إثر نكسة حزيران عام 1967، وما تركته من إحساس بالمرارة، وشعور بالغضب والسخط في نفوس الشريحة المثقفة من العرب تجاه الأنظمة العربية الحاكمة، والواقع العربي، وأنماط التفكير فيه، وأبعاده الثقافية، ظهرت مجموعة دعوات الى إعادة النظر في أسس الثقافة والحضارة العربيتين، وتأسيس مشاريع إبداعية وفكرية تتسم بالأصالة، وتستند الى معطيات البيئة العربية المعاصرة، وإرثها الحضاري القديم، وتكسر المفهوم الانعكاسي في الثقافة، او التبعية لمراكز خارجية وغريبة، وبخاصة الغربية منها. ومن تلك الدعوات، في إطار المســـرح، دعوة جماعة من المسرحيين في المغرب الى (الاحتفالية) بوصفها مشروعاً عربياً مسرحياً وجمالياً ومعرفياً بديلاً عما هو سائد من اتجاهات مسرحية مستنسخة في العالم العربي. وها قد مضى أكثر من ربع قرن على ظهور أول بيان للاحتفالية، فهل صمدت تنظيراتها ومبادؤها أمام الخيارات الجديدة والقديمة لنظرية المسرح ؟ وما هي نقاط قوتها وضعفها؟ وهل هي بالفعل تشكل قطيعة مع المنهجين البارزين في المسرح الغربي: الأرسطي، والبريختي؟ وماذا حققت للمسرح العربي خلال ما يزيد عن عقدين ونصف من عمرها؟ وهل انفض عنها مريدوها أم مازالوا متمسكين بها في تجاربهم المسرحية؟ ولماذا خفت صوتها في السنوات الأخيرة؟
أسئلة كثيرة مثل هذه الأسئلة وغيرها تثيرها إعادة قراءة الاحتفالية، وبخاصة كتابات منظرها الأول، وصاحب أبرز نماذجها التطبيقية، أو نصوصها، عبد الكريم برشيد، وتأمل المشهد المسرحي العربي بحثاً عن تجلياتها في تجاربه المعاصرة التي تتاح للباحث والمتتبع مشاهدتها، او قراءة ما يكتب عنها في الدوريات والصحف العربية ولأن كُتب برشيد الأخيرة حول الاحتفالية، ومنها (الاحتفالية في أفق التسعينات، الاحتفالية الى أين؟ ) تغني عن العودة الى بياناتها، فإنني سأعتمد الكتاب الأخير مرجعاً للكتابة عنها، مفصلاً في قراءة محاورها الأساسية: مفهوم الاحتفالية، وأفقها، و دوافع ظهورها، وأهدافها، ورؤيتها للمسرح العربي، الاحتفالية بوصفها اختياراً حضارياً، الاحتفالية والاختلاف، الاحتفالية وعلاقتها بالإبداع والحداثة والتنظير والتمسرح والتراث والحقيقة والتجمهر، إضافة الى موقعها في المسرح العربي في ضوء التساؤلات الآنفة..
الاحتفالية: مفهوماً وأفقاً
إنطلاقاً من رؤية برشيد للاحتفالية بوصفها مشروعاً مسرحياً معرفياً جمالياً، وموقفاً فكرياً وجدانياً انقلابياً، فإنه يتوسع في تعريفها، وتقديمها لنا على أساس أنها:
- رؤية قبل كل شيء.. رؤية متحركة لعالم يضطرب بالحركة.
- موقف من هذا العالم الواضح الى حد الغموض، والغامض الى حد الوضوح.
- اجتهاد نظري وإبداعي .. يخرج من حدود (الأنا) المنغلقة الى (النحن) المنفتحة. اجتهاد يجري داخل ورشة مفتوحة للتطوع الإبداعي.
- التفكير بصوت مرتفع، والحلم بأعين مفتوحة.
- طموح مشروع لخلخلة بنية المسرح وإعادة تركيبه بشكل آخر مغاير ومختلف.
- محاولة لإيجاد فكر جديد ينظم العلاقة بين الإنسان والإنسان، وبين الإنسان والمؤسسات والمفاهيم والأشياء.
- اختيار حضاري بديل، ومغاير لكل الاختيارات التي أدت الى الاستعمار والهزيمة والسقوط والتبعية.
- محاولة لتحرير المسرح العربي من الفلكلورية، وتدمير المفهوم الانعكاسي للثقافة، المفهوم الذي يجعل الغرب هو الأصل، وما سواه مجرد انعكاس مشوه ومزيف، ولا شيء غير ذلك.
- تستند الى احتفالية حضارية سابقة تتمظهر في المكتوب والشفهي، وفي العمران والأزياء والاعتقاد والأهازيج والأخلاق والآداب، وفي كل المظاهر الحضارية المتنوعة.
ويبدو الكثير من هذه التعريفات، او الأسس التي تقوم عليها الاحتفالية، ذا منحى إنشائي تعميمي، او تجريدي يمكن أن نجده في مشاريع مسرحية أخرى، فمن المعروف أن اتجاهات عديدة كالمسرح الملحمي، والتعبيري، والطليعي، والتجريبي في أغلب أشكاله، تسوُق نفسها على أساس أنها رؤية مغايرة، وتحمل موقفاً من هذا العالم وتنهض على اجتهاد نظري وإبداعي، وتطمح الى خلخلة بنية المسرح، وإعادة تركيبه بشكل آخر مختلف.
دوافع ظهور الاحتفالية
تتداخل دوافع ظهور الاحتفالية بالأهداف التي تسعى الى تحقيقها، فهي إضافة الى كونها جاءت استجابة لخصوصيات مرحلة السبعينات التي أعقبت نكسة حزيران، كما يقول برشيد، حددت مجموعة دوافع لظهورها من خلال استقرائها لواقع المسرح العربي، ورؤيتها النقدية لعناصره الأساسية: التأليف، التمثيل، الإخراج، والتلقي.
ومن أبرز هذه الدوافع:
1- بقاء المسرح العربي- لزمن طويل جداً- لايفعل شيئاً سوى أن يركّب مسرحيات مختلفة.. مسرحيات جل قطع غيارها، وكل نماذجها التي تستنسخها مستوردة، ولذلك كان ضرورياً أن ينتهي هذا الفعل العبثي، حسب رأي برشيد، لأن الأمر- قبل كل شيء- يتعلق بتأسيس صناعة مسرحية ثقيلة، صناعة تبدأ بإيجاد المحرك أولاً. ولا يمكن أن يكون هذا المحرك الاّ العقل المفكر والمدبر. العقل الذي ظل غائباً او مغيباً لزمن طويل في المسرح العربي. ومن هنا وجد الاحتفاليون لزاماً على أنفسهم الدخول في التنظير، كضرورة حتمية، لإخراج هذا المسرح من سكونيته وتبعيته
1ومدرسته القديمة فلا حياة لمسرح يكتفي بأن يكون ظلاً. ولا وجود لإبداع يقنع بأن يكون مجرد صدى.
2- بقاء المسرح العربي- لزمن طويل ايضاً- من دون خرائط، لا يعرف ماذا يريد لأنه لم يحدد له أهدافاً ولا مقاصد معينه. ونتيجة لذلك كان حتمياً أن يدور حول نفسه، يمارس الكتابة من أجل الكتابة، والإبداع من أجل الإبداع، من دون أن يتساءل: الإبداع المسرحي؟ كيف؟ ولمن؟ ومع من، ولماذا؟ والى أين؟
3- عدم قيام المسرحيون العرب بفعل حقيقي، وإنجاز أصيل يحمل ملامح أمتهم أو هويتهم القومية، بل ظلوا يتكلمون ولا يقولون.. يتحركون ولا يصلون.. يبتدعون ولا يبدعون.. ينقلون ولا يتمثلون.. يستظهرون ولا ينشئون.
4-أمية المسرح العربي، وتخلفه الفكري والجمالي. فبالرغم من إعطائه مسرحيات بكل تأكيد، فإنها مسرحيات بأعمار قصيرة، لا تدرج ضمن مشروع كبير.. مشروع فكري وجمالي طويل المدى، ومتعدد الأبعاد والآفاق.
5- حاجة المسرح العربي الى إحداث انقلاب جذري في شبكة العلاقات الاجتماعية السياسية. ولكنه ليس أنقلاباً دائماً، بل مرحلياً، وذلك لأنه يستدعي انقلابات أخرى مكملة أو مصححة أو معاكسة. ويبقى الجانب الأساسي في هذه العملية هو تغيير طبيعة العلاقات القديمة، ابتداءً من علاقة الممثل بدوره ووعيه ولا وعيه وذاكرته ووجدانه، و بالكلمات والزمان والمكان، وبالممثل الآخر، وبالملابس والضوء والأشياء، وانتهاءً بتغيير طبيعة المؤسسات المجتمعية والسياسية والدينية والمعرفية والجمالية المختلفة.
6-وقوف المسرح العربي في مفترق الطرق، حائراً متردداً بين المسارح والاتجاهات والتيارات والاجتهادات المختلفة. وبالرغم من أن كل تلك الصيغ مسرح، فإنها تختلف عن بعضها، وقد يصل الاختلاف الى حد التناقض والقطيعة. ويصف برشيد توزع المسرح العربي بين هذه الصيغ الغربية التي لاتكشف عن جماليات إنسانه- العربي- ولا تتسع لقضاياه، ولا تترجم فكره وروحه وإرثه الحضاري، بأنه تنكر للذات جعل كتابتنا تصبح ترجمة ً واقتباساً، وحول quot; إبداعناquot; الى مجرد نقل واستنساخ، وجعل اجتهادنا يصبح فعلاً بلا معنى. 7
- معرفة العالم لنا بشكل شيء، وبخاصة الغرب الأوروبي الذي يعرف فينا شرقه الخاص، شرقه الذي ارتجله، وزخرفه المستشرقون والرحالة والسائحون والمغامرون، شرقه الذي quot; فبركتهquot; الكتابات الأثنوغرافية، وزادته تأكيداً إبداعاتنا الفلكلورية التي هي نوع من الاستشراق المعكوس. ويرى برشيد أن تجارب الطيب الصديقي التي ترصد المظاهر المختلفة و المتخلفة في المجتمع، من أجل تقديمها لعين الآخر، العين العطشى للعجيب والغريب والمثير، تدخل في هذا الإطار، أي الاستشراق المعكوس. 8
- غياب التنظير عن المسرح العربي جرده من صفة العلم والفن ليصبح مجرد حرفة وصناعة، وحوله الى اشتغال عضلي يغيب فيه الفكر ويحضر الجسد، وبذلك صار تكراراً للجاهز والمعروف والشائع، عوض أن يكون فتحاً جديداً، ومعماراً مغايراً.
9- كون المسرح- كما يمارس عربياً- على رأي برشيد، متخلفاً ومهادناً ومحايداً ... مسرحاً استهلاكياً وتعليمياً وأخلاقياً، يكتفي يالقريب دون البعيد، ويفضل ممارسة السطح على ممارسة الغوص بالأعماق، والتأويل و التبرير، ويرسم الواقع وكأنه معطى نهائي، ويصور العلاقات الإنسانية وكأنها غير قابلة لأن تتغير وتتحول، وينطلق من رؤية غائمة ومضببة، ويحلق في إطار الأفق ضيق ومحدود. إضافة الى أن مواقفه غير نقدية، ومواضيعه محدودة، وشخصياته شبحية، ومطالبه محتشمه، ومصطلحاته مترجمة. هذه هي خلاصة رؤية عبد الكريم برشيد النقدية للمسرح العربي، وهي من دون شك رؤية قاتمة وإطلاقية لا نجد فيها أي صورة إيجابية، أو ملمحاً مشرقاً في تجارب أجيال عديدة من المسرحيين العرب طوال قرن ونصف. وقد شكلت هذه الرؤية دافعاً له ولجماعته لإطلاق بديلهم المسرحي الجمالي والمعرفي (الاحتفالية).
أهداف الاحتفالية
اختارت الاحتفالية أن توجد للمسرح العربي (إنجليه) الخاص، كما يقول برشيد، أي أن تعطيه الأساس النظري الذي يمكن في ضوئه أن يكتب المؤلفون، ويشخص الممثلون، وتبنى المسارح، وتقام المؤسسات، ويخلق النقد، وتصمم عناصر الفرجة المسرحية البصرية والسمعية، وهذا يعني أنها قدمت نفسها بوصفها مشروعاً تأسيسياً: تأسيس مسرح جديد، وواقع تاريخي مغاير، وإنسان جديد متحرر نفسياً واجتماعياً وفكرياً وسياسياً. وأزاء هذا الطموح الكبير، الذي لايخلو من الطوباوية، كان عليها أن تعيد ترتيب الكثير من الأوراق، على حد تعبير برشيد، فتتمثل الفن المسرحي في جوهره الحقيقي، وهو، من وجهة نظرها، احتفال اجتماعي شعبي ينطلق من حاجة فطرية لدى الإنسان. ومن هنا كان توقفها عند هذا الاحتفال ضرورياً وأساسياً، وذلك بأعتبار أنه درجة الصفر في الفعل المسرحي، بل أبو المسرح وأبو كل الفنون الأخرى، وأنه الديوان الذي يختزل ويختزن كل أشكال التعبير المختلفة. وقد بلغ هيام برشيد بالاحتفال الى درجة الاعتقاد بأن المسرح العربي يدخل، بفضل مشروعه، عصراً جديداً أطلق عليه اسم (العصر الاحتفالي)! وفي سياق رفض الاحتفالية للتجربة المسرحية العربية المقتبسة من تجربة المسرح الغربي، دعت الى تغيير كل المفاهيم المتعلقة بالتمثيل والأداء والإلقاء، وذلك لأن المسرح لم يعد، من وجهة نظرها، وهماً وخيالاً- كما كان- ولم يعد اللقاء المسرحي مناسبة للتفرج المحايد، بل أضحى احتفالاً شعبياً وحياً (نحن/ الآن/ هنا). ومن جملة ما دعت الى تغييره مصطلحات (العرض) و (التمثيل) و(السرد)، فأحلت محل الأول مصطلح (اللقاء)، وعوضت عن الثاني بمصطلح (الاحتفال)، واستبدلت الثالث بمصطلح (اللعب). واذا كان المصطلحان البديلان(اللقاء، والاحتفال) مقنعين الى حد ما، فإن استبدال مصطلح (السرد) بـ ( اللعب) غير مقنع تماماً، ذلك أن ( اللعب) مصطلح مرادف للتمثيل و التشخيص والأداء أكثر من السرد الذي هو مظهر تعبيري، او ضرب من ضروب الخطاب مرادف للقص في النقد الحديث عرفه (المعجم الموسوعي لعلوم اللغة) بأنه quot; نص مسرحي يجري تمثيله زمانياًquot;، ولا تقتصر دلالته على فن الرواية و القصة القصيرة، بل تتسع لتشمل بدلالتها: الحكايات الشعبية و الأساطير و الأحلام و الأفلام و المسرحيات ... الخ. وفي ضوء الفعل التأسيسي الذي انتدبت الاحتفالية نفسها لانجازه، فقد ادعت أنها جاءت لتحدث خلخلة عنيفة و قوية للمعرفة المسرحية، و لجمالياتها المختلفة من خلال تحقيق أهداف عامة كثيرة و متشعبة أهمها:
1- تعريب المسرح العربي يجعله مرتبطاً باللحظة التاريخية، مندغماً في التراث الفكري والفني والحضاري للإنسان العربي.
2- تحرير الظاهرة المسرحية من ثنائية الفن/ الحياة، والواقع/ الخيال، والمعيش/ المحكي، وجعلها تظاهرة واحدة، اجتماعية فكرية فنية وسياسية تسمى الفعل المسرحي. وليس ثمة غير زمن واحد هو الآن المرتبط بـ النحن/ هنا.
3- جعل المسرح فعلاً محرضاً على تحقيق الحرية الاجتماعية، وأداةً لتعرية الواقع من خلال إعادة إنتاجه بشكل أكثر صدقاً وحقيقة وواقعية.
4- تحرير الإنسان المبدع، حتى يمكن لخطاباته أن تصل، والمقصود بالمبدع هنا هو الممثل الذي تهدف الاحتفالية الى تحريره من خجله وخوفه والهروب من جسده، انطلاقاً من شعارها الذي جاء في أحد بياناتها، وهو( التعبيرالحر للإنسان الحر في المجتمع الحر).
5- قراءة الوجدان الشعبي قراءة مسرحية. ويتمثل الوجدان الشعبي- بشكل أوضح- في الاحتفال الشعبي، او العيد الذي اختزنت الشعوب فيه فكرها ووعيها، من منطلق (الحفل أصدق إنباءً من الكتب)، وليس السيف كما يقول المتنبي، ومن منطلق أن الكتب الصفراء هي جزء بسيط فقط من الإرث الحضاري العربي المخنفي في الأعياد.
6- تحرير الانسان، بشكل عام، من الآلية والوحشية على أساس شعار (إنسانية الإنسان وحيوية الحياة ومدنية المدينة).
7- الدعوة الى تحقيق مجتمع ديمقراطي يقوم على التساكن والتعايش والحوار ومشروعية التعدد والاختلاف.
8- نقل العلاقات في المسرح من طبيعتها السلطوية الإقطاعية الى طبيعة إنسانية وشعبية جديدة، من خلال إقصاء سلطة النص، وسلطة الإخراج، وسلطة الإدارة، وسلطة الشباك، وسلطة المنتج، وكل أشكال السلطة المختلفة، من أجل أن تجعل المسرح لقاءً إنسانياً مفتوحاً، يتحرر فيه الإنسان بالمسرح، ويحرر فيه المسرح.
9- جعل الفعل المسرحي فعلاً يقوم على التطوع، أي أن يكون فعلاً حراً، قائماً على الاختيار الحر، وليس فعلاً إجبارياً، فلا وجود في دولة المسرح، حسب تعبير برشيد، للعناصر/ الأسياد، والعناصر/ العبيد.
10- سحب البساط من تحت المخرج ووضعه تحت الممثل، لأن الثاني هو المتحرك، أما الأول فلا يوجد الحركة، بل يساعد عليها. إنه مثل quot; القابلةquot; لا يعطي الحياة، بل يساعد على إخراج الحي من مكمنه.
11- الاجتهاد والبحث عن مسرح يتأسس في تفاعله الحار مع الإنسان والمكان، وكل المعطيات التاريخية و الجغرافية والحضارية المتنوعة.
12- اقصاء مركزية الغرب التي بنت قوتها وسلطتها على حساب ضعف الأطراف وتلاشيها، لتكون هي- الاحتفالية- مركزاً تتحاور مع المراكز الأخرى، وأصلاً في ذاتها.
الاحتفالية والإبداع
بماذا يتميز إبداع الاحتفالية عن الإبداع السائد في المسرح العربي، الذي تنعته بأنه مجرد نقل واستنساخ وفعل من دون معنى، او هدف، يمارس الكتابة من أجل الكتابة؟
بدءاً يقول برشيد إن الاحتفالية هي الإبداع قبل كل كل شيء، إبداع أدبي وفني وفكري واجتماعي، لا يعرف له حدوداً معينة، ولا يمكن أن يتوقف عند نهاية ما. وهو يسكن الكتابة ويحيا داخلها، الكتابة بالكلمات والأشياء والجسد. وبهذا يتجسد في الكتابة / النص، وفي الكتابة / النقد، وفي الكتابة / التنظير، وفي الكتابة / العيش. وكل كتابة احتفالية هي في أصلها كتابتان متكاملتان، كتابة للإبداع وأخرى للتنظير يحضر فيهما المفرد والجماعة، والواحد والمتعدد، وكلاهما يحمل القيمة نفسها، فيتبادلان التأثير والتأثر والفعل والانفعال (يقول برشيد في مقدمته لمسرحيته (اسمع يا عبد السميع): إني أقيم نظريتي على أسس إبداعية. وأبني إبداعاتي المسرحية على أسس نظرية، وبهذا يتكامل الضدان لصناعة شيء يسمى الاحتفالية). ولكن برشيد يفرق بين النظرية والإبداع، مؤكداً أن النظرية رؤية عامة يحضر فيها معه الآخرون- أي كل الاحتفاليين- في حين أن الإبداع رؤية خاصة لا تحضر فيها إلاّ ذات المبدع، أي ذات الفرد التي تختزل ذات الجماعة وتختصرها، وتنطلق منها ثم تعود إليها. وإذا كانت الاحتفالية تياراً عاماً وشاملاً، كما يراها برشيد، لا تتوقف عند الجزئيات والخصوصيات الذاتية، بل تكتفي بأن تعطي خارطة عامة، فإن الإبداع الاحتفالي هو الذي يترجم الأساليب الخاصة، ويجسدها داخل التيار الواحد ذاته.
ماهي الفضاءات التي يتنفس داخلها الإبداع الاحتفالي؟
إن الإجابة على هذا السؤال هي إجابة على سؤال التميزأيضاً، فالخصائص التي تميز هذا الإبداع، حسبما يذهب برشيد، هي:
1- إن الشخصيات فيه تتحرك في أرض غير مألوفة ولا معروفة، إنها تخرج مما هو واقعي وطبيعي الى ما هو أسطوري، وتعيش داخل أرض الحلم والهذيان والأسطورة. وتتميز هذه الشخصيات بكونها، أولاً: تملك انتماءً مزدوجاً، فهي تنتمي الى الواقع، وذلك في تفاصيلها الفسيولوجية والنفسية والذهنية، ولكنها في كليتها تنتمي الى دولة الكتابة التي تقوم على نوع من التكوين الغرائبي. ثانياً: إنها حالات متدفقة لا تعرف إلاّ التغير والتحول.
2- إن الإبداع الاحتفالي، وهو يحاول الدخول الى عالم مغاير وغريب، تصبح لغته المسرحية قريبة من تلك اللغة التي تقترب بها من عوالم الطفولة، وبذلك فإنها تصوغ فضاءً شعرياً زاخراً بالإيحاء والدلالات، متماهية بمتخيل خصب.
3- يتعامل مع الواقع اعتماداً على مفهوم عام وواسع وعريض، الأمر الذي يجعله يستحضر الغائب، ويجسد المعنوي، ويشخص المادي، ويوضح الخفي، ويحرك الساكن. كل ذلك من أجل إعطاء صورة الواقع في كل أبعاده ومستوياته المختلفة والمتعددة، أي وهو كائن وممكن، وهو محتمل ومحال، وهو حقيقة او وهم.
4-لا يعتمد الحدث الواحد، بل يجعل الأحداث تتداخل وتتقاطع، تماماً كما يحدث في الحياة اليومية، إذ ليس ثمة أبداً أحداث مستقلة بعضها عن بعض، بحيث تشكل خطاً مستقيماً يصعد الى أعلى، كما هو الحال في البناء الأرسطي للمسرحية. ويرى برشيد أن معمار إبداعه الاحتفالي هذا على غرار ألف ليلة وليلة الذي يقوم على حكاية طويلة تتخللها حلقات صغيرة. وكذلك الشعر العربي القديم الذي ليس فيه التزام بوحدة الموضوع.
وفي حقيقة الأمر أن هذه الخصائص، او الفضاءات التي ينفس داخلها الإبداع الاحتفالي، كما يفضل برشيد تسميتها، نجدها في العديد من النصوص المسرحية العربية، قبل ظهور الاحتفالية وبعدها، فالشخصيات التي تتحرك في أرض غير مألوفة ولا معروفة، او تخرج مما هو واقعي وطبيعي الى ما هو أسطوري، وتعيش داخل أرض الحلم والهذيان، نجدها في بعض نصوص: يوسف إدريس (الفرافير)، الفريد فرج (بقبق الكسلان، وعلي جناح التبريزي وتابعه قفة)، محمود ذياب (باب الفتوح)، صلاح عبد الصبور (الأميرة تنتظر)، نعمان عاشور (لعبة الزمن)، سعد الله ونوس (الملك هو الملك)، يوسف العاني (المفتاح)، قاسم محمد (كان يا ما كان)، عادل كاظم ( الموت والقضية)، عزالدين المدني (ثورة صاحب الحمار، رحلة الحلاج، ديوان الزنج، ومولاي السلطان)، محمد الماغوط (المهرج)، محمد مسكين (عاشور، ومهرجان المهابيل)، وفلاح شاكر (ألف رحلة ورحلة، وألف حلم وحلم)، وفي نصوص غيرهم من الكتاب. كما نجد تقنية تداخل الأحداث وتقاطعها، والخروج على البناء الأرسطي، واستلهام الأشكال الدرامية الاحتفالية في العديد من النصوص العربية التي سبقت في ظهورها بيانات المسرح الاحتفالي، ومن بينها بعض النصوص التي أشرنا اليها، وكان هاجس أصحابها غير بعيد عن هاجس الاحتفاليين، وبخاصة التطلع الى كسر النمطية في المسرح العربي ومحاولة خلق ملامح خاصة به من خلال توظيف المظاهر شبه المسرحية، او الموروثات الشعبية التي تتجلى في أنماط مختلفة من الفرجة، والطقوس الدينية، والرقص، والسرد الشفهي والمكتوب
يتبع




التعليقات