المهرجان الدولي الثاني لفيلم المرأة بسلا
سلا lمن قيس قاسم: أثارت الأفكار والمشاريع التي أرادت تخصيص صفة النسوية على بعض حقول الأبداع الأنساني، أثارت على الدوام جدلا كبيرا، وحساسية. وحتى في الغرب نجد صدا لفكرة التفريق بين أبداع المرأة والرجل من منطلق ان المنجز الأبداعي ليس حكرا على جنس ما، والمنجز الحقيقي هو الذي لا ينشغل مبدعه في تغليب فته الجسمانية عليه، قدر أنشغاله بقضايا أنسانية أكبر من هذا التوصيف. ويجد أخرون في التفريق بين الجنسين أضعافا لتماسك ووحدة الصراع الأجتماعي لصالح القوى الأكثر تحفظا ورجعية. والمؤكد ان الفرقاء هناك لا ينطلقون من موقف عدم الأعتراف بها وبأبداعها، كما هو الحال في أعم مجتمعاتنا العربية. ومهرجان سلا لفيلم المرأة ليس أستثناءا، فالأسئلة عن غاياته والجدوى من وراء تكريسه لأفلام موضوعاتها المرأة أو مبدعتها نساء لم تك بعيدة عنه، رغم انه لا يرمي ولايدعو لهذا النوع من التكريس النسوي قدر رغبته في تبريز موضوعة المرأة في السينما ودورها الأبداعي في منجزات هذا الفن. وبتوفير المهرجان لهذا الكم من الأفلام قربنا من حجم المشاكل الحقيقة التي تواجه مجتمعات العالم بأسره وبرر لنا أختياره. لاأدعاءات نظرية ولا مواقف جاهزة قادرة على الأقناع، قدر فيلم واحد جيد يسلط الضوء على محن النساء أو يبرز قدرتهن وطاقتهن على العطاء أو على خلق عالم من الشراكة الأبدية لبني البشر. الأفلام التي أختيرت للدورة الثانية حملت هذا الكم من البحث عن معنى الوجود الأنساني، قبل تهويل دور المرأة البطولي، والفيلم التشيلي الحائز على الشهدة الذهبية quot;لعبquot; قد يكون نموذجا لفيلم المرأة.
أرواح هائمة في سانتياغو
تحرك المخرجة أليسيا شيرسون، كريستينا، الفتاة ذات الملامح الهندية الحمراء (موبوتشية) مثلما تحرك صورة في شريط مسجل، ضغطت على زر play لتشغيله. حركتها تبدو لنا دون غاية، يغلفها الشرود، وخوف باطني من الأمكنة التي تمر بها. مثلها تفعل بتريستان، شاب ذو وضع أجتماعي جيد من عائلة غنية، مستسلم، يقبل بما يتعرض له بصبر وصمت، أستسلام دون مقاومة نابع من يأس وخيبة أمل وجودية. بين كريستينا وتريستان علاقة حب من طرف واحد، علاقة صامتة، تشبه علاقته بأيرين، الفتاة المتغطرسة الغنية التي يحبها وهي غير مبالية به. ثلاث كائنات تلاحق بعضها لغايات مبهمة ومرضية. كريستينا تعثر ذات مرة على حقيبة فيها كل مستمسكات تريستان الشخصية ومعها جهاز تسجيل الموسيقى. فقدها عندما تعرض للضرب والسرقة في أحد أزقة سانتياغو. تبدأ كريستينا بالبحث عن صاحبها،، بحث محموم وغير مفهوم، مع الوقت يتحول الى نوع من الحب السري. تسمع وهي تهيم في الشوارع الى الموسيقى من نفس الجهاز فتغرق في وحدانية كاملة يغمرها ضوء خارجي ساطع. تتصاعد أحداث الفيلم بحركة مطابقة لحركة البحث عن تريستان (أندريس أولوا) وعبرها سوف نكتشف مدينة سانتياغو، علاقات الناس فيها، العنف المستشري، واللاأبالية الصاعدة مع صعود رأسمالية البلد الذي كان يوما ذي نزعة أشتراكية. جمال المدينة الخفي الذي لايمكن معرفته إلا بالابتعاد والصعود الى جبل السيدة العذاراء، حين تبدو المدينة نائمة في أحضان وادي يحميه جبل شامخ. في واحد من المشاهد الغريبة نرى كريستينا ( فيفيان هيريرا) تلاحق في الخفاء تريسان وهو يلاحق أيرين، لن يلتقوا إلا في المستشفى، بحميمية مخفية يعلن الجميع عن مشاعرهم. يكاد يكون فيلم quot;لعبquot; فيلما صامتا، الحوار فيه مقتضب، والموسيقى سائدة. المشاعر جوانية وكشفها عصي. المصائر مجهولة ولاأحد يأبه لها. ويوم تقرر كريستينا مغادرة مكانها، لانهتم، نحن كثيرا لمصيرها، وحتى الرجل الذي كانت تعتني به قبل موته لانعرف من يكون صديقا لها أم والدها الحقيقي. تدخلاتها العنيفة في شؤن الأخرين لا ندركها ولا نعرف ان كانت متخلة أم حقيقية. وعلاقتها بالشاب العامل في الحدائق، هل تطورت أبعد ما وصلت اليه، لا أحد يكترث! اليس عالمنا اليوم بهذا القدر من اللاأكتراث للكائنات المحيطة بنا؟ أظن ان المخرجة أليسيا شيرسون أرادت لفيلمها ان يحكي عن أرواح مدينتها وأن تجد روحها عبر حيواتهم، فروح المدن تعكس روح الكائنات التي تهيم في شوارعها.
البحث عن الحرية!
شارك فيلم quot;تحت السقفquot; في مهرجانات عديدة، لم تنصفه لجان تحكيمها، إلا في سلا. لن أخفي فرحتي بفوزه بجائزة لجنة التحكيم، كان يروادني أحساس ان نضال الدبس قد
ابن وفيلمه، لا لموقف مسبق منه، لكن حسب ما أعتقد بسبب شكل الفيلم ومادته العميقة والمركبة والتي تحتاج الى نوع خاص من الجمهور، وقبول لدى المشتغلين في الوسط السينمائي، الأمر الذي حداني أن أجري حوارا معه، قبل أعلان فوزه، لمعرفة أفكاره وأسباب أختياره للأسلوب الذي أتخذه لفيلمه. لم يسلم الفيلم من الجدل والسؤال عن سبب أختياره لمهرجان مخصص لفيلم المرأة وهو حسب رأي السائلين لم تنفرد في بطولته امرأة واحدة، بل شاركها البطولة رجال ونساء أخريات على قدر متساو تقريبا، ثم ان مخرجه رجل؟ هنا على الفيلم ان يجيب بنفسه على هذة الأسئلة. وتحليل لمصائر شخوص quot;تحت السقفquot; وحدها قادرة على الأجابة: بحث عن حريتها وتجاوز القيم الأجتماعية والأفكار السياسية المهيمنة يفصلها عن المجموع، فتتحول الى مركز منفصل، متحرر من رابطة الأطراف وبالتالي سيتمحور الفيلم حولها لا بأعتبارها شخصية منفردة بحجم دورها الخارجي ولكن بأستقلاليتها الداخلية. نجح نضال في رسمها بصريا، وبالتالي جعلها بطلة/ نموذجا ومن هنا نعتبر فيلمه فيلما للمرأة، وأختياره موفقا أيضا. أختار الدبس الصورة الثابتة شكلا للتعبير عن أفكار وقيم أبطاله، هذا الشكل يحتاج صبرا من المشاهد حتى يصل الى غاياته. فبطأ الحركة وثقل الايقاع يقللان من متعة التلقي، خاصة إذا أمتد طوال الفيلم. ولكنه في ذات الوقت يعطى مجالا للتقرب من العوالم النفسية لشخصياته، وصراعها مع عالمها الخارجي، من دونها ما أستطعنا معرفة العناصر المؤثرة في تكوين لينا النفسي، بدءأ من تعرضها لأنتهاك جنسي على يد أخيها، أنتقالا الى علاقتها مع زوجها، وصولا الى رغبتها المعلنة في أنجاب طفل، بعلاقة لاشرعية، من حبيبها مروان. كل هذا التعقيد أحتاج لشكل يستوعبه الى جانب حيوات أخرى ليست أقل تعقيدا وتركيبا. وفي بحثه عن جوانيات أبطاله، وتأثير الأوضاع السياسية المحبطة، وتداخل التيارات الفكرية في الضغط المتبادل على مواقفه، وفق الدبس في صنع فيلم مميز، يحتاج الى دراسة وعودة متأنية اليه أكثر من مرة.لقطة من فيلم تحت السقف
المرأة والتحولات العصية
أستحق محمود حميدة جائزة أفضل ممثل في سلا عن دوره الرئيس في فيلم quot;ملك وكتابةquot; لكاملة أبو ذكرى. عنوان الفيلم يوحي ان أحداثا من الحظ أو سوئه سنصادفها مع مجريات الفيلم، فالملك والكتابة هما وجها العملة المعدنية. لكن مع المتابعة نجد أنفسنا أمام تحولات دراماتيكية في حياة محمود، مدرس معهد الفنون الجميلة، تجري وفق تطور زمني يبدأ من لحظة تعرفه على الممثلة الهاوية هند (هند صبري). تعارف سيغير مجرى حياته وينتقل عالمه النظري الكئيب الى عالم من الحب والسعادة ما عرفه سابقا. من
البداية حتى النهاية يحمل محمود حميدة ثقل الفيلم على كتفيه، حتى ليبدو لنا دور المخرجة ثانويا في تحريكه مع هند صبري. أداء جيد مبني على فهم الفكرة والرغبة في توصيلها. ولأن الفيلم ظل مسطحا ولم يغص في العمق كثيرا، بقت أنسيابية مريحة ورافقت مسيرة الشريط المرتكز على فكرة: ان المرأة قادرة على تغيير أشد الرجال غطرسة. لم يغفل السيناريو تذكيرنا بالجوانب السلبية لهذا التغيير، أيضا، من خلال فعل الخيانة الزوجية الذي أرتكبته زوجة محمود.لقطة من فيلم ملك وكتابة
يحمل الفيلم طاقة من الرومانسية الزائدة ساعدت على قبوله وأبقت حيوية المتابعة عند مشاهده، حتى النهاية، التي حملت طابعا تسامحيا خاليا من المنطق عندما quot;تنازلquot; محمود عن حب هند لحبيبها الأول طارق (خالد أبو النجا) التي أفترقت عنه لأختلاف سلوكهما ونظرتهما للعالم غدت مقبولة بقوة التحميل الرومانسي. من الناحية الفنية يحتفظ الفيلم بمستوى متوسط لكنه على المستوى الفكري يضع فكرة قبول وتأثير المرأة في الحياة والمجتمع في أولوياته فيبدو دوره في الواقع العربي مهما وشجاعا. الفيلم يتناسب مع أساس الفكرة التي بني عليها المهرجان والذي أراد تبريز دور المرأة، كموضوع سينمائي، وككفاءة فنية، تدخل عالم الأخراج العصي، الذي ظل حكرا على الرجال عقودا طويلة.
أفروديات شرقية
بعد قراءتي كتاب ايزابيل الليندي quot;أفروديتquot; أنتهيت الى شبه قناعة بأن هذا النوع من الكتابة سيبقى اليوم حكرا على العالم الغربي واللاتين أمريكي، لما فيه من حرية واسعة من التعبير عن الأفكار والأحاسيس وبوح بالرغبات الجنسية والحسية. لكن هذة القناعة زعزها الفيلم الايراني quot;حين يقع السمك في الحبquot; لعلي رفيعي. فيلم أعادني للتفكير في شجاعة السينما وتخطيها لكل حدود. من الصعب تصور مخرجا ايرانيا يقدم على أخراج قصة حب بهذا الشكل السينمائي، البعيد عن العقلية الشرقية التي تميل وخاصة في السينما لنوع شائع من العلاقات الرومانسية المباشرة بين الرجل والمرأة دون أضفاء عناصر حسية أخرى تدخل في مناخ القصة الغرامية. بنى رفيعي فيلمه على سيناريو غاية في البساطة وعلى فكرة مكررة، فكرة عودة الحبيب الأول الى منزله القديم بعد فراق طويل ومحاولة أعادة نسج أواصر العلاقة القديمة بالحاضر، ولكن علي ميزه عن غيره في المناخ الذي ستجري فيه الحتوتة الرومانسية. أختار المطبخ وحسيات لذة الطعام وسطا لنقل المشاعر. في المنزل القديم الذي تحول الى مطعم على يد نساء ماهرات يعتمدن عيشهن عليه، ستجري أحداث الفيلم وستسج العلاقة العاطفة من جديد بين الرجل وأحدى النساء الجميلات. بين إيقاع تجهيز الطعام اليومي ومراقبته لهن سنمضي نحن بأحساسنا المغرق بحسيات داخلية ينسجها رفيعي فينا دون ان نشعر. أنه ساحر الصورة الرتيبة المحصورة القادرة على أدهاشنا ببساطتها. من أين له هذة الشجاعة لأنجاز فيلم يبدو بعيدا عن الذهنية الشرقية ورومانسيتها! أظن ثقته بقوة الحسيات وأغوائها، في ميل البشر للبحث عن اللذات، في الأبتكار اللامنتهي في اشباع الحاجات الجسمانية والروحية هو الذي شجعه. يجمع علي بين الأثنين بين قوة الحب الروحية وحسية لذة أعداد الطعام. بين الروائح والنظرات الجريئة، بين همس البوح وحركة الكدح اليومي، مزيج يصنع قصيدة بصرية رائعة. كم بدا لي رفيعي قريبا من عالم الليندي، هي التشيلية كتبته لعالمها، وعلي الايراني، الشرقي، صوره بعوالم متخيلة لكنها تنتمي لحسيات تعرف مكانها.
حفز الأقبال المتزايد للجمهور على العروض وخاصة في الصالة المكشوفة، على فكرة تحويله الى مهرجان سنوي وليس كل عامين كما هو الحال الأن. وبسبب من شحة قاعات العرض السينمائي قدم مسؤلون مغربيون في سلا وعودا بأنشاء دور عرض جديدة فيها. وللمصارحة نقول: ان الصالة المكشوفة تحتاج الى أنضباط واع من الجمهور. وتحتاج الى أحترام لحق الأخر في المشاهدة والتركيز. فليس معقولا أن تتحول الى مكانا مفتوحا لحركة الأطفال ولأستقبال المكالمات الهاتفية في الوقت الذي يأتي جمهور هدفة أن يشاهد فيلما، يركز ويستمتع به. أخراج حفل الختام كان ناجحا مما أسعد أهالي سلا وأشعرهم أنهم ومدينتهم قادرون على تنظيم مهرجان سينمائي جاد ومهم.
التعليقات