نتف الثلج تحيل اخضرار شجر الصنوبر الى فراغ من البياض، وتزحف لتغطي ميدان سنداغما وسط اثينا بعد ان صبغت القرميد الاحمر الذي يغطي اسقف المطاعم السياحية واكشاك الجرائد بلون ابيض، الحديقة الكبيرة التي تتوسط الميدان خالية من الناس، باستنثاء نافورة تنفث عمود من ماء بارتفاع ثلاثة امتار، تمثال ارسطو غطته نتف الثلج.. مترو الانفاق يمرق من تحت الارض ليرج جانبا من الساحة، يافطة ضخمة لاعلان يبدو فيه رجل الكابوي الاميركي يمتطي حصانا اسود اللون تمتد من الطابق الثاني الى الطابق الخامس في خلفية فندق لاميراج
مراهقة شقراء تصفع باب كابينة التيلفون خلفها بعنف، ثم تبصق بحرقة على النجيل الموحل بالثلج، مسنة تجرها خلفها جرو اسود صغير وتنثر ابتساماتها بين المارة، شاب في الطابق الثالث يقف بجوار نافذة غرفته في الشارع المقابل محتضنا غيتار يرمق المارة ببلاهة، (باص سياحي) يقف امام احد المطاعم يترجل منه سياح، السماء رمادية الطقس بارد خمسة درجات تحت الصفر،صف طويل (لبصات النقل العام) تتلوى امام شارة المرورالحمراء.
اشيح ببصري داخل المقهى، نفس الوجوه ذات الهياكل، دمتيري منيسس الرجل الانيق بجوار الزهرية الضخمة مازال منهمكا يقرا كتاب كانه على موعد مع امتحان الحياة ولذة الموت، الرجل الاخر مع زوجته او خطيبته او عشيقته لست ادري يرشفان قهوة نسكافي ثم بعد قليل سيغادران المكان، اما الشباب الاربعة ذوي الثياب المتسخة على الجانب الايسر من المقهى من صربيا يعملان في ورشة تعمير المباني وهم الان في استراحة، بينما جورج صاحب المقهى الطويل القامة من جزيرة كريت يرد على التيلفون.
يدلف صديقي (كوستا كفياسث) المسن المشرد بشعره المجدول المتدلى حتى خاصرته مثل حبال النول، بينما بدا ظهره مقوسا مثل قارب صيد منفكيء، يحمل حقيبة كبيرة على كتفه ومنتعلا حذاء ضخم، يداه مرتعشتين، ووجهه حفرته التجاعيد، بدا تماما مثل عنق سلحفاة، يردتدي جاكيت عسكري ضيق، رمق رواد المقهى واحدا تلو الاخر، اعرف سلفا انه يبحث عني، رمقني، جاء الى، الغضب يطفح به طفحا، القى حقيبته على الطاولة امامي يبينما صدره يعلو ويهبط مثل ارنب بري مجروح، دنى مني، الصق انفه بانفي، وبصوت متهدج بادرني وهو يضغط على اضراسه: ( هل شاهدت تمثال اثينوث وسط ساحة اومونيا؟) اجبته ببرود وغير مكترث (مئة مرة.. شاهدته مئة مرة ماالجديد في الامر) ، رفع كوستا راسه الى اعلى وهو يتاوه من الحنق محدقا في سقف المقهى، ثم ضرب طرف الطاولة بقبضة يده اليسرى قائلا: (لانه يملك شعورا نبيلا افضل منك، انت مضجر، نافورة ملل، انت راهب متشرد، اللعنة).. ثم ذهب باتجاه دكة المقهى ليطلب مشروب الكراساي، وعاد لي والارتعاش يشل كفيه، ( ليلة الكرسماس سوف اقتل الطفل ساقتله، وتبا لك ولشاعريتك المزيفة، لن تحول بيني وبينه هذه المرة، ساسحق راسه وااتيك بزراعه اليمنى تعلقها تعويذة في كوخك البائس بمقبرة السفن بميناء بييريا، اللعنة)، ثم بدأ يدور حول نفسه كدرويش في لحظة تجلي.
القلق يمضغني، ان اقدم على قتل طلفه، المولود من دون راس سستتقيا امكنة الحزن في مسام الذهول، لقد حاول اكثر من مرة كوستا كفياسث ان يفعلها، ولكن كنت احول بينه وبين الذبح، علي ان اتجه الى منطقة (باترلونا) احد ضواحي اثينا، وان التقي بالراهبة ماريا العجوز من (جماعة شهود يهوة) وانفض امامها الخبر، -كوستا كفياسث قرر قتل طفله لارسيا-،
اترك المقهى في استعجال، اتجه صوب محطة المترو، اغرق وسط الموج البشري، احدق في الجدارن الكبيرة تجذبني لوحة ابولو الايطالي، وارسطو، وافلاطون، واثار ميكنوس، بعد خمس دقائق ينطلق بي مترو الانفاق نحو محطة (امونيا) اركض نحو الطابق الثاني تحت الارض لاستغل قطار بييريا المتجه شمالا، نحو منطقة باترولنا كي انفض الخبر للراهبة ماريا، حتما سوف تكون هناك في (دير القديسة مريم العذراء) الخاص بالراهبات، اعرف البيت من خلال معرفتي بكوستا كفياسث فكلانا مشردان، وادمنت خطانا درب التيه المخصي باكرا، محطة المترو الضخمة هنا مزدحمة مثل عش الدبابير، ينطلق بنا القطار شمالا، بدات المباني عن ميامننا ويسارنا انيقة نظيفة كرسومات دافنشي، نتجاوز (محطة كليثيا)، مسارات السكك الحديدية تتقاطع امامي تحسبها خيوط متدلية من سجادة كشميرية لم تكتمل، اغادر محطة بترولنا بيوتات بترولونا متراصة بانتظام مثل قوافي الشاعر هميروس، البرد يكدكد عظامي، ان قتل كوستا طفله لارسيا سينفقع الليل.
ادلف صوب المبنى الكبير اشاهد الراهبة ماريا بالقرب من حديقة المبنى تسقي الزهور بجلبابها الابيض عند مدخل خيمة الزهور البلاستيكية ولولا الابريق الاخضر الذي تسقى به الزهر لحسبتها كتلة من الجليد الذي بدا يكسوا الارض واعمدة الكهرباء ونوافذ الدير، ساعاتي كانت الثانيةعشر منتصف الظهيرة، تبتسم في وجهي وتضع ابريق السقاية جانبا وتاتي مسرعة نحوي.
ماذا هناك ياعبدالله؟؟-
انه.. انه كوستا كفياسث يريد قتل الطفل لارسيا، ماذا ماذا نفعل؟؟-
تقهق ماريا، وتعود لسقاية الزهر وهي تقول (لقد فعلها اكثر من مرة، لا تخشي عليه، لقد قتل من قبل كوفثياث والعامل منيثو، الان يريد قتل لارسيا، يبدو انه مصاب بداء التحطيم.
ماذا؟؟ ماذا؟؟ قتل كل هؤلاء؟؟ اتركها غير مصدق ما اسمع، اتجه نحو البستان اسلك الطريق الضيقة المؤدية نحو المقبرة القديمة اري كوستا كفياسث يقهق وهو يغني اغنية( ليلة موت البحار).. بينما جثة لارسيا مكومة امامه، الطفل لارسيا او المنحوتة التي نحتها النحات كوستا كفياسث من الجفصين الذي احضره خصيصا من سالونيكا شمال اليونان خصيصا، لارسيا الطفل المنحوتة الجفصينية الموغلة في البياض كانه منحوت من الثلج لا الجفصين، لارسيا الذي عشقته واحببته من اللحظة الاولى قبل ثلاث سنوات في هذا المحترف، لارسيا تشردي، ومنفاي، جوعي، وشبعي، لارسيا الميناء والمطر والثلج والجزر والخرافة والضجيج والمقهى والسكون والقبور والعمارات، الان هو كومة احجار مهشمة، وودت لو اطبق على عنق كوستا كفيثاث واحطمها كما لارسيا المحطم امامي.
صوت الراهبة ماريا يناديني (عبدالله.. يا ولدي.. تعال وانظر الى منحوتة كوفثياث ومنثيو)، ثم تردف قائلة لي: صديقك نحات باهر، روحه مضطربة، قلق لا يستقر على شيء مثل اشرعة سفينة ابولو، كلما استبدت به ريح الحقيقة يلجاء الى محترفه ويرسم الحقيقة لا تقلق غدا سينحت طفل لارسي جديد كما نحت كوفثياث وسنثيو
محمود الدقم- قاص من السودان
التعليقات