اعتدلَ في جلسته على السرير وندوب القلق ظاهرة على تقاسيم وجهه. وضع الوسادة خلفه واستند عليها, ثم سحب سيجارة من مخبئها واشعلها واخذ يمتصها بعمق. بدا وكأنه للتو غَزَت مادة النيكوتين حلقه.
ظلت تنظر اليه رفيقته وهي مستلقية بجانبه. جرّت اللحاف بروية وغطّت به جسدها العاري وبقيت تنتظر. منذ مدة وهي تحس ان رفيقها صار يحمل شيئا مزعجا في صدره، وان ذاك الشيء يكبر في داخله يوماً بعد يوم ككرة ثلج متدحرجة من قمة جبل جليدي. بقيت تتأمله بصمت رهيب الى ان تلاشت ملوثات السيجارة في رئتيه وتطايرت ادخنتها في ارجاء الغرفة...التفتَ اليها بهدوء مفتَعل وقال:
- صوتك عال جدا... وكابوسك طويل أمَدُه...
نظرت اليه بنفس الهدوء المفتعل الذي ارتداه قبل لحظات واجابت بنبرة سؤال
- صوتي عالٍ؟؟
اجابها بسرعة...
-نعم صوتك عالٍ وبدأ يثير قلاقل من حولي..ويقززني..
تفاجأت به ..لم تتصور ابدا انه سيأتي اليوم الذي يعلن فيه لها هزيمته بهذه البلاهة وبهذا السخف...كانت تُدرك انه بدأ بالتراجع لكن ليس بهذا التسارع..ظلت محتفظة بهدوءها ولملمت نفسها وقالت:
- صوتي عالٍ على مَن؟؟ على ذئاب المدينة وكلابهم؟؟ الستَ انتَ من قال لن نقبل ابدا ان نكون جزءا من القطعان..؟؟ او لم تقل لي ان الذئاب اصبحت ذئابا لأنها ادركت ان مَن حولها بهائم ونعاج همهم اجترار قوتهم اليومي، واشباع رغباتهم الجسدية البليدة...؟؟ اولم تعلمني ان الذئاب والكلاب تخشى النسور المحلقة في الفضاء لأنها لا تقوى على النيل منهم...؟؟ الم نتفق معا على ان نظلَ نسورا كي نحتفظ بنضارتنا ووحيويتنا بعيدا عن تلوث هذا العالم؟؟
شعرَ انه وضع نفسه في زاوية حرجة، لأنه نسي ان ذاكرة رفيقته دائما متأهبة لتسرد التاريخ بدقة.. واحيانا بتفاصيله المملة.. تداركَ نفسه بسرعة والتفت اليها مظهرا اهتماما زائفا واجاب:
- حبيبتي.. نعم انا قلت كل هذا ولن انكره ابدا.. لكن يا عمري كابوسك امده طويل والحياة لا تنتظر...
اعتدلت في جلستها وهي ممسكة بمفرش السرير الناعم بكلتا يديها لتواري نهديها النافرين..وردت عليه
-كابوسي انا طويل الأمد؟؟؟ كابوسي وحدي؟؟ اليس كابوسي هو كابوس العالم بأسره.. الا ترى ان من يدير دفعة العالم هم الاشرار وسارقو احلام الضعفاء من البشر؟؟ ألمس التربة في اي بقعة على هذه الأرض وستحس بالحمى التي اصابتها.. تنفس الهواء بعمق وستشعر انه بات بلا طراوة ولا رطوبة.. ارفع رأسك وحدّق في السماء وستُعلمك عن الخنجر الذي غُرس في خاصرتها وفتق طبقة الازون فيها.. إلتفِت الى البحار والمحيطات والغابات وستُدرك مدى بشاعة البشر في التعامل معها ومع مخلوقاتها.. تأمل وجوه سكان العالم الثالث وستعلم كم من الحياة اُخذت منها.. وكم من احلامهم وامنياتهم هُشمت..
تملل منها كثيرا ورفع نبرة صوته قائلا..
-انا لم اطلب ليلة مع شهرزاد لتعلمني وتوعظني عما يجري في هذا العالم...
وبدون تفكير اجابت:
-وانا لم اطلب ليلة مع حلاج يخشى موته...
مرّت ثواني صعبة بينهما ..احسَّ بجمود الحيطان وبلادتها.. ارادَ ان يُعالج الموقف من زاوية اخرى فقال:
- حبيبتي كل ما اطلبه منك هو ان تخففي قليلا من تعرية واقعنا المرير.. قلمك حاد جدا.. اصبح كمشرط تشريح بين يدي معتوه، يشقق في بدن هذه الأمة يمينا وشمالا بدون هوادة...
لم تتمالك نفسها في تلك اللحظة ضحكت بصوت مليء بالسخرية .. ونهضت من الفراش بعد أن لفّت الغطاء حول جسدها الفتي وواصلت قهقهتها العجيبة والدموع تذرف من عينيها..ثم صمتت لبرهة..ووقفت تحدّق فيه والخيبة كست معالمها وهو جالس على السرير فأردفت قائلة:
-حبيبي...هل صرتَ كبشا؟؟ أهذا ما آلت اليه روحك؟؟ كبشا؟؟ يا للخيبة.. للخيبة!! يا سيدي البهائم هي التي تخشى الأدوات الحادة خوفا على نفسها من الذبح!!!! ذكرتني بوزير الأعلام الذي قدّم لي عرضا مغريا قبل ايام ورفضته... طلب مني ان اكون جزءا من وزارته وامثلها في المحافل والمنتديات في الخارج.. بشرط ان لا اكتب بحدة... يا عزيزي.. الحقُّ صوته قوي وحاد.. الأمانة صوتها صاخب ومقلق.. الوطنية الصادقة صوتها حاد وعالٍ... ليس قلمي..
تعجب منها.. لم تخبره قط عن ذاك العرض من قبل، فأسرع بالسؤال:
-ماذا قلتِ؟؟ قدموا لك عرضا ورفضتِه!! انتِ مجنونة.. هل انتِ سعيدة بقمقمك هذا؟؟ فرِحَة بهذه العزلة؟؟؟ اضعت فرصة العمر بغرورك وغطرستك...
انتفضت قليلا من إهانته المبطنة... واجابت:
- نعم انا سعيدة بعزلتي... وانت ستصير أٍسعد حين تنضمّ قريبا لقطعان بهائم المدينة، سيحتفون برجوعك اليهم.. وسيفرح الذئاب والكلاب بعودة كبش كاتب سمين ومثقف مثلك.. وانا متيقنة من ان هناك نعجة حلوباً ستحتضنك وسترضعك من بلاهتها وسماجتها... لاتخف.. وبالمناسبة سيصبح قمقمي أحلى بدونك...
بعدها انتصبت بخيلاء الثقة والشموخ ودارت وجهها ناحية النافذة واعطته ظهرها، وصارت تحدّق في الشارع وفي الانوار المضيئة وفي اللاشيء... عرف حينها ان لا مكان له هنا.. نهضَ من الفراش والتقط ملابسه المتناثرة على الأرض وصار يرتديها بسرعة وكأنه جندي مطلوب في مهمة..
غادر الغرفة مسرعا دون ان يزرّر قميصه، ونزلَ من الدرج وأقدامه تلتهم العتبات على عجل.. خرجت وراءه ووقفت على اعلى السلم وهي ملتفة بالغطاء وقالت له بصبغة كلها تهكم...
-على طاولة quot;الانترَيquot; محفظتي يا حلو.. خذ اجرتك قبل ان يجف عرقك..
التفتَ اليها بحنق وغمغم بشتائم لم يجرؤ ان يسمعها اياها.. ثم صفع الباب وغرِب...
عادت الى الغرفة ووقفت امام نافذتها وقد حرَّك رفيقها سيارته متجها الى الشارع.. وتلاشى كالوَهم بين السيارات... ظلت تتمعن في المارة والبائعين المتجولين.. والنساء المتشحات بالسواد حيث يعبرن الطرقات بحذر وريبة.. والرجال بثايبهم البيضاء البليدة وغترهم التي تكمكم ادمغتهم.. يمشون ويتلفتون كالضباع الجائعة التي تبحث عن فريسة سهلة...
بقيت تحدّق في المكان لوهلة وهي تمتم بصوت غاضب:
-ما اكثر بهائم هذا البلد...ما اكثر بهائم هذا البلد...