سلوى اللوباني من القاهرة: لا يكف المغترب عن الحفاظ على هويته والبحث عن مكان له في غربته... وقد يكون المكان قهوة أو مكتبة أو معلم حضاري أو غيره... ولكنه مكان يبعث الطمأنينة في نفسه ويساعده على استدعاء ذكرياته وثقافته...فتنشأ علاقة وجدانية بين المغترب وبين مكانه الذي اختاره.. وما يدعو الى التساؤل هنا الى أي مدى تستمر هذه العلاقة الوجدانية... وهل تأثيرها وقتي أم يستمر بعد مغادرة المكان؟ فقد اختار د. سعيد اللاوندي برج إيفل منذ وصوله الى باريس عام 1980 ليصبح مكانه الاثيري، المكان الذي يلتقي به مع رفاق الغربة ليتذكروا أيامهم الخوالي في مصر، يقول في كتابه quot;ثرثرة تحت برج إيفل..هموم جيل مغتربquot; أصبح البرج ملاذي الذي ألجأ اليه كل فترة، واعتدت أنا ورفاقي أن نلتقي هناك بموعد أو بدون موعد، وكما ذكر أنه كان يهرب اليه من ضوضاء الحياة الباريسية ليجد الهدوء والراحة في الحديقة الممتدة بجوار البرج.
الحكم على الآخر:
ضم في كتابه الصادر عن نهضة مصر كثير من الاقاصيص والحكايا تتعلق بأخص خصوصيات جيل من الطلاب المصريين السوربونيين الذين شاءت أقدارهم أن يتنفسوا هواء باريس العلمي والعملي، كما يضم ما تبقى من ذكريات ومواقف ومناسبات لم تعبث بها عوامل التعرية الزمانية على حد تعبيره، ومناقشات وأحاديث حول القضايا الدراسية هناك الى جانب مشكلاتهم الحياتية، وامتدت هذه النقاشات حول الصدمة الحضارية التي هزت جيل السبعينات والتي اعتبرها المؤلف من أصعب مراحل الانفتاح على الغرب فهذه الفترة شهدت ثورة في انقلاب القيم أو تبدلها، وشهدت تفكك الاتحاد السوفيتي واجتياح الليبرالية العالم أجمع، إضافة الى انفجار المعلوماتية والكمبيوتر والنت، وتسيد الاقتصاد الحر حركة التاريخ.. وإنزواء أفكار كانت لها الغلبة لعشرات السنين لتحل محلها أفكار أخرى، وتضعض بنيان أفكار القومية والثورية وتكافؤ الفرص والتكافل الاجتماعي، ليصبح الصوت الاعلى لمنطق السوق وهيمنة مبدأ تسليع الانسان والثقافة، يقول د. اللاوندي.. في أجواء هذا الزلزال القيمي والسياسي والاقتصادي حاول أبناء جيله أن يقبضوا في باريس على خصوصيتهم فكانوا أشبه بالقابض على الجمر، ولكن ذلك لم يمنع من سقوط بعضهم لهشاشته الفكرية أو لضعف بنيانه الثقافي، أو لسوء تقديره للمواقف، وهنا تُطرح تساؤلات عدة منها الى أي مدى تؤثر الغربة في طريقة تفكيرنا واتخاذنا القرارات أو تقيمنا للأمور؟ هل هي قرارات وتقييمات ثابتة؟ ألا يمكن أن تتبدل مع الوقت بتبدل الاوضاع السياسية والاقتصادية والثقافية؟ وما هي الاسس التي بناء عليها نحكم على الاخر؟ هل هي أسس عامة أو وقتية؟
مناقشات وذكريات:
من القضايا التي أثيرت خلال مناقاشاتهم مقتل quot;فرج فودةquot; وحرية الكتابة، وماذا يجب على الكٌتاب أن يكتبوا أو ماذا يريد القراء من العامة أن يكتب لهم؟ كما اشار د. اللاوندي الى حديثه مع البعض في مصر إبان اغتيال فرج فودة ليتعرف على وجهة نظرهم بما حدث، وقال البعض لم يعرف من هو فرج فودة، والبعض لم يهتموا لسؤاله، أما النسبة الاكبر كانت التي كفرته ووجدت أن اغتياله حلال فهو يستحق هذه النهاية، لانه زنديق الا أن المفارقة في الامر أن أي منهم لم يقرأ لفودة كتاباً، كما شملت المناقشات quot;عبد الرحمن بدويquot; عندما قدم كتابه quot;سيرة حياةquot; الى إحدى دور النشر المصرية لتنشره فأتاه الجواب بالرفض بينما تمتلئ عشرات ومئات الكتب التي تروي قصة حياة بنت اسمها شريهان وحكاية ولد اسمه عدوية، فكيف يرفض نشر كتاب عن سيرة فيلسوف مصري الذي وضع أكثر من مؤلف في تاريخ الفكر الانساني، وتناول سلوكيات وممارسات الجاليات العربية والاسلامية في أوروبا مثل ما يحدث في مناسبة عيد الاضحى من ممارسات الذبح، فيقول بأن العرب يستسهلون عملية الذبح في المنازل داخل الحمامات وفي البانيو تحديداً وهو أمر غير مستساغ من عدة جوانب، كما تطرق الى قضية رفض فرنسا اعطاء تأشيرات لدخول 50 واعظاً وقارئاً مصرياً وجزائرياً وردة فعل العرب هناك على هذا القرار، وتناول الفرق بين عقلية وثقافة الاوروبي الباريسي وعقلية العربي من خلال عدة مواقف، وامتدت المناقشات الى عدة شخصيات عربية وغربية مثل البروفسور الجزائري محمد أركون ورئيس الوزراء الفرنسي الاسبق quot;بيير بيرجوفواquot; الذي انتحر بعد نضال سياسي امتد لنحو نصف قرن، والمفكر والفيلسوف الفرنسي ديبريه، والمستشرق الفرنسي جاك بيرك، الشاعر السوداني صلاح أحمد ابراهيم، وحمادي الصيد مدير بعثة جامعة الدول العربية الاسبق في باريس، الاذاعي الللبناني حكمت وهبي، وفي باب مغتربون تحدث الكاتب عن المفكر لطفي الخولي، ود. لويس عوض، الناقد زكي مبارك، وغيرهم إضافة الى ذكرياته مع شخصيات عربية تواجدت في باريس لعدة أسباب شرح من خلالها بصورة مبسطة أحوالهم المعيشية والاجتماعية هناك وما يواجهونه في الغربة، ونذكر هنا أن د. سعيد اللاوندي حاصل على دكتوراة في الفلسفة السياسية جامعة باريس 1987، وخبير في العلاقات السياسية، وعضو المجلس المصري للشؤون الداخلية، استاذ محاضر في جامعات مصر وسويسرا وبلجيكا، قدم برامج سياسية وثقافية في اذاعتي مونتي كارلو والشروق وابرونيوز، رأس تحرير جريدة أخبار الجالية المصرية كما رأس اتحاد المصريين بباريس لعدة سنوات، أسس المركز المصري لحوار الثقافات في باريس، كاتب صحفي بجريدة الاهرام.
التعليقات