عبد الله كرمون من باريس: مرة أخرى وعبر الصور، ثمة هموم الغربة، بل المنفى هذه المرة والأدهى هذه الشيخوخة في المنفى؛ زمن معتل في زمان المكان. إذا سلمنا مع كازانتزاكيس أن الشيخوخة هي أفظع من الموت سوف نحس ونحن ننظر إلى هذه الصور أن quot;ورشة الزمن الكسول تكدح بدأبquot; حسب أمجد ناصر، وأنها بالفعل لا تنفك تعمل كذلك. غير ذلك تكون رطوبة المكان التي تنضاف إلى كل ما يرشح به القلب المعتل للرازحين تحت طائلة منفى آخر، قد وصلت أقاصي غرف إقامة quot;فيفquot; بمدينة ليل، بل أبعد، إلى جحر أرواح الذين يأوون إليها بعد كل خطو صغير حول أرض هي أبعد عن عالمهم المنزوي؛ أرض ليسوا يتعرفون عليها إذ أنهم ليسوا سوى غرباء عنها.
هذه الصور التي التقطها فيليب روفولي في مسعى اثنوغرافي، عُرضت في الأيام الماضية بفياب جان مونيه بباريس الدائرة الرابع عشرة، وسجلت نوعا حياة هؤلاء الذين وصولوا بالفعل سن التقاعد واختاروا سواء أن يبقوا في غرفهم أو، خاصة بعضهم، اختار أن يؤوب إلى البلد.
نفس الغرف دائما، نفس الأسرة التي تبعث على التفكير في تعب هائل وفي كوابيس تسكنها أشباح البلد وخسارات المنفى، وذلك اللافت المضني لصيرورة الحياة هكذا بأسى ودون أمل رغم كل الدعوات رغم الصلاة، أو أنها ليست تصعد إلى الرب أو أنه ليس يسمعها أو أنه ليس يلبي كل الرجاء المتناثر حول حبات السبحات. خسارة هي تلك كما نزعم بلا نظير!
مبنى الإقامة إذن وثمة وسط الباحة بالوعة تمتص كل الماء. أيُّ ماء في جفاف الروح؟
في الإقامة مسجد، هذا التوازن الاصطناعي لألم طبيعي راسخ في الصميم. إلى أين يمضي بنا هذا المركب (الحياة) الذي تلاطمه أمواج غير آمنة؟
يقول أحد منهم ثمة: quot;نصير مرضى (بالسكري) لأننا لسنا نعمل أي شيء ولأننا نجهد أنفسنا في التفكيرquot;.
بعض صور البلد بأفريقيا، نساء ينتظرن مئونة تأتي من الهنالك، منازل تُشيد لتأوي آخر سنوات المنهك جراء منفى طويل وقاس أو الأنكى تلك المقبرة التي يؤكد دوحها الخرافي الماثل قوة سلطة الخفي أو الخوف الذي أنجب الآلهة حسب لوكريس.
صورة الجزائري الذي ينتمي نفسه إلى نفس السكن، بعد سنته الخامسة والثمانين، دورانا حول الشمس، ما يزال هنا بمدينة ليل. يخرج كل مرة ويجلس ثمة جنب محطة قطارات مدينة لِيلْ، يتمتع بحصته من شمس نادرة وغير مضمونة. صورة متوقعة ومتعمدة، غير أنها مع ذلك توحي بأشياء أخرى ليست المباغتة فقط ما يمكن أن يمنحها.
أناقة بادية، والعكاز الذي يأذن برجل ثالثة، ليست تنبت لدى الولادة، ولكن بعدها بكثير أو على مقربة من التفسخ: الموت!
الجميل أن الرجل يجيء من خلال شعرية واضحة في العمق إلى المحطة، هل لكي يبصر القطارات التي تمضي إلى البعيد أم كي ينظر في سحنات المسافرين، هؤلاء الذين يجعل انطباق نظراته الحادة على وجوههم وأمتعتهم من تسافر عبر الزمن الحرج الذي لربما لم يعد فيه قادرا على مخر عباب السفر، على الأقل إلى البلد الذي قد تحمل إليه باخرة عبر مرسيليا. لسنا ندري!
أو ذلك الشاي الذي يعدونه مثلما يفعلون في البلد، الشاي الذي يدفئ البرد الذي يأتيهم من لفحات الغربة. المائدة وما يعدّونه في المطبخ المشترك، هذا المكان الذي ليست فيه أية أنثى، ولو حتى رائحتها!
المنفى في آخر الأمر يضمن لمن التفت سنواته على عوده أن يشيخ كثيرا في ألم وفي عزلة، بعدما منح لتلك الأرض كل ريعانه ولم يستطع أن يلفى جدارا وقائيا يحميه بعد ذلك من كوارث الوقت. في هذه الحال، يستوي أن يبقى في إقامته تلك أو أن يمضي إلى بلد يصير فيه غريبا.
صورة جد مؤثرة؛ صورة غرفة المغربي الذي مات في المستشفى، وبعده فُتحت نافذة غرفته كي ينفض عنها الهواء أنفاسه الفاسدة أو حتى شبح الموت كي يأتي آخر يحيا فيها بدوره نفس المصير. حقيبتان وكيس؛ كل أمتعة المنفي، المقصي الذي يموت مغبونا في أرض جفاء!
- آخر تحديث :
التعليقات