أُطفئتْ مصابيح الدار في النهاية. ضوء غرفة نوم اختها مع زوجها آخرها. أطمأنتْ. صار الجميع في عداد النائمين، عداها. بقيت يقظة، متنبهة الحواس ، تسترجع ما جرى في يومها الفائت. راقبت الفضائيات التلفزيونية، بسبب العادة المتفشية بين الناس في هذه الأيام، لا حاجة لذكر النقاشات مع أختها، طفرت إلى منظر أحد مَن وصف بالناقد العراقي في مقابلة تلفزيونية على الشاشة. سأله المذيع: ما رأيك بالناقد فلان؟ قال: جيد جداً وله مستقبل مرموق. وما رأيك بالناقد تكلان؟ إنه صديقي وأنا أعتز به وهو من أفضل..، وما رأيك بمحمود الوجان؟ هذا أحسن من يحلل السرد وله صوت كبير في نقد السرديات العربية. تربطني به صداقة قوية. ورأيك بمن تعتبره شقيقك وصديق العمر سرحان الوزان؟ هذا صاحبي العزيز وله عندي مكانة لا تعوض وقد كوّن ثوابت في النقد العراقي.. استمر الناقد الجليل يكيل المديح لأكثر من عشرة من الكتاب محاطا بالمجاملة والمحافظة على الصداقات، والمذيع يسأله عنهم هو يشير إلى كل واحد يُذكر أمامه بمزيد من الاستحسان والثناء عن طريق قربهم منه بالصداقة أو الزمالة وهذا شقيق الروح وهلمجرا… شعرتْ بعد انتهاء البرامج أن الناقد النحرير إياه خائف من جميع هؤلاء البشر، وهو بالنتيجة، وكما يقال شعبيا بالعراق، ( يتكفى شرهم). لا يمكن أن ينتقد بجرأة أحدهم لئلا يُصاب بسهامهم المقيتة وما أكثرها ، أقلها أن أحدهم أرسل ضابطا في الجيش بملابسه العسكرية من أقاربه، يتوعد ويهدد ناقدا تجاسر بكلمة أثناء استعراض كتابه توحي للقراء أن الكتاب سئ. حذره الضابط كي لا يعيد الكرة وإلا سيرى.. تتذكر نهى ما حدثتها به صديقة صحفية تجرأت في بداية عملها الصحفي وانتقدت رواية كاتبة عربية مهيمنة على الساحة الأدبية بالعلاقات المتعددة الجوانب، فما كان إلا أن تلقتْ نداء هاتفيا ألى مكان عملها، تنذرها كي تسحب كلامها وإلا ستلقي من المشاكل ما لا تحمد عقباه. صديقتها الصحفية الجديدة أخذت درسها جيدا ، منذ تلك اللحظة، تتذكره أثناء استعراض كتب الآخرين الكثيرة. تمازح نهى الآن قائلة لها:"بالله عليك، نهى، كيف سيكون النقد لكِ ؟!" خصوصا بعد أن سمعت أنها تريد أن تؤلف كتابا فيه معاناتها وتجربتها الحياتية. باختصار شديد ، تحشر نفسها في الوسط الأدبي، تُصبح كاتبة، الله يحفظها. تتعايش مع حملان ونمور وأسود ، هل هي مستعدة للـنـزال تُرى ؟ سيكثر أعداؤها بالتأكيد، لابد من الجرّ والعرّ. امتهيئة للمجازفة ؟ هذا هو السؤال الذي تريد صديقتها منها الإجابة عليه. ظلت نائمة مرتاحة تحت اللحاف في شتاء لندن والبرد شديد في الخارج؟
بدأت تنيم نفسها آملة في الهدوء، مشبهة حالها ببطل رواية الكاتب المصري توفيق الحكيم ( نائب في الأرياف) كم كان يتمنى فيها لو يتركونه ينام، في قيلولة الظهر بالريف المصري، بسلام، آملا أن تهجع نوازع القوم العدوانية ، خائفا من مجئ شرطي عليه، مرسل من المركز، قارعا بابه مستعجلا، ليخبره بحادثة قتل أو سطو في البيادر. يطلبونه للحضور كنائب للنيابة من أجل التحقيق.
الجميع يحلم بزيارة العراق. البارحة في السوق شاهدت من بعيد زوجين عراقيين مغتربين. كانا يزورانهما سابقا، تجنبت لقاءهما أو السلام عليهما أمس. ابتعدت قدر الإمكان عنهما حتى غابا في زقاق جانبي. هل كانت خجلة من نفسها أو خجلة منهما ، لا تعرف، لقد اختلطت المشاعر. تعتقد أن أوضاع العراق الحالية ، القتل ، الخطف، وعدم سعادة ابنائه ربما معكوسة على سلوكها الغريب. لو كانت الحالة صحية والوضع هادئ والآمال مثمرة لما كرهت السلام على هذين العراقيين البريئين وغيرهما. شعرت أن الصمت والعزلة هما ما تتوق لهما اللحظة. ليست مختلفة عن أحد معارفهم من اللبنانـيين حين أخبرهم عندما كان بلندن، سابقاً، أثناء حروب لبنان الأهلية الطائفية، كم يكره سماع اللهجة اللبنانية عندما تلتقطها أذناه في الشارع بين أثنين يتحدثان بها من أبناء شعبه ، حدث هذا الشعور عندما اشتدت الحرب في السبعينات من القرن الفائت ولمدة 15 سنة، هل هو متأثر من شعبه، عاتب عليه، زعلان من سلوكه السئ، كمن يكره أمه. يشعر بالخزي والعار من شعوره الفاجع، لا تدري. لربما كان الجزائري المغترب مثله، ذاك الذي يرى صورة القروية الجزائرية في الصحف الأجنبية مغميا عليها من شدة الحزن مسندة جذعها على صدور قريباتها بعد أن أُخبرت بمقتل سبعة من أبنائها بيد رجال مسلحين جزائريين في نهاية القرن العشرين. والآن جاء دور
العراقي ، فقد أذاعت الأنباء عن وقوع أكثر من تسعين ضحية قتيلا في مدينة المسيب والتي تبعد 60 كيلومترا عن بغداد ، بالإضافة إلى أ عداد كبيرة من الجرحى بالمئات، بسبب تفجير صهريج غاز عن طريق شخص انتحاري، فخخ نفسه قرب مسجد للشيعة، كما أُذيع.
بلدان واحدة وراء الأخرى تهدم على رؤوس أبنائها بأيدي أبنائها البررة، أو من يشاركونهم بالهدم والتخريب فماذا تنتظرون؟ شردوا عقول المفكرين فيها، ضيعوا ثرواتها وخيراتها، ممتاز، أعمال نادرة، لستم بحاجة لعدو خارجي، يجدكم الأعداء كافيين، فيكم البركة.
ظلت تستعيد نهارها الفائت وهي تحت اللحاف، أنهته بعد أن قفزت من الفراش متذكرة عزل بعض ملابسها القديمة جانبا للتخلص منها بإعطائها للجمعية الخيرية للبيع، المتواجدة بلندن المسماة ( جمعية الرفق بالحمير). من يدري، ربما تبيعها للعالم الثالث كملابس مستعملة لتزيد ميزانيتها من أجل الترفيه عن الحمير. لقد بررت الجمعية الحاجة إلى تأسيسها كون الحمار ، كما وصفته في إعلانها عن ضرورتها ، يبقى مكدودا مجهدا مرهقا طيلة شبابه مع الإنسان، ولذا من واجب الأخير مساعدته وإرجاع بعض فضله عليه عندما يشيخ. يخدمه برأفة وشفقة ، يجد له طعاما ومأوى مريحا إلى أن تحين ساعة رحيله الأبدي.
على الفطور ، في اليوم التالي، قالت لأختها متسائلة: " وضعت الملابس القديمة في كيس (جمعية الرفق بالحمير) ، هل أتركها قرب العتبة بالباب كي يروها فيأخذوها حسبما ذكروا ؟"
-انتظري، لدي ملابس أخرى تعود للأولاد ولي، دعيني أضيفها لها أيضا مع ملابسك، المضحك، في كل فصل من فصول السنة استزهد بملابس الفصل الذي قبله وأنسى أني سأحتاجها يوما إذا ما جاء موسمه. كثيرا ما أرى نفسي ارمي ملابس الصيف إذا ما جاء الشتاء والعكس بالعكس.
صبت الشاي لهما، وكان الزوج قد غادر ميكرا للعمل. كلا الأختين تتسامران على الفطور مخففتين من وحدتهما:- أتذكرين الحمار الواقف في أحد شوارع بغداد بقيلولة الصيف يوماً. نمر عليه مرور الكرام جميعا، غير مكترثين ولا عابئين. الذباب متكأكأ عليه وهو ينشه عنه مرهقا. أظن صاحبه يئس منه لعجزه عن الخدمة فتركه يلاقي مصيره بإهمال. ظل واقفا تحت سياط الشمس ولم يكلف نفسه بالتفكير في إنقاذه، على الأقل من قرص الذباب. نحن نرى أقدامه الخلفية وذيله تتصارعان في كشه وإبعاده عنه، هو المريض المتعب القريب من ساعة موته.
- نحن كصاحبه، لا نختلف في النظرة للموضوع آنذاك، في الاستخفاف وعدم المبالاة بمعاناته، أظننا تغيرنا الآن بسبب التوعية في هذه المجتمعات، المسألة كلها قضية وعي وتنبيه لا أكثر.
شيئا فشيئا أحبت منى سرد حادثة أخرى مرت بها وجاءت مناقضة بسبب التداعيات:-
- ليس الجميع، البعض ظل على حاله بالماضي، لا يريد أن يسمع أو يرى. مثلاً، كتبت قصة قصيرة ، أثناء حرب الخليج الثانية، تتطرق لحيوان ضعيف في إحدى محاولاتي الأدبية الفاشلة، كما تعرفين، قرأتها، آنذاك، على التي تصف نفسها كونها فنانة وسجينة سياسية في يوم ما بالعراق، كانت تدور حول إوزة يغطي جسمها كله النفط الأسود في الخليج العربي أثناء حرب الخليج الثانية بالكويت، وقد عُرضت الإوزة، إذا تتذكرين، بمعظم التلفزيونات العالمية بمنظرها البائس الحزين وهي جامدة غير قادرة على السباحة أو الحركة. حاولتُ تصوير المأساة عن طريقها وهي بظني صورة مركزة عن حيرة الإنسان اللاحول له ولا قوة، في وسط قاسٍ لا رحمة به. لكنني عندما قرأتها على الجالسة قربي استهزأت مشمئزة من تطرقي لهذا الحيوان التافه الصغير مستنكرة بصوت عالِ:
-أوه، سيبدأ الكتّاب عندنا، من الآن فصاعدا، بالحديث عن الطيور بدلا من الإنسان.
-صحيح لم تذكري هذا عنها من قبل، الادهى أن هذه المرأة تمارس الفن، يا للخراب.
- للأسف، تفضل الكتابة حول أمور أخرى مهمة لها وقع سياسي كبير، الخروج في مظاهرة، إلقاء خطبة، أو التصفيق لهتاف حزبي بصوت عال. أرجو أن لا أكون مخطئة، شعرت، بعدها، رغم كل الشهادات العليا عندنا وأموال النفط، الشعارات الرنانة والسجناء السياسيين، الشهداء وآلاف الكتب الأدبية التي تظهر باستمرار، سنظل نراوح بأماكننا في التقدم، وهي عبث في عبث، ما دمنا، بتصوري، ننسى أهمية احترام جميع مخلوقات الكون من الصغير للكبير. لا عجب في العراق ، اليوم، يجرؤن في تفجير القنابل من أجل الانتقام بين أرجل أطفال صغار متجمعين باحثين عن حلوى قرب جندي أمريكي، كما حصل قبل أيام قليلة في منطقة بغداد الجديدة. مصيبة.*
مقطع من رواية قيد التأليف
التعليقات