1- الصباح

خيوط من الفضة تنتهك حرمةالظلام، تعانق المنائر وأبراج الكنائس وتحيلها ظلالا خجولة، تلاحقها أشعة الشمس الباهتة التي سرعان ما تزداد سطوعا. فوق سطوح البيوت المنخفضة يستيقظ الناس بالتدريج لينصرف كل منهم الىعمله. ومع حلول الفجر يمتلئ فضاء المدينةبأصوات المؤذنين و أجراس الكنائس ترحيبا بيوم جديد. في هذه الأثناء تزحف أشعة الشمس فوق السطوح، ملاحقة الظلال وهي تتجاوزالأسوار الواطئة المحيطة بالسطوح من كل جوانبها، فيفتح الأطفال عيونهم، وحال إكتشافهم لضوء الشمس يغطون وجوههم تحت الأغطية، حتى ترغمهم حرارتها فيما بعد على التنقل من سرير الى آخر حتى تستولي أشعة الشمس على كافة المساحات.
الشوارع والأزقة تزدحم بالنساء والرجال والأطفال الذين يسيرون بهدف أو بدون هدف في فضاء لا ينتهي: بعضهم يطلق الشتائم لاعنا الشيطان ومبشرا بقرب إنتهاء العالم بسبب الفساد المنتشر في الأرض، فيما يناقش البعض الآخر بعصبية وأحتداد أمورا قد لا تحصل مطلقا او ممكن أن تحصل خلال الساعات القادمة. ثمة رجل يجلس على الرصيف ويتصفح جرائد قديمة باحثا فيها عن مستجدات الأمور. ضجيج السيارات يكاد أن يطغي على ضجيج المارة وبين وقت وآخر يخرج سائقوا السيارات رؤوسهم من نوافذها، يشتم بعضهم البعض ثم يلتفت بفخر الى أفراد عائلته أو زبائنه باحثا عما تركت شتائمه من أثر عليهم. بائعون متجولون يتنقلون من زاوية الى أخرى بحثا عن مشتر لبضائعهم. في زاوية ما، ربما هي زاويته المفضلة يرفع أحدهم علبة من الصفيح وهو يعدد الحشرات التي يمكن القضاء عليها من خلال إستخدام محتوياتها. في هذه الأثناء تنسحب الظلال بالتدريج وتزداد قصرا، بينما يحتل ضوء الشمس الشوارع والحارات ويتسرب الى المساجد والكنائس ويستقر عند محاريبها وعند قضبان الأضرحة الذهبية المزينة بقطع ملونة من القماش جلبها الزوار أملا في أن يحقق الأولياء آمالهم. وسط الزوار يسير رجال يحملون في أيديهم أباريق مذهبة تحتوي على "ماء الورد" ، يرشونه على رؤوس الزوار وهم يرددون أدعية لا يفهمها أحد. وتمتزج رائحة ماء الورد برائحة البخور لتضيع وسط سماء من الجبس وشظاياالمرايا التي تتلقف ضوء الشموع لتلقي به من جديد على وجوه الزوار. في إحدى الزوايا يجلس طفل لم يتجاوز الثانية عشر من العمر، يرفع يده ليلمس بأصابعه الشظايا، ثم ينظر من خلال القضبان الى الأحجار الكريمة الموزعة فوق قطعة قماش خضراء داخل الضريح: قطع كبيرة من الماس والياقوت واللؤلؤ، جاء بها أصحابها من أقصى زوايا الأرض وتركوها هنا هدية للضريح. في كنيس مهدم ينطلق صوت عميق ، ملئ بالأسرار، يدور من زاوية لأخري ليستقر أخيرا في جدران المدينة.

2- الظهيرة

شمس شاحبة وسط سماء لا لون لها ترسل أشعتها الساخنة الى الأرض. الأسفلت يذوب ويتحول الى كتلة سوداء تلتصق بعجلات السيارات وتمنع الأطفال ذوي الأقدام العارية من القفز على دعامات السيارات العابرة لغرض التنقل مجانا من مكان الى آخر دون أن يلاحظهم أحد. الطيور تختفي تحت قبب المنائر العديدة التي تملأ سماء المدينة في الوقت الذي تلجأ فيه السنونو الى السقوف التي تغطي حمامات المدينة لتحمي نفسها من الحر. وسط إحد الشوارع، عند موقف للتاكسي قرب مخبز للخبز يتوقف رجل بشكل مفاجئ ويخلع بذلته الأنيقة، ربطته الحريرية، قميصه وملابسه الداخلية، يصفها فوق بعضها بشكل منتظم ثم يخطو عاريا بضعة خطوات وسط الشارع تحت أشعة الشمس الحارة، ليعود مرة أخرى الى كومة الثياب، يرتديها بمنتهى الهدوء، ثم ينفض الغبار بيده اليمنى عن بذلته ليواصل مسيرته. سواق السيارات يتسابقون في الشوارع الضيقة، بينما يستخدم رجال شرطة المرور الصفارات محاولين عبثا إرشادهم الى الصواب وفي النهاية يرمون الصفارات غضبا ويلجؤون الى أقرب مقهى ليدفنوا حنقهم على سواق السيارات والمارة وسكان المدينة في كأس من الشاي ورشفة من الماء البارد. ببطء يهيمن الحر على الشوارع. في هذه الأثناء يهرب من يمتلك شيئا من النقود الى داخل صالات السينما المكيفة بعد أن يتناول زجاجة من البيرة الباردة في الحانة الواقعة عند المنعطف، ليغط في غفوته في الوقت الذي يقوم فيه جيمس بوند على الشاشة الفضية بتصفية الأشرار من مختلف المشارب.
عند مدخل زقاق يؤدي الى النهر هناك جيف لكلاب فطست بسبب الحر أو قتلت ببنادق صيادي الكلاب السائبة، تتجمع حولها الغربان التي تغطي السماء غير مكترثة بالطقس. تحت ظلال الشناشيل تنتشر روائح المأكولات التي يجري إعداها خلف أبواب البيوت. وبين وقت وآخر يطل من أحد الأبواب رأس امرأة، تصب سطلا من الماء على الإسفلت، ثم يختفي. الحرارة تزحف فوق سطوح المدينة وتلتهم البنايات المرتفعة التي لا تتناسب مع بناياتها التقليدية لتستقر فوق السطوح آخذة بالإنتفاخ، في حين تستغل القطط والكلاب السائبة إختفاء البشر من الشوارع لتستولي عليها، وقد تتمكن بعضها من إختطاف قطعة من اللحم من أحدى المحلات المفتوحة الأبواب أثناء استغراق اصحابها في قيلولتهم.
تحت ظل بناية مرتفعة تتمدد مجموعة من الأطفال المشردين، يمسك كل منهم بخرقة من القماش مشربة بالبنزين، وقد حطت أسراب من الذباب على شفاهم الجافة، وأحاطت بهم قبة غير مرئية من رائحة البنزين.

3- المساء

السنة من النار تمتد عند السماء الغربية، تحيط بالشمس الآخذة بالغروب. على جانبي النهر ترمي الفوانيس أضواءها على الأسفلت ثم سرعان ما تدفع بها جهة النهر لتغتسل بمياهه في حين تختفي الشمس مرة واحدة من الفضاء تاركة إياه للظلام. نساء مغطيات بالسواد يضعن أكاليل مزينة بالشموع في الماء فيحملها النهر معه الى مملكة الظلام، حيث يسكن الموتى. وبين حين وآخر تهمس إحدى النساء شيئا في أذن جارتها، ببينما تراقب الأخريات بعيون دامعة الشموع العائمة وسط الليل.
يقطع النهر طريقه في قلب المدينة محتضنا حشودا من الأطفال الذين يسلمونه أجسادهم بعد يوم من الحر القائظ. يتزين الكورنيش بالأضواء وتفتح البارات والمقاهي الواقعة على ضفة النهر أبوابها لتستقبل الزوار الذين يلجأون إليها ليستمتعوا بالمشروبات والأراكيل والطعام بعد أن أفترست الحرارة أعصابهم . ثمة شاعر يدير ظهره للنهر ليقرأ قصائد لا يستمع لها أحد.
في شوارع المدينة الرئيسية يهيمن الضجيج: أبواق السيارات وصخب المشاة وصراخ الأطفال. المارة يتدافعون فيما بينهم، يصرخ أحدهم في وجه الآخر أو يضيع نفسه وسط موجة المشاة دون إتجاه محدد. السماء المليئة بالنجوم تزداد زرقة وتنحني على المدينة. في زاوية ما يقف شاب وصبية يعدان النجوم رغم معرفتهما بأن ذلك يجلب الشر، وهما بإنتظار
الكارثة.

القصص الثلاث هذهمأخزذة من مجموعة قصص مكتوبة باللغة الألمانية مباشرة تحت عنوان: "مدن افتراضية".