قراءة في مقال الدكتور فالح عبد الجبار
عاش الشاعر محمد مهدي الجواهري قرناً من الزمان هو القرن العشرين، فقد ولد في أواخر القرن التاسع عشر أو بدايات القرن العشرين على أكثر الروايات، وعاش حتى منتصف تسعيناته، وقدم خلال هذا القرن للعربية ثروة شعرية ولغوية كبيرة. وقد تصدى لشعر الجواهري في حياته ثلاثة من أهم أساتذة العربية في العراق لتحقيق ديوانه وهم الدكاترة إبراهيم السامرائي ومهدي المخزومي وعلي جواد الطاهر رغم أن الشاعر لم يدرس سوى دراسة دينية تمرد عليها فيما بعد. طالما انتظر عشاق شعره أن تجمع قصائده وتدرس والأهم من ذلك أنهم كانوا بانتظار أن يدون مذكراته بنفسه قبل رحيله، وظل الشاعر متردداً في تلبية هذا الأمر حتى منتصف الثمانينات حين قرر الجواهري تدوين تاريخه الشخصي الذي يمثل تاريخاً للعراق السياسي والاجتماعي، وهكذا بدأ تدوين تلك المذكرات وقد شارف على التسعين او نحوها.
أغلب الظن أن رفض الجواهري لكتابة مذكراته إنما يتأتى من عشقه للحياة، فيما تمثل كتابة المذكرات الوصية الأخيرة للفرد، إنها ببساطة الاعتراف بالنهاية وتوديع مسرات الحياة، في وقت كان يدرك أنه ما زال لديه متسع من الوقت ليشاكس هذه الحياة ويعكر صفوها بصموده الطويل، غير أن لكل شئ نهاية، وهكذا كتب مذكراته بعد إلحاح محبيه، ولم يلجأ لأسلوب تقليدي في ذلك وإنما مارس تفرده.
سطر الجواهري في حديث متواصل متدفق يحمل في ثناياه روح شعره وسحر شخصيته ولهجته النجفية الأخاذة، سجل الجواهري ذكرياته على اشرطة فيديو وهو في براغ، وانصاع وقلما يفعل ذلك الى نصيحة الأقرباء ndash; ربما لحاجة فنية- في ان يرتب الذكريات على أساس الترتيب الحقبي أو العقدي ndash; كل عشر سنوات- فأفقد بذلك المذكرات روح التمرد المنتظرة فيما يقول، حين وافق طوعاً على تدوين تاريخه الطويل شفاهاً ملتزماً بالتقويم الزمني.
يروي المقربون من الشاعر لصاً تشيكياً سطا على الاشرطة والكاميرا في شقة الجواهري في براغ، فاضطر الشاعر الى ان يعيد الكرّة، مسجلا ذكرياته بلغة محكية (العامية العراقية المفصّحة) على اشرطة تسجيل صوتي هذه المرة.
وفي دمشق، المقر الثاني لاقامة الجواهري، تطوع عراقيون منفيون مثله، لتفريغ النص الصوتي على الورق خلال عامي 1984 و1985. أما صوغ النص مجددا في قالب لغة عربية فصحى، فأسند الى متطوعين كان الدكتور فالح عبد الجبار أحدهم وهو الذي يروي ذلك، وممن ساهم في التحرير، التراثي الراحل هادي العلوي، والكاتب زهير الجزائري، وآخرون. وتكفل د. فالح بتحرير او اعداد جلّ النص، بينما تولى الشاعر عبد الكريم كاصد الاشراف اللغوي على عموم المذكرات بجزئيها. الذي يعترف أن عملية التحرير منهكة وإنه واجه عدة صعوبات في عمله في اخراج النص المحكي من أسر ثلاثة قيود.
يقول د. فالح عبد الجبار لقد تمثّل القيد الأول في محاولة تحويل النص المحكي بما يحمله من نظم الاشارات والمعاني والدلالات، رغم تداخل القول المحكي مع النص المكتوب غير أن هناك انفصالاً بين الأثنين يتمثل في نبرة صوت الجواهري المنبثقة من ثقافة متنوعة عميقة الى لغة الايماء، التي يبرع بها الجواهري ، فمن ارتفاع سبابة، الى التواء شفة، الى تقطيبة حاجب، فهزّ منكب، فضلاً عما تحمله اللغة المحكية من خصوصية تفقد بعضاً منها في التدوين فهي تحوي رموزاً ، وعلامات، وبناءات خاصة لعلاقات الدال بالمدلول، الشائكة، أي العصية على كل غريب عن البيئة الثقافية، سواء كانت هذه البيئة ضيقة (مدينة، او فئة اجتماعية) ام واسعة (بلد، فترة تاريخية)، كما يقول الدكتور فالح ، ثم يردف : حاولت في ثنايا التحرير، ان اخرج من هذا القفص، قدر الممكن، بالتماس الجواهري نفسه، ايضاحا، واستزادة، او ايغالا في بعض التفاصيل. وكنت أرى، في مجرى هذا التوغل، وجود نص وراء النص، عالما كاملا يفترض المؤلف ان وجوده quot;تحصيل حاصلquot;، فهو مشترك ثقافي، ماثل في المخيلة الجمعية، دون ان يفطن (كما يحصل عادة) الى الفارق الزمني (الاجيال) او الثقافي، أي وجود متلق لا يعرف الدلالات إما بحكم وقوعه خارج حقل الزمان او حقل المكان المشترك.
القيد الآخر الذي وضعه الجواهري في طريق مدوني مذكراته هو هذا التحقيب الومني الذي أشرنا إليه وهو ما يفقد بعضاً من التلقائية في التدوين، فالجواهري الذي عرف بذاكرة عجيبة حتى وفاته أسهم هذا التحقيب في تشظية الصورة التي يود نقلها لاصطدامها بالتقسيم العشري، وبعد أن سرد الجواهري مذكراته على هذا المنوال لم يعد بالإمكان صياغتها على نسق آخر كما هو الحال في نماذج السير الموجودة، فقد كانت هذه النماذج تعتمد إما على التداعي الحر، ذلك التطواف الطليق في الزمن المفعم بالتأمل الفلسفي (مالرو، روسو)، او السرد التسجيلي الروائي (نيرودا)، او مزيج البحث الادبي والبوح الذاتي (همنغواي) او التأمل الانساني في العصر والابداع الادبي (ديستويفسكي)، او الرواية التسجيلية الموثقة (زفايج) كما يقول د. فالح عبد الجبار.
لقد وقع الجواهري أسير تقسيماته العشرية، وظل أسير بلاغته التي اعتادت كثافة الشعر، فضلاً عن ابتعاده عن السرد المعاصر وسط عالمه الشعري الثر ، وما يؤكد ذلك نصه النثري الوحيد (quot;على قارعة الطريقquot;) رغم اعجاب الصديق الدكتور عبد الحسين شعبان حين سألته مرة عن نثر الجواهري فرد سريعاً هذا جانب مهم لم يتصد أحد لدراسته بعد.
القيد الآخر الذي تصورت أن الجواهري سيتجاوزه لكنه وقع في أسره كما هو الحال عندنا جميعاً ذلك هو البعد الاجتماعي والفكري المرتبط بالحرية المفقودة التي أدت الى تلك المصدات فجاءت المذكرات تحمل موانعها معها. وهو أمر طبيعي حين تسيطر أدوات التحكم الجمعي على كل الثقافات ما دام وجود الفرد، فكره، حركته، وحتى جسده مرتبطاً بهذا الواقع الذي يتمثل بابسط التنظيمات الاجتماعية (الاسرة، الحارة، الصنف، النقابة، العشيرة) الى اعقدها (الاحزاب، الأمم، الدول، الجيوش، المؤسسات) فثمة قوى ضاغطة تدمج، وتعدّل، وتوجه، وتكافئ وتعاقب، لأجل بقاء المدونات البشرية خاضعة للقواعد الجمعية، بما فيها من محرمات (تابوات) ومباحات، لا فكاك للمدونات من الوقوع في اسارها.
تشكو الثقافة العربية على عكس غيرها من الثقافات الأخرى التي استطاعت أن تثقب جدران الخوف المحيط بها من خلال تمردها على مجتمعها ، بينما العربي حتى الجواهري على تمرده المعروف ndash; يقول الدكتور فالح- كان يردد quot;لو قلت هذا لشنقوني الف مرة!quot; هذا الخوف والهيبة من القول اللاجم للإفصاح أحبط كل محاولات التحليق المرجو في فضاء هذا العملاق.
ترى لو أتيح للجواهري أن يتحرر من قيوده الداخلية وانعتق من أسر التقاليد ، وتمرد على قوانين المجتمعات ؟ أية مذكرات سيترك لحياة قاربت قرناً من الزمان! هذا ما لم يعد بإمكانه التحقق بعد رحيل الجواهري.
التعليقات