وأنا أعيش صراع الأمكنة لفرض وجودها القسري، اسمع صراخها، وأخلص الى أن المكان شكل من اشكال الوجود في لحظة من لحظات بانو راما الزمان النابضة بالحركة اللامتناهية. هذا الشكل بطبيعته مغر ومحرض دائم لآليات منظومة التلقي المتباينة في عملها من متلق إلى آخر تبعا للتجربة القرائية في لحظة ما. وصيرورته اما ان تكون طبيعية أو مصطنعة. بيد ان حضوره للتلقي اما ان يكون عيانا مباشرا أو مستعادا عبر المخيلة. غير ان المخيلة بعد تلقيها منظومة بث المكان تحيله إلى نص مرسل عبر وسائل اتصال شتى لإغرائنا على قراءته. غير ان قدرته في الإغراء على القراءة تعتمد على خصوبة المخيلة المرسلة للنص. أي بمعنى قدرته على المكر أو الخداع الفني لاستدراج القاريء إلى (مكيدة التلقي). وانا اسمع صراخ الامكنة، لهول سياط النعرات في بلادي، أسعد لكل واحة ثقافية في بيد التحزب. وانا ألمح خراب الامكنة انحني لمجلة (هلا) الثقافية، باحثا عن مرامي في استقصاء جماليات النص. وها أنا اقف امام باقة من (نصوص في الامكنة) لأتطيب من شذى غصونها غصنا تلو غصن.
فها هو طالب عبد العزيز يسحل فضولنا وراء زورق محبته فاضحا فتنة الجنوب العاري أمامنا على طبق ازرق. وعلى عادته يوغل في سردية مطرزة بأيقونات لغة الاقدمين. كم انت ماكر يا طالب، فقد زدت لهفتنا لزيارة مقهى الصيادين لاهين بنشوة مكان من نخيل وماء (وستظل قراءة مكان ما خدعة اخرى تزودنا بها الاقنعة في كل مرة نحاول فيها سبر غور معارفنا).
و(حينما يكون النهر قبرا) نعوم في مأساة الحلاج الذي أحرق جسده إله زرادشت وابتلع رماده إله زيوسدرا وحفظت الارض سر الميتتين، في أثر أراه لملم الرماد من بطن دجلة وراح يتوهج شعرا يطفيء حرقة المعذبين. أنت محق يا حبيس الماء سنظل موهومين بشفاعة الحجر، وسنردد أسئلة الإنسان البدئي حتى يفضح الوجود خفايا العدم. من (القبر) الاثر والعلامة يحرض قاسم محمد عباس في نفوسنا حسا كونيا من خلال قراءة إنسانية جريئة لفلسفة الوجود والعدم. عبر مقاربة واخزة وشفيفة لمعضلة التوحيد بين المسيحية والاسلام وأثر ذلك في الفن عموما والريازة تحديدا.
حقا نحن بحاجة لهذه التجربة المذهلة ((أفكّر بكتابة أجسادنا التي سنسجن فيها بانتظار لحظة القيام)) ولكن صاحبي، ألسنا نكتب الآن من قبورنا! بانتظار حزام ناسف يكتب نصّنا الجسدي ؟!
لكم انت بارع يا قاسم في اقتناص رغبتي لدخول ذلك الزقاق عمدا، لا سهوا كما فعلت.
ولعلّي لست مغاليا بقولي أن (مكواة) لطفية الدليمي أكثر إقناعا من (عصا) موسى. باعتبارها مكيدة فنية لا غير. والملفت في منجز الدليمي هو انها لا تركن إلى منطقة كتابية ما، بل تمتلك قدرة مذهلة على التجديد واستقصاء اكثر المناطق وعورة وغرابة. لنقرأ بعضا من مكائدها (في عشق الخرائط) إذن سأختطف العالم لنفسي، وأمتلك الثمرة الزرقاء التي تقزّم لي المديات والمسافات والأزمنة والمياه.. ذات انحسار بالعالم رغم الحروب والموت والضحايا عثرت على خارطة مطوية بإهمال في مكتبتي، مدعوكة الورقة مغبرة ممزقة الأطراف، فتحتها فإذا بها خارطة الدنيا..
لسخرية حبي للخرائط سخّنت مكواة وشرعت أمسّد العالم بالحرارة والأمنيات. شكرا سيدتي، قدّمت لنا حطام العالم على طبق من عجب.
عن البيوت العتيقة التي ابتلعتها الارض، رسم هاشم تايه لوحته الجديدة (شبابيك منعت من التحليق) طاردا خرسها الأيقوني في بوح (فوتو كتابي) معلنا فيه احتضارها وقوفا، عبر أنسنة شعرية لوجودها الإشاري والدلالي. أهم الموتى اشتاقوا إلى الرحيق.. أم هي الارض ضربتها أهوالنا فتورّمت واعتلت بيوتنا العتيقة ؟ تساؤل مريع رمته بوجهنا مخيلة فرشاة ملونة بالمشاعر. اذن نحن أمام نص تشكيلي أو تشكيل نصي حاول تحرير حيوات الرموز والدلالات من أغلال الإهمال إلى فسح الإنتباه. نص يستنطق روح الفرشاة المتمردة بترنيمة عبقة، بين شبّاك يهوي وشبّاك يطير ينحني الضوء لابسا حجابه تتقدمه عصا الراعي وتجرّه إلى مرعاه.
بذاكرة مشحوف سومري وفطنة نورس وسرعة صاروخ، يختطف لنا نعيم عبد مهلهل قراءته المكانية (الأهوار) مدبّجا ومضمّنا إيّاها بأسانيد الإستشراقيين والعراقيين معا. وفيها يفضح عشقه (لحلم أخضر يمشي على سجادة من الماء والقصب) حلم ذرفه أسلافه السومريون نافذة خلود لحضارتهم كيما تظل طرية على الدوام. وهو يعمد إلى الافادة من سحر المكان كمكيدة للتلقي. مطلقا لمخيلته العنان لتسبح في معاناة الإنسان منذ غبش الخليقة، في عرضها لقطات مقاربة بين الاصل والصور التي حفل بها الفلم الفريد (الأهوار) للمبدع الكبير المغترب قاسم حول. ومن ثم يدفعنا للتساؤل معه : متى تلتحق هذه الطبيعة بقاطرة الحضارة ما دمنا نراها تموت في كل عصر، حتى قبل أن تتنفس هواء الرغبة لتذهب بعيدا ؟؟؟
بسياق سردي يبتدأ رعد مطشر نصه المكاني (كرخيتي لآليء النور) واصفا كيفية تحول الواقعة من بنياتها التاريخية الى بنياتها الإسطورية عبر جرائد التهويل الشفاهي السابحات في الذاكرة الجمعية للأقوام المارين على طاحونة الأزمنة. نص تمكن من تجاوز يباس أسانيد المؤرخين بمخيلة مررت مجساتها الفطنة لتحريض طقوس الريازة على النشوب فراديس إفشاء لإرث موغل بالحكمة والضوء. في مواشجة غنّاء بين حياء المؤرخ وجرأة الباحث، نصب لنا رعد مطشر فخّ تلقّينا لقراءته المكانية محدّقين بجرائد الذاكرة الطائرة إلى كركوك. فبعث لنا شفرة واخزة في محاولته المحزنة كي ينسى بأن كركوك أكبر مركز للبترول، ينسى ذلك، لأن المدينة الآن ليست له !!
ما أن فرغت من قراءة جدران لؤي حمزة عباس، حتى تملّكني الرّعب من جدران بيتي الذي بنيته تواً هرعت إلى الشارع مرتبكا مؤنّبا نفسي على ما فعلت. غير أني هدأت بعدما استعادت مخيلتي صورة البيت وهو يوشك ان يتداعى. وتحدياً إلى لؤي عدت لقراءة (الجدار) وفرحت بعدما أنصتّ جيدا لانطوان سانت اكزوبري وهو يهمس في أرض البشر (إن أعجب ما في منزل ليس في أنه يؤويك أو يدفّئك، أو في أنك تملك فيه الجدران، ولكن في هذا الذي يضعه فينا، هوناً ما، من مؤن العذوبة)
حينها قلت. المعضلة المرعبة ليس في الجدار، بل في مؤثّرات تحريف جدواه. نحن أمام نص تمكّن من خداعنا على قراءته مرات بوصفه سينوغرافيا مرعبة، لأنسنة متاهة الجدران في جدلية ممتعة.
وأنا في قبري متعثّراً ببلادي - ذهولاً - أحسب أني في ورقتي هذه، تنفست عبق مكائد التلقي لنصوص مبدعين غرّبتهم الامكنة، وقرّبتهم محنة أسرهم، في كولاجي التأويلي المزعوم .
- آخر تحديث :
التعليقات