عندما أقبلت مع الشاعرين حمزة حمامجي وإسماعيل إبراهيم اللذين كانا قد اعتادا زيارتك، نطرق بابك في مساء تشريني عام 1969، كنت على مقاعد الدراسة الثانوية، أكتب في اليوم الواحد أكثر من قصة في دفتري الخاص. كنت في تلك السن المبكرة من حياتي مهووسا بالقصة، وكنت أتابع كل ما ينشر لك في المجلات العراقية واللبنانية.
في ذلك المساء كنت أحمل دفتري العتيد بعد ان نصحني حمزة بذلك. رحبت بنا بوجه بشوش مثل معلم طيب القلب يقابل تلاميذه.تحدثت إلينا بمودة ودفء. بعد فترة غادرت الغرفة ثم عدت إليها وأنت تحمل صينية عليها أكواب نسكافي بالحليب، ولم أكن قد تذوقته من قبل. لم يكن اسمي غريبا على مسامعك فقد كنت قد نشرت بعض المحاولات القصصية التي لم تنضج هنا وهناك. مددت إليك دفتري باستحياء بعد إلحاح من زميلي العزيزين، وكانت معظم القصص فيها قصيرة لا تتجاوز الصفحتين أو ثلاث صفحات. انشغلت فترة بقراءة نصين أو ثلاث أتناء الجلسة ثم رفعت عينيك محدقا وقلت بحزم:
ـ هذه ليست قصص.. وإنما خواطر وتعبيرات إنشائية!
وقع رأيك علي كالصاعقة. كيف أكون صفرا على الشمال في القصة التي أقدسها وأكتبها بكل جوارحي، واقضي ساعات طويلة من يومي بعيدا عن العالم الخارجي متنزها في عوالم القصة والرواية لكتاب عظام. قلت لك كنوع من الاحتجاج على رأيك الحازم:
ـ لكن جميع الذين يطلعون على هذه القصص من زملائي يبدون إعجابهم بها.
وهنا قلت لي كلاما كالحكمة لا يقوله إلا كاهن:
ـ ذلك لأنهم أقل موهبة وثقافة منك!
ثم بدأت وبكل تواضع تقرأ لنا آخر ما كتبت قصة (اكس ديوس ماشينا). استمعت إليك بانبهار حقيقي، وأثارني تواضعك الجم معنا، ومعاملتك الودية والجدية لنا، وكأننا كتاب ولسنا مراهقين، نحبو في عالم الأدب.
غادرنا بيتك وبدأ صديقاي يهونان من وقع رأيك علي، بعد ان لاحظا تأثري الشديد بما قلت. كانت الأيام المقبلة لي أيام نقد ذاتي قاسي لما اكتب. قرأت ماكان يحويه دفتري من نصوص مثنى وثلاث ورباع. أحسست فعلا انها اقرب إلى خواطر مبثوثة هنا وهناك، يعوزها العمق والبناء القصصي المحبوك. كان رأيك القاسي حافزا كبيرا لي لكي أبدء من جديد، بداية حقيقية تعتمد على المطالعات النوعية المعمقة، واستخلاص روح القصة الحقيقية من النصوص القصصية.
لم يكن قد مضى وقت طويل على لقائنا الأول، كتبت قصة تختلف تماما عن كل ما كتبت عنوانها (والى النهر يعود الإنسان)، بعثتها إليك مع صديق. لم يردني أية ملاحظات منك كما كنت آمل. ولأنني كنت مصمما أن استمع إلى رأيك النهائي، فقد زرتك في مساء آخر بمفردي. قابلتني بنفس الود والوجه البشوش. كنت إنسانا ودودا ورائعا ومبدعا لم يعرف الغرور والتكبر طريقه إلى سلوكك الراقي مع الآخرين. وقد ظللت تحتضن جميع من مروا على بابك من هواة الأدب في كركوك وما أكثرهم.. ليقرأوا في حضورك، وكنت تتحملهم بصبر أيوبي. لم تكن تجامل أحدا منهم على حساب الإبداع، فالقصة كانت عالمك الذي لا يجوز فيه المجاملة على الإطلاق.
وجدتك تقول لي:
ـ قرأت قصتك الأخيرة كانت رائعة.. ودعني أعلن لك عن استغرابي ودهشتي لقدرتك على تطوير نفسك خلال هذه الفترة القصيرة.. لقد كتبت رائي حولها في صفحة كاملة وأعطيتها لصديقك الذي حمل القصة لي على أمل إيصالها إليك.
عندما ذكرت لك بأنني لم استلمها ابتسمت ابتسامة لها مغزى وقلت:
ـ آه.. انها الغيرة!
خلال سنوات دراستي في تركيا، تبادلنا الرسائل. أجريت معك لقاءا وترجمت قصتك (اكس ديوس ماشينا) إلى اللغة التركية، وقد نشرت في مجلة (وارليق ـ الوجود) التي كانت تعتبر أهم المجلات الأدبية آنذاك وأطولها عمرا، وتخصص بعض صفحاتها للتعريف بالأدب الأجنبي ونصوصه، ولا تزال مستمرة في الصدور. وقد بعثت نسخة من المجلة إليك. بعد سنوات التقيت مع يشار نابي رئيس تحرير المجلة المذكورة، في مؤتمر المجمع اللغوي التركي بأنقرة عام 1977، والذي استضاف عددا كبيرا من الوجوه الثقافية. بعد عرفت نفسي لرئيس التحرير، قال: آه.. تذكرتك! ما أخبار صاحبك جليل القيسي كاتب القصة الجميلة (اكس ديوس ماشينا)؟
لقد تذكرك يشار نابي رغم عمره المتقدم وتذكر قصتك، وكنت لحظتها قطعا في صومعتك تستمع إلى ـ كانتات ـ باخ العظيم، ليظل حلمك في وهجه، وعزلتك محفوفة بالأميرات وفتيات مجدولات بالضوء.. ولا اخفي عليك وكما قلت لك في أحد لقاءاتنا بكركوك فيما بعد، بأنني شعرت باعتزاز بالغ لتذكر يشار نابي لقصتك واسمك، وكأنه يتذكرني أنا، ويثني على قصة من قصصي أنا .
أثناء زيارتي لكركوك في العطلة الصيفية، كنت أزورك دائما في دائرة المنتوجات النفطية التابعة لشركة نفط الشمال. في كل زيارة، كنت أجدك في غرفة جديدة. في مرة وجدتك في غرفة صغيرة ملاصقة لغرفة المدير تحت سلم يؤدي إلى طابق أعلى. كنت متذمرا ومنفعلا وأنت تقول لي:
ـ تصور ان المدير الغبي يثيره ويزعجه أن أطالع كتابا في الساعات التي تخفت فيها وتيرة العمل..لقد خصص لي هذه الغرفة لأكون قريبا مني، ليطل بين لحظة وأخرى علي بحجج واهية ليتأكد هل أطبق تعليماته أو ليداهمني بالجرم المشهود وأنا أطالع كتابا أثناء الدوام الرسمي!
في مساء ما دعوتني مع الأخ محمد إسماعيل، الذي غادر العراق في فترة مبكرة، إلى منزلك كان مساءا بهيجا وجميلا. طلبت مني أن اغني لك أغنية تركية، فغنيت لك وسط آهات التشجيع أغنية (بو آقشام دولاشتيم بوتون ميخانه لريني استانبولون ـ في هذا المساء تجولت كل حانات استانبول).
في مساء آخر كنا في شقة الأخ محمد إسماعيل مع مجموعة من أدباء كركوك، دار حديث حام عن المبدعين الكبار أمثال: غوغول، ديستوفسكي، همنغواي وجون شتاينبك. انبريت تتحدث عن شتاينبك بإعجاب مؤكدا ان أعماله كعناقيد الغضب والبشر والفئران هي أعمال خالدة. هنا لم يتحمل احد الجالسين تقييمك لشتاينبك وصرخ بانفعال:
ـ كيف تثني على كاتب عنصري، أيد حرب ابادة الشعب الفيتنامي؟!
تكهرب الجو وترك صاحبنا الشقة محتجا. كنا جميعا إلى جانبك في ضرورة عدم الخلط بين إبداع الكاتب وفكره السياسي. فليس من معنى للإشادة دائما وفي كل الأحوال بكاتب او شاعر لمجرد انه ينتمي إلى جهة سياسية نتعاطف معها، وبالضد أن نستنزل اللعنات على كاتب رغم إبداعه، لمجرد ان ليس على نفس الخط السياسي الذي نؤيده، فالنص أولا وأخيرا هو الحكم على إبداع الكاتب والشاعر، وليس انتماءه السياسي.
تجلى وفاؤك في زيارة بيتنا في غرفة خلال سنوات دراستي والسؤال عن أخباري، واستعارتك بعض الكتب من مكتبتي. وكان لرواية (البؤساء) بترجمتها الكاملة المؤلفة من ثلاثة أجزاء حظا أوفر في الاستعارة. كنت تعود إلى طلبها مني فيما بعد، لأنك كما قلت كنت تكتشف عند كل قراءة عوالم جديدة فيها.
لم يخلق حبك للعزلة من اجل الإبداع ومواصلة فعل الكتابة، ميلا عندك للنفور من البشر كما قد يعتقد البعض، بل كنت ودودا وطيب القلب حتى مع العامة التي كنت تلتقي بهم إثناء تجوالك في شوارع كركوك، تبادلهم التحايا باعذب العبارات. وعلى العموم كنت متحدثا لبقا، تمتاز بالحضور الدافيء
خلال أية جلسة. في جلسة من هذه الجلسات التي اقتصرت علينا نحن الاثنين تحدثت بمودة عن لقائك بعد سنوات في كركوك مع الشاعر سركون بولص الذي زارك في بيتك وحدثتني متذمرا كيف ان سكرة جان دمو أفسد عليك حلاوة اللقاء مع صديق عمرك. وذكرت لي انك أعطيته بعض النصوص الشعرية للشاعرين حمزة حمامجي وإسماعيل إبراهيم، اللذين رغم موهبتيهما الملفتة للنظر، والتي يعرفها عنهما معظم أدباء كركوك، لكنهما ظلا بعيدين عن أي اهتمام بهما وبنتاجاتهما، طالبا من سركون بولص العمل على نشر تلك النصوص في بعض المجلات التي تصدر خارج العراق. لم تكن تألوا جهدا للوقوف إلى جانب أصحاب المواهب الحقيقية، التي كنت تمهد أمامها الطريق، بنقدك غير المجامل للارتقاء بها إلى مستوى النضج.
كنت تشعر بالمرارة من موقف بعض من لجاؤا إليك وطرقوا بابك، مغدقين عليك المديح والإطراء، وهو موقف اقل ما يقال عنه انه موقف غير ودي، يهدف للتقليل من شأنك واحاطة محمود الجنداري بهالة من التقديس وتسويقه في جلساتهم المسائية في نادي الفنانين بكركوك كمنافس لك. وكان الجنداري قد انتقل للإقامة في كركوك بهدف الحصول على 10 آلاف دينار وقطعة ارض وقرض مصرفي لبناء دار سكنية، وهي امتيازات خصصها النظام السابق للوافدين إلى كركوك من المحافظات الأخرى، ضمن حملة تعريب مدينة كركوك. ولم ألتق به إلا مرتين، الأولى عند وجودي في النادي مع مجموعة من الأصدقاء، حيث اقترب مني شقيقي الذي كان يشرف على إدارة النادي، قائلا ان الجنداري يود التعرف عليك، ثم أقبل أحد الأصدقاء من الذين كانوا معه على نفس المائدة مجددا رغبة الجنداري. تعرفت عليه وتحدثنا عن القصص المنشورة في العدد الخاص بالقصة العراقية لمجلة الأقلام. لم اطل الجلوس معه، تحدثنا عن الأدب التركي، وقال انه سمع بالروائي التركي يشار كمال، ولم يقرأ له شيئا، فقلت ان لدي نسخة من روايته (اينجه ممد ـ محمد النحيل)، وسأبعثها له من اربيل (مكان عملي).
بعد مدة زرت كركوك، والتقيت كالعادة بأصدقائي في نادي الفنانين، وجلست معهم على مائدة مزدحمة. رأيت الجنداري يجلس منزويا مع شخص آخر..اقتربت منه محييا، فإذا به يقابلني بوجه عابس قائلا:
ـ العفو عندي خطار (ضيف)!
قلت له:
ـ لم آت للجلوس معك فمعي دائما والحمدلله (جوكة) من الأصدقاء والأحباء..وددت فقط سؤالك فيما إذا كنت قد استلمت رواية يشار كمال التي بعثتها إليك مع صديق أم لا؟ عمت مساء!
في هذه اللحظة تذكرتك، وعلمت مرة أخرى كم كنت متواضعا وأصيلا مع كل محب للأدب يطرق باب صومعتك!
أقول الحق لم أجدك يوما تتحدث عن كاتب بسوء، ولم أجدك يوما تستجدي أحدا (حاشاك) ان يكتب عن عمل من أعمالك كما كان يفعل ذلك غيرك. حاولت عدة مرات أن نلتقي معا في نادي الفنانين، وكنت في كل مرة تسألني: هل هم هناك؟ وكانوا دائما هناك..كنت لا تفضل أن لاتراهم بل كنت تفضل البقاء في صومعتك لتتأمل لوحة (جسر كورييفوا) لجورج بيسارو ولوحة بوشيه عن الإله (زيوس).
اضطررت إلى مغادرة العراق دون ان أودعك لكنك كعادتك كنت تسأل شقيقي عن أخباري، وكم تأثرت عندما نقل لي مرة أثناء حضورك احتفالية الشاعر قحطان الهرمزي انك قلت له quot; لو ان نصرت لم يسافر إلى تركيا ولم يتغرب لسنوات، وواصل نشر أعماله هنا، لكان له شان آخر في القصة العراقية quot;.
كان هذا أعظم إطراء في حياتي الأدبية الخالية من الثناء والمديح، واعتبرته وساما اعتز به طوال عمري لأنه ممنوح لي من أمير وسيد القصة العربية، وهذا يكفيني.
عندما قرأت قبل فترة في (إيلاف) خبر معالجتك في أنقرة، خابرت معارفي هناك للاطمئنان عليك باعتبارك قيمة حضارية وإنسانية وإبداعية، لكنني لم أتلق منهم أي رد.
في قصة (فتاة مجدولة بالضوء) تبدو وكأنك تتحدث عن حياتك اليومية بعد التقاعد quot;..منذ إحالتي على التقاعد قبل زهاء أربع سنوات، وأنا أعيش في بيت صغير في حارة تقع في ظاهر المدينة..بيت فيه ثلاث غرف، وصالون، وأشغل في هذا البيت الصامت صمت الدير أكبر الغرف، وأعيش عزلة صماء، أقرأ، وأكتب، وأدون أحلامي، واستمع إلى الموسيقى، وأتذكر أصدقاء أعزاء، وصديقات كنت أحبهن ذات يوم..quot;.
يقول كازنتزاكي quot; حياتنا ومضة سريعة لكنها كافية quot;.. لقد عشت كمثقف راق، مترفعا عن صغائر الحياة وتفاهة تفهائها، لم تبع قلمك كالآخرين في المهرجانات الرسمية ومسابقات قصص حرب قادسية صدام، عشت في هذه الدنيا وسط الخراب والدمار في زمن النظام السابق وبعده في زمن عصيب، مرتبطا ومحبا للحياة التي يحتاج حبها إلى شجاعة كبيرة. عشت في هذه الدنيا، وخلقت فيها صومعتك وديرك. ماذا كنت ستجد في الخارج غير الثرثرة والنفاق والتقارير السرية والموت اليومي المجاني.
عشت صامتا عن صغائر الحياة، ألست أنت القائل (الصمت يحتاج إلى موهبة كبيرة)؟
عشت متطلعا نحو نيران باباكركر أقدم فنار في التاريخ لإرشاد الضائعين إلى كركوك.
ظللت متطلعا إلى السلام وسكينة الروح، لذلك فلم يكن غريبا ان يستضيفك في بابل (مملكة الانعكاسات الضوئية) كبير الآلهة مردوخ، وان يقول لك الإله شازو:
ـ يا ضيفنا المحترم جليل القيسي عند الفجر سيكون أول لقاء لك مع هيراقلطيس..
ولم تجد إلا أن تقول له بلهفة:
ـ هل عم السلام العالم؟