتناقض ما بين الأحزاب السياسية في فترة السبعينات وكذلك laquo;باتفاق غير معلنraquo; على دفن المشروع الستيني المتمرد والذي كان بامكانه أن يحدث ثورة شعرية حقيقية في الشعر العراقي laquo;بل اجتماعية عامةraquo; لو فسح له المجال، فكان نتيجة لهذا الاجهاض ان مثل السبعينات جيل كسيح من الأسماء المحسوبة على هذا الحزب أو ذاك. عقد من الصراخ الايديولوجي كان ضحيته الشاب الذي فتح عينيه فلم يجد غير اتجاهين ثقافيين لا ثالث لهما، حيث تم اقصاء ما استطاع أن ينجزه جيل الستينات وتم اغلاق مجلتين قدمتا الكثير أو كادتا وهما laquo;شعر 69 / والكلمةraquo; ومنع دخول أغلب المجلات التي تصدر في القاهرة وبيروت ودمشق، فصار الكتاب الصادر عن دار نشر عربية غير منحازة لهذين الاتجاهين منشوراً سرياً تتداوله الأيدي سراً خشية كاتبي التقارير، وتكاد مكتبات بغداد تخلو من الكتب المترجمة باستثناء ما يصدر عن وزارة الإعلام وما تصدره {دار التقدم السوفيتي} من ترجمات لروايات ساذجة، أقول من فتح عينيه في بدأ السبعينات لم يجد أمامه غير أكداس من شعر المناسبات والشعارات الضحلة، فذلك الذي laquo;لا يعشق امرأة لا ينبع من عينيها النفطraquo; وهذا الذي يترنم ب laquo;بين المطرقة والسندان - يولد في العمل الانسانraquo; وبرغبة من ينفض عنه غبار الماضي بتجربته الطاعنة في الفشل راح الشاب المشتعل بهوس الابداع يقرأ ما حرم منه طيلة السنوات الماضية فكان laquo;واقعية بلا ضفافraquo; بديلاً عن laquo;الماركسية والمرتد غار وديraquo; وجاء النفري وبن الفارض وبورخس ومندلشتام وبرودسكي وسان جون بيرس ليزيلوا صدأ الروح الذي خلفته المفاهيم البسيطة التي جعلت من ناظم حكمت وتفاؤله الثوري مقياسا وحيدا للشعرraquo;. ولم أكن أنا أو سواي من شعراء الثمانينات الذين دافعنا عن الرؤيا والكتابة والحساسية الجديدة على توافق تام أو حتى تقبل أي نتاج يقدمه لنا شعراء الستينات والسبعينات laquo;باستثناء بعض الأسماء المعروفةraquo; الذين انشغل القسم الأكبر منهم بموضوعات لا تقدم للشعر شيئاً، وهنا قد يعتقد البعض ممن تعوزه شمس العقل، ان ظروف الحرب التي قلبت الكثير من الموازين الأدبية وغيرت في بنية المجتمع ودرجات التذوق هي السبب المباشر في رفضنا للارث السابق. كلا أن الحرب قد رسخت من خلال ماكينات اعلامها الضخمة ومهرجاناتها الصاخبة، وأعطت زخماً ودفعاً لا محدوداً للأشكال الجاهزة وأعادت الحياة الى نماذج ماتت وانقرضت منذ قرون مثل الرجز والموشح والبند. لقد كنا نرفض النتاجات السابقة قبل عام 1980 وكانت مبررات رفضنا في البداية لا تتعدى سوى وظيفة الشعر ودوره في العالم والصلة بالتراث الذي كان يطرح كمفهوم ايديولوجي والانفتاح على ثقافات غير الثقافات الوجودية والقومية والماركسية التي هضمها ونادى بها شعراء الستينات والسبعينات، لكن أساليب الوصايا الفجة والتهميش الذي مورس ضد مشروعاتنا الشعرية التي تبنيناها وخاصة مشروع قصيدة النثر التي كانت ممنوعة منعاً باتاً، جعلتنا نتطرف ونذهب في المغامرة الى عوالم بعيدة لم تألفها أدوات ومصطلحات النقاد التي ذبلت وماتت بسبب ايديولوجيتها التي ذبحتها المؤامرات السياسية الدائمة، وعدم تجديد نفسها ومواكبتها التطورات الحاصلة في الحساسية الشعرية الجديدة. لقد كنا وما زلنا نواصل البحث المضني عن الخارق والمطلق والجوهر الأصيل للشعر الذي أضاعه أو فرط فيه أصحاب المواهب الضعيفة ممن ركبوا الأمواج الايديولوجية من أجل تثبيت كيانات اجتماعية لهم على حساب الابداع وجذوة الشعر المضيئة دائماً، ومما يلفت النظر في أغلب تجارب شعراء الثمانينات هو أن نتاجا تهم كثيرة التوغل في laquo;المسائل الوجودية التي لها صلة بالحياة والموت والطفولة والحب والصيرورةraquo; عكس الشعر الآخر الذي هو مجاز جماهيري حسب تعبير فان تيغيم، ولئن وصل هؤلاء الشعراء إلى هذه النتيجة، فأن فعلهم الابداعي هو أنهم لجئوا الى جوهر الشعر وحده واتخذوه أداة تعبير عن أحلامهم وطموحاتهم المشروعة بعيدا عن الوهم الايديولوجي المتعصب. وبعيداً عن المفاهيم الدوغمائية التي كانت تسد أمامنا طرق الابداع. أود أن أعلن عن ايماننا العالي في الشعر الحقيقي، أليس الشعر كما تقول اندريه شديد: laquo;حركة لا نهاية لها، طريق نعود اليه بمعابره التي يلتقي فيها الحلم بالعادي، المدرك واللامرئيraquo; لن يوصلنا الشعر كما يعتقد البعض الى البستان الخالي من الظلال ولاالى الفجر الدائم، لكن في ذلك خلاصنا. ما الذي يمنعنا من الذهاب الى الينابيع القصية على حد تعبير اندريه شديد أيضاً؟ هل نتعاطف مع الذين أساءوا الينا أو غدروا بنا من خلال تعصبهم ورؤاهم التي لا ترى من العالم إلاّ غابة تتصارع فيها الايديولوجيات فقط، ولا يميزون بين وهم الايديولوجيا ووهم الشعر الذي هو طريق لا يعرف الوقوف وعطش دائم له صفة النسمة التي تهب، سريع العطب، لكنه معلق دائماً عبر جباهنا؟.