في ذكراه الحادية عشر

في الخمسينات من القرن الماضي تميزت حركات التحرر الوطني في العالم العربي باندفاعات شعبية رومانسية كان في مقدمة اهدافها الاستقلال الوطني ولكن على حساب الاهداف الرئيسية للتحرر الوطني كالتعددية السياسية واطلاق الحريات العامة واحترام حقوق الانسان. ان اجهاض الحركة الديمقراطية البرلمانية التي كانت ناقصة اساسا، والحجر على الحريات العامة وتأميم الصحافة واستبدال الديمقراطية بشعار quot;العدالة الاجتماعيةquot; و quot;الاشتراكية العربيةquot;، وتطور جهاز الدولة وبخاصة الامن والمخابرات ، على حساب ضمور الطبقات الاجتماعية وبخاصة الطبقة الوسطى النامية ، التي من المفروض ان تحمل على اكتافها الاصلاح والتحديث والتقدم الاجتماعي، حول الدولة العربية quot;الثوريةquot; الى دولة استبدادية ابوية قمعية. وهذا لا يعود الى استبداد الدولة التي لم تكتمل ويتم نضجها فحسب ، بل الى العقلية العربية الماضوية والثقافة البدوية التغالبية والتفكير والسلوك الفردي وليس الجمعي ، وهو ما وقف حجر عثرة امام الاصلاح والتحديث والتقدم الاجتماعي.

وكان عالم الاجتماع العراقي علي الوردي (1913 (1995.7.13-اشار في كتبه العديدة الى المعوقات التي تقف امام تطبيق الديمقراطية ، وبخاصة في العراق، مؤكدا بانه لا يستطيع فهم هذه الظاهرة الاجتماعية الجديرة بالاهتمام ما لم يستقرء الاحداث التاريخية والاجتماعية والسياسية التي مرت على العراق خلال القرون الماضية، التي تركت بصماتها على شخصية الفرد العراقي وعلى طرائق تفكيره وسلوكه وما اكتسبه من قيم واعراف وعصبيات عشائرية، تتناقض مع القيم الحضرية والاسلامية وقيم المجتمع المدني. ولهذا اصبحت شخصية الفرد العراقي مزدوجة ، فالفرد العراقي بدوي شديد الإباء، سريع الغضب من جهة، حضري خاضع وكثير الشكوى والتذمر والعتاب من جهة اخرى. وهو يتخذ اية واحدة من هاتين الشخصيتين تبعا للظروف المحيطة به، ولذلك نراه يسلك سلوك البدوي الغالب مرة او سلوك الحضري المغلوب مرة اخرى. وان هذا التعارض في السلوك لا يظهر الا في مواقف الافراد. فحين يسلك الفرد وفق القيم القبلية يعتقد بان سلوكه هذا لا يتنافى مع القيم الحضرية، وهذا ما يولد عنده تناشزا اجتماعيا، ويثير توترات اجتماعية وسياسية تزيد من حدة الوعي السياسي والنزعة الجدلية التي ورثها العراقيون عن اسلافهم في العصر العباسي وكذلك عن طريق التنشئة الاجتماعية التقليدية والاندفاع العاطفي وراء الشعارات السياسية الفارغة، التي تختفي ورائها quot;شخصية زقاقيةquot; لا تكاد تمس بعض اوتارها الحساسة حتى تنتفض وتتحول الى quot;أسد ضارquot; او شقي من الاشقياء. وقد انطبق الحال على مرحلة الستينات التي اعقبت ثورة 14 تموز 1958 التي يمكن مقارنتها بالمرحلة التي مر بها العراق في صدر الاسلام التي جعلت نزعة الجدل في العراق موطن المعارضة الاسلامية، وفي ذات الوقت، quot;موطن الشقاق والنفاقquot;، وهو ما جعل العراقيين حتى اليوم متفرقي الرأي ومنشقين على انفسهم، مما يسمح بظهور من نسميهم بـ quot;الغوغاءquot;، الذين ظهروا بعد ثورة تموز وكذلك بعد سقوط النظام الدكتاتوري المزاح، الذين ملأوا الشوارع والساحات بالفوضى والعنف والنهب والتدمير التي طالت المدن الكبرى.
ويرجع الوردي هذه الظواهر الى الفجوة بين الشعب والحكومة واستبداد الحكام وظلمهم وعدم تطور رأي عام يراقب الحكام ويحاسبهم على تجاوزاتهم، وفي ذات الوقت، كان كثير من الناس يعتبرون الحكام اسيادا يجب تقديم الطاعة والخضوع لهم. واذا ما قام احد الحكام المستبدين باي عمل نافع اعتبروه مكرمة quot;من السيد الرئيسquot; وليس واجبا مفروضا عليه.
بدأت بعض التغيرات الفكرية والاجتماعية التي حركت الاذهان من مرحلة اللاوعي الى مرحلة الوعي الديني السياسي منذ بداية القرن الماضي، وبخاصة بعد قيام حركتي quot;المشروطيةquot; التي طالبت باعلان الدستور و quot;المستبدةquot; التي ايدت الحاكم المستبد. وقد انقسم العراقيون الى مؤيد للمشروطية، او مدافع عن المستبدة. وكان اغلب العامة من الناس من انصار المستبدة يؤيدون الحاكم المستبد، في حين وقف بعض علماء الدين المنورين والافندية وبعض التجار مع المشروطية، اي مع حكومة مشروطة بدستور. كما اثرت الحركات السياسية في كل من تركيا وايران ومصر في اذكاء الوعي السياسي وتحريكه.
وعندما احتل الانكليز العراق عام 1917 قامت حركة مقاومة واسعة ضدهم توجت بثورة العشرين التي تعتبر من اهم الاحداث السياسية في تاريخ العراق الحديث، التي علمت العراقيين لاول مرة quot;معنى حب الوطنquot;. وقد حاول الحكم الوطني ارساء دعائم اول دولة عصرية، غير ان الملك فيصل الاول شكا من ان ما تملكه العشائر من سلاح هو عشرة اضعاف ما تملكه الدولة الجديدة، وهو ما دفع الى تأسيس جيش قوي يستطيع السيطرة على العشائر العراقية واخضاعها لسلطة الدولة. ولكن عندما قويت شوكة الجيش العراقي توالت الانقلابات العسكرية واستمرت حتى ثورة 14 تموز 1958 quot; التي quot;نبشت ما كان مدفونا في المجتمع العراقي من صراعات وتناقضاتquot;. واذا اعطت الثورة كثيرا من الدروس للعراقيين، فانها اخذت منهم كثيرا من التضحيات.
لقد تميزت تلك الفترة quot;بحماس جمعي quot;. وبالرغم من ان حماس الجماهير هو وقود التاريخ، الا ان الحماس لوحده، كما يقول الوردي، لا يكفي لنجاح الشعوب في مضمار التقدم الاجتماعي، اذ لا بد وان يرافق الحماس دقة في النظر والموضوعية. quot;ففي مثل هذه المرحلة المتأزمة من تاريخنا نحن بامس الحاجة الى التوازن بين دافع الحماس ودافع الموضوعية، فليس من الخير ان يسود الحماس على تفكيرنا دوما ، كما انه ليس من الخير ان تخلو قلوبنا من الحماسquot;.
كما لاحظ الوردي، بان النزاعات التي ظهرت بعد ثورة تموز كانت مصبوغة بطلاء من الشعارات والمبادئ الحديثة، مع العلم ان العراقي كان ما يزال يحمل في اعماقه قيما وتقاليد وعصبيات عشائرية وانه غير قادر على التخلص منها بسهولة، فاذا سنحت له الفرصة فانه يعود الى جذوره العشائرية فيندفع ويتظاهر ويتحمس، مثلما كان يفعل في quot; هوساته العشائرية quot;. وكان بعض السياسيين والمتعلمين يشجعونه على اندفاعاته ويثيرون فيه قيم البداوة ، كالعصبية والتغالب. وقد شهدت شوارع بغداد فورة من الحماس والتظاهرات وهي تهتف بالسلام، ولكنها كانت في ذات الوقت مشحونة بالعنف تهدد من لا يؤيدها. وهذا السلوك له دلالة على هذا التطرف والازدواجية في الشخصية.

ان الصراع والتنازع بين الناس يتم في المجتمعات المتقدمة على اساس الاحترام المتبادل وعدم فرض الرأي على الآخر بالقوة. وهذا يعود في الاساس الى النظام الديمقراطي ، الذي اعتاد فيه الافراد ممارسته الديمقراطية جيلا بعد جيل حتى اصبحت جزءا من تقاليدهم الاجتماعية والثقافية والسياسية التي يمارسونها في بيوتهم ومدارسهم ومؤسساتهم وندواتهم الثقافية. اما في العراق، فما زال العراقيون يعيشون في وضع فكري واجتماعي كانت اوربا قد عاشته قبل قرنين تقريبا. فالعراقي لا يستسيغ ان يرى احدا يخالفه في رأي او عقيدة ولا يفهم هذه الحقيقة ولا يريد فهمها والاعتراف بها، ولهذا نجده ميال الى الاعتداء على من يخلفه في الرأي او في العقيدة، ويظن انه على صواب وغيره على خطأ.
ولكن كيف الخروج من هذا المأزق الحرج؟!
يجيب الوردي ، بان المجتمع العراقي ما يزال متعدد الاثنيات والاديان والطوائف وتاريخه متشابك مع دول الجوار المختلفة في ثقافاتها، وان الاتصال بين الريف والمدينة هو اتصال قبلي وريفي وطائفي، وهو ما يؤثر على الحياة الاجتماعية والثقافية والسياسية في العراق ويحدث خللا وتناشزا اجتماعيا، يحتاج الى دراسة وتحليل ومعالجة حتى يتم بناء الحياة الوطنية على اسس سليمة وذلك عن طريق الدراسة والتخطيط والمعالجة الموضوعية وبمشاركة جميع القوميات والاديان والطوائف. وعلينا قبل كل شيء اصلاح الاذهان قبل بدء الاصلاح الاجتماعي في البلاد، لان التجارب القاسية التي مر بها الشعب العراقي علمته دروسا عديدة وبليغة، فاذا هو لم يتعظ بها فسوف يصاب بتجارب اقسى منها. وعلى العراقيين التعود على ممارسة الديمقراطية ممارسة فعلية حتى تتيح لهم حرية ابداء الرأي والحوار والتفاهم، دون محاباة ودون ان تفرض فئة او طائفة رأيها بالقوة على الفئات والطوائف الاخرى. ولا ينكر الوردي الصعوبات والعوائق التي تقف امام تحقيق الديمقراطية وممارسة الحرية وما يصاحبها من فوضى وصخب وعنف، فليس بمقدور العراقيين ان يتحولوا بين ليلة وضحاها الى شعب يحترم الرأي والرأي الآخر ويتبادل الحوار ويمارس الديمقراطية. ومن المؤكد انه يحتاج الى زمن يستطيع فيه ممارسة الديمقراطية مرة بعد اخرى، وهو في كل مرة سيكون اكثر مقدرة وكفاءة وتعودا على ممارستها. فالديمقراطية كما يقول الوردي، ليست فكرة مجردة يمكن ان نتعلمها في المدارس او التي نقرأها في الكتب والجرائد او تلقى في الخطب الرنانه، وانما هي ممارسة عملية من الممكن ان نتعلمها بالتدريج. واذا بقينا نتظاهر بها قولا ولا نمارسها فعلا، فسوف نبقى كما كنا يتغالب بعضنا على بعض!
كما يقول الوردي، ان الشعب العراقي منقسم على نفسه وفيه من الصراع القبلي والقومي والطائفي اكثر من اي بلد آخر، وليس هناك من طريق لعلاج هذا الانقسام سوى تطبيق النظام الديمقراطي، الذي يتيح لكل فئة منه ان تشارك في الحكم حسب نسبتها العددية، وعلى العراقيين ان يعتبروا من تجاربهم الماضية، ولو فلتت هذه الفرصة من ايدينا لضاعت منا امدا طويلا.!
لقد صدق الوردي، فان ما قاله قبل نصف قرن تقريبا ينطبق اليوم بشكل او آخر، على ما يمر به العراق اليوم وهو يقف في مفترق الطريق، وليس امامه سوى ممارسة الديمقراطية.