أنا وصديقي في شوارع حلب الشهباء:
صدفةً التقينا في مقهى للإنترنت، كان مقهى متواضعا، سقفه كئيب، خدماته بطيئة وكل شيء فيه يُشعرك بالإحباط فلا تستمر أكثر من ساعة، سمته الوحيدة، رخص الساعة فيه. شهق لما رآني، ولم يدع لي مجالا أمسك بيدي وجرني للخارج، تبدو حلب رائعة بصخبها هذه الليلة فالعيد بعد غد والدنيا زحمة.
قرب الباب، أمسك برأسي بكلتا يديه، هزني بعنف حتى كدت أسقط، ومرة أخرى لم يدع لي مجالا لأن احكي له سبب زيارتي لحلب وأمطرني بثرثرته الرائعة التي تغمر روحي كعطر يضمخ الجسد. سحبني من يدي، وقال: سأعرفك على حلب شارعاً شارعاً، سأغوص بك فيها، سأغرقك في ليلها. سعدت به وكالطفل جرجرني وبدأ:
نحن الآن أمام إشارات المرور وهذا الشرطي ينظم السير، هيا نخترق السيارات والنظام. كدت أموت، لم يأبه وظل يركض بي، توقف فجأة أمام حانته المفضلة كما أخبرني وقال هنا أشرب جنوني وألتقي حبيباتي، وأشتم أصحابي، ابتسمت لروحه المرحة.
بقرب الحانة كان هناك مقهى فخم جميل، أبعدني عنه لأنه مقهى الأغنياء، لا أحد غيرهم يدخل هنا، قلت له فلنجرب الماء على الأقل، هيا ندخل. لا لا لا، صرخ بي، كأس الماء بدولار، لن نستنفد مالنا لأجلهم، الدولار له ثمنه، ثم انطلقنا ورأسه يدور هنا وهناك بحثاً عن الجميلات، وبكل بساطة يمكن أن يتوقف بسبب سيدة جميلة.
أتعبتني!!
لا يمكن، مازال الطريق طويلا، أحب حلب، أعشق شوارعها، ونساءها، لن أتركك حتى تغرز حذافيرها فيك. ركضنا إلى الجانب الآخر الذي قادنا إلى ....
من الصعب جداً أن تكتمل هذه القصة لأنني لم أزر يوما مدينة حلب ولم أطأ أرض سوريا، لِمَ أخدع نفسي وأدعي أنني أعرف شوارعها ومقاهيها وجدرانها حتى أنني وصفت ترابها ونساءها ومأكلها ومشربها. صحيح أن المسلسلات السورية تستهويني كثيرا وأتابعها بشغف فضولي وأنني من خلالها صنعت ذاكرة وألبوما لمعظم ما رأيت لكنها تبقى أرضاً في المشهد الصوري المزيف أو لنقل أنها ستصبح صورة مركبة قد أهمل أو أنسى فيها شيئاً بسيطاً أو مكاناً أو رائحة فينفضح أمري ويكتشفني كائن من كان أو حتى يمكن لطفل سوري أن يكشفني ويظل يعيرني بكذبي وخداعي وغبائي. صحيح، هذه خديعة وهذه الأمور اكتشافها سهلٌ جداً، لكن بالقراءة والبحث يمكن تفادي هذه الأخطاء.
سأترك هذا الهوس بعشق أماكن لم تطأها قدمي وأؤجل قصتي معها حتى ألمسها وحتى ذلك الحين لم لا أكتب قصتي مع صديقي في منطقة اعرفها، لم لا أختار مكاناً يعبق بالذكرى الحية.
أوووه، ما أكثر الأماكن التي زرتها، لماذا لم تكن حلب من بينها حتى أكتب قصتي وأنتهي منها بدون تعقيد؟ حسناً يجب أن أفكر ملياً في ماهية المكان الذي سأكتب قصتي فيه.
أنا وصديقي في القاهرة الجميلة:
بينما كان نسيم الربيع القاهري يتناول خلاياي واحدة واحدة كل ثانية فيأخذها إلى الغيم أو ينثرها بين الأعشاب الباردة في ذلك الوقت من الليل، سمعت صوتا يترنم بأغنية قديمة أذكرها تماما وأحبها ولي معها ذكريات جميلة. quot; ليااالي الأنس في فيينا...نسيمها من هوا الجنةةةةquot;.
الصوت كان ناعماً وهادئاً، وأيضاً لم يكن غريباً علي. التفت لأمنح ابتسامتي الصوت العبق بالخمر الأسمهاني (هكذا كنت أسمي من يجيد غناء أغاني أسمهان)، ففوجئت بأنف معقوف رافقني صاحبه سبع سنوات من أجمل سني عمري. إنه أمجد، صديق المجد والسمو والصعلكة. إنه أمجد يا إلهي بعد هذه المدة نلتقي هنا على شاطئ النيل؟ هل تعرف إليّ؟ أتمنى ذلك...اقتربت منه حملت له ابتسامة ود وتفحص بوجهي ورفع يديه كمن يكتشف كنزا...صرخ...عيسىىىىىىىىىىى، واتجهنا لبعض بقوة مغناطيسين شحنتهما الحياة تحت جيوبها حتى أصبحت طاقتهما كافية للعناق من على بعد كيلومتر واحد. تعانقنا وتحدثنا وقصصنا القصص وأتينا بالحديث والقديم ونحن ما نزال على شاطئ النيل الرائع والنسمات الرائقة لنا وبنا.
اتفقنا أن نتعشى سوية...ونستعيد بعضا من صعلكتنا كما هو ديدن الأصحاب. أول مطعم يقابلنا كان مضاء بألوان عديدة...رائحة الطعام والزيت والجبن والعسل واللحم المشوي بأشكاله والدخان، تتسلل إلى أقدامنا لتخترق دماءنا. اسم المطعم كان غريبا وجميلا quot; معسكرات الفوضىquot;، ضحكنا من الاسم وعلقنا عليه وحللنا تاريخ صاحبه. امجد قال أنه ربما كان بقية باقية من الحرب العالمية الثانية وورثه أحفاده مع اسمه. كان متأكدا انه أوصى بعدم تغيير الاسم. أما أنا فكان رأيي مختلفا، كنت أرى أنه كاتب فاشل حاول كتابة ديوان شعري أو رواية وفشل ثم هداه شيطان الأدب إلى هذا الاسم فكان حصيلة نتاجه الأدبي. ضحكنا كثيرا حتى وصلنا وبدأنا في طلب الطعام المصري الأصيل كـ ....
كالملوخية ...
كمحشي ورق العنب
أوووه ...
مرة أخرى هناك فرصة لانكشافي، لا أجيد رص الأطباق المصرية حتى لو كنت أعرف أسماءها، لأنه لا يهيأ لي بأن الناس تطلب الملوخية أو محشي العنب في المطاعم. ولكن ربما تفعل. يا لهذا الدماغ ويا لهذا الإفلاس المدقع.
حسناً بإمكاني أن اكتب عن آلاف المدن والطرق والقرى والشوارع والبيوت والمتاحف والحدائق، بإمكاني أن ازور اليونان وأسبانيا وصقلية وسويسرا واليمن وليبيا. نعم بإمكاني أن أصل لجميع هذه المناطق بقلمي فقط. إن كانت الدنيا عدوتي فقلمي ليس كذلك.
سأسافر بقلمي بقلمي وأشتري بطاقة السفر من التلفزيون وبرامجه ومسلسلاته، الدنيا واسعة ومصادر المعرفة كثيرة والناس الآن لا تدقق في القراءة قد تمر هذه الأشياء البسيطة عليهم مرورا عاديا وكأن شيئا لم يكن. كنت أعلم أني سأصبح كاتبا عالميا مشهورا وسأقول في مقابلاتي أنني كاتب زار العالم كله، يجب أن تشتهر هذه السلسلة من مجموعة أنا وصديقي. أعرف أنني فشلت في كتابة ديواني الشعري الأول الذي أسميته quot; الرجل الذي يحب صنع الحلوى الجديدةquot;.
لم أكن أحب صنع شيء، لذا كانت كذباتي واضحة لأنها تفتقد روح الثقة، والكذب متعب جدا بالنسبة لي. لم أستطع أن أكتب عن طبق واحد بالرغم من أني بذلت الكثير من الجهد في قراءة كتب الطبخ وغيرها والآن لا أستطيع أن أروي حياتي بمدينة واحدة من كذبة. هناك تفاصيل تتعبني.
ومع هذا لن أيأس ...
أنا وصديقي في لشبونة:
كل ما أعرف ما أعرف عن لشبونة أنها مدينة تاريخية، لذا فقد أغراني التاريخ الطويل الساكن بها على زيارتها، كان أمرا سهلا وجميلا. حين وطئت قدمي أرض المطار شعرت بأنغام الماضي ترتفع فوق رأسي، وبشوارعها المكتظة بدأت أحلق في هذا وذاك.
كانت الشوارع ....
كاتبة ومترجمة
[email protected]
التعليقات