تعوّدتُ دائماً أن أعتلي خشبة المسرح لأمثلَ دورَ الشاعر، العاشق، الصعلوك، المجنون، السلطان ، الجلاد.. لكني اليوم هنا، لا لأمثلَ، بل لأحكي عن ذلك الشخص الذي هو أنا، والذي كان شاعراً، عاشقا، مجنوناً، جلاداً... إنها رحلةٌ طويلة بدأتْ من الطفولة مروراً بالكواليس حتى أدوارِ البطولةِ ممثلاً ومخرجاً. حين كنتُ صغيراً كنتُ أحاولُ أن أكسـُـرَ خجلَ الطفولة، معتلياً خشبةَ المسرحِ، مرتدياً ثياباً جديدة. كم أحسـستُ حينها أنني مخلوقٌ جديدٌ يريدُ أن يطيرَ صوبَ السماءِ ملوّحاً بيديه إلى الأُفـُـق. هكذا كنتُ ومازلتُ أعتقد أنّ الولوجَ في عالمٍ آخرَ مثيرٍ، شيٌ يستحقُّ المجازفةَ ومغامرةَ الاكتشاف. إنه ولوجٌ يفتحُ آفاقاً ومعارفَ جديدة.
بداياتُ تعرّفي على الجسد كانت عبر ولوجي المغاراتِ الضيقة، حيث كنت أُمارسُ طفولتي سابحاً في مستنقعاتٍ آسنة، مطارداً الحيوانات في مخابئِها، ومتلصصاً على نزلاء مصحّة الشماعية، أو مقتنصاً فرصةَ اقترابِ أحدِهم من السياج لأمنحـَه سيجارةً طمعاً في حوارٍ مثيرٍ أو مشهدٍ أكثرَ إثارة. أو أتحرّشُ بالبناياتِ العالية، ماشياً على حافاتِها، أتمرجحُ بإطار الباب، راكضاً على سياجِ البيت، فاراً من ضيقِ البيتِ وواجبِ النومِ ظهراً، حافياً أتسكّعُ في أزقةِ مدينةِ الثورة، باحثاً عن مشهدٍ تمثيليّ جديدٍ ومثير، أو أتفرّجُ على شجارِ أطفالٍ أو على مجنونٍ يذرَعُ الشوارعَ، ساخراً منه، أو مشفقاً عليه، وأعودُ إلى البيت محملاً بالكثير من المشاهد التي أختزنتها الذاكرة لأعيدَ تمثيلـَها أمام إخوتي الصغار.
كبـُرتُ وكـبُـرَ معي هذا الانشدادُ إلى حركاتِ الأشخاصِ وإيماءاتـِهم وما تـُخبئـُـه خلفها من مشاعرَ ودلالاتٍ. ولم يـعـُدِ الشارع وحده مصدراً لهذه المشاهداتِ المثيرة، وإنما وجدتُ مصدراً لا يقلّ إثارةً. إنه التلفزيون بما يبثه من أفلامٍ ورقصاتٍ ومشاهدَ من عوالمَ بعيدةٍ وغامضة. كنت أتوسلُ صاحبَ المقهى، حيثُ التلفزيون الوحيدُ في قطاع 46، أن يسمح لي بالبقاء لمشاهدةِ فلمِ السهرة، أو برنامجِ (الرياضة في أسبوع) لأقتنصَ مشهد المتزلّجين على الجليد وحركاتِ أجسادِهم الراقصة.
هذه المشاكسات ولّدتْ لديّ إحساساً آخرَ بدأ ينمو ويكبـُـر ليأخذني في ما بعد إلى عوالم المسرح مأخوذاً بفكرةِ التمثيل، لأجدَ نفسي ممثلاً في المسارح المدرسية ثمّ لأُصبـِحَ عضواً في فرقةِ المتنبي المسرحية في مدينةِ الثورة. وكانت النتيجةُ الطبيعية لهذه التجاربِ أن توصلـَـني إلى معبدِ المسرح ، إلى أكاديميةِ الفنون الجميلة في بغداد.
هنا بدأت مرحلةٌ مختلفةٌ تماماً، لم تعد الرغبةُ تكفي، ولا المشاهدةُ تتوقفُ عند حدودِ الإثارة. الرغبةُ صارت مدخلاً للمشاركةِ الفعلية والانشغالاتِ الطموحة، والمشاهدةُ صارت مدخلاً للبحثِ والتساؤل اللذين لا حدودَ لهما. ولا بدّ أنّ ما تخزُنـُه الذاكرةُ من صورِ الطفولةِ قد دفعني في الاتجاه الذي وجدتُ فيه مساحةً كبيرةً للتعاملِ مسرحياً مع الجسد، ومع والحركة، فبدأتُ أولى تجاربي الجادةِ في هذا المجال عبر عملين مسرحيين من إخراجِ الفنان د. صلاح القصب، هما (أحزان مهرج السيرك) و(الحلم الضوئي). هذه التجربة أشعلت الفتيلَ لديّ فـرُحتُ أبحث عن كلّ ما يعمقُ لدي الأسسَ المعرفيةَ للتعاملِ مسرحياً مع الجسد سواءٌ عن طريق القراءة أو المشاهدة أو الممارسة الفعلية. وكانت المسرحية التي عـُرضتْ في بغداد للفنان العالمي مارسيل مارسو واحدةً من المشاهدات المثيرةِ والمتميزة، إلى جانبِ عددٍ من الأعمال العراقية ذاتِ الطابعِ التجريبي.
لن يتسعَ المجالُ للحديثِ عن تلك المرحلةِ الغنية والمليئة بالأحلام الكبيرة وكذلك بالكوارثِ الكبرى، حيث لا مكانَ للحلمِ في بلدٍ كان يترنحُ تحت سلطةِ الكابوس. الكابوسُ الذي كان يحاصرُ كلَّ ما هو جميل، يحاصرُ الجسدَ ورغباتِه، ويجعلُ منه أداةً للعنفِ ومشروعاً دائماً للموت لا أكثر. فكان لا بدّ أن أهرّبَ جسدي خارجَ حدودِ الكابوس إلى مدن الحلم. فكانت مغادرتي من العراقُ *بعد فترةٍ طويلةٍ وقاسية عشتها هارباً من الخدمةِ العسكرية ومن عيونِ السلطة.
وبعد سنواتٍ من التيهِ أوصلتني المتاهةُ إلى الأراضي المنخفضة. كان أعظم ما قدمته لي هذه الأرض هو الحرية: حريةُ أن أرى وأسمع وأتسكع وأرقص متى وكيف ما أشاء .. حريةُ أن أجرب وأجازف ، أخطئ وأصيب، أنجح وأفشل. بدأتُ أشتغل على المزج بين الشعر والجسد، بين موسيقى الكلمة وموسيقى الصمت في مسرحيتي (سمفونية المطر) و(أجمل الأحياء). ثم جربتُ أن أجعل من الجسد بديلاً كلياً عن اللغة في مسرحية (قلب ذاكرة). إنها سنوات من التعلم المستمر، من التساؤل والبحث والمشاهدات والتجريب.
كان الجسد بالنسبة لي عبارة عن قطعة قماشٍ بيضاء، صالحة للكتابة أو الرسم بالكلمات. لا يشتغل عليها إلا المهووسون بلغة الصمت وموسيقى الجسد. أُصبت بفتنة الجسد واستحوذ عليّ عِشقـُه وتشكيلاتـُه الضوئية المعبرة، وترك تأثيرَه عليّ ليجعلني مشدوداً إلى قدرات التعبير البصرية التي يخلـُقـُها. فهي قدرات تعبيرية تعتمد لغةً خاصة وتصل إلى المتلقي بشكل أسرع وأكثر تأثيراً. باعتبار أنّ سرعة الضوء تفوق سرعة الصوت، ولأن الصورة تعتمد كلياً على الضوء فإنها أسرع وصولاً إلى المتلقي.
وإذا كانت مادة الشاعر هي اللغة فإن مادة الفنان المسرحي هي الجسد. باعتبار أن (الجسد هو صمت العقل وموسيقى العين).
إن الاشتغال في هذا المجال (الجسد والحركة) يتطلب جهداً وصبراً ووعياً عميقاً بعالم الجسد. فإذا كان الصوفيّ يرى أنه (كلما تتسع الرؤيا تضيق العبارة) فإنني أرى أنه في المسرح (كلما تضيق العبارة يتسع الجسد)، حيث لا بدّ للممثل من أن يتوفر على قدرات خاصة في التواصل عبر جسده بين العالمين الداخلي والخارجي. الجسد هنا ليس وسيلة اتصال محايدة بل هو جزءٌ من عملية التواصل ذاتها، حيث يـُـصبـِـح الجسد مساحة تتمظهر فيها مستويات عدة من عملية التواصل الشعوري والفكري والجمالي. يكون الجسد هنا خفيفاً كالفراشة، شفافاً كالماء، رخواً كطينة النحات، يحلق عاليا وينطلق كالريح، ويقدّم نفسه قِرباناً في معبد الجمال.
يقول غروتوفسكي: لا بدّ للممثل أن يحمل ذهنية شاعر وقلب فنان وجسد رياضي.
كلّ هذه الصفات ضرورية لكي يكون الممثل خلاقاً يجيد التعبير بلغة الحركة عن المضمون المسرحي، حيث تغدو الحركة بديلاً عن النص المكتوب دون أن تفرط بالثراء الدلالي للنص. إن التعبير بالجسد هو بطريقة ما عودة إلى اللغة في أصلها القديم، فاللغة بدأت من الجسد وفي الجسد، وإذا كان الاستخدام الوظيفي للغة قد أخرجها خارج حيز الجسد فإنها في المسرح تعود إلى رحمِها الذي ولدت فيه.
لقد وفرت لي مدينة أمستردام فرصة كبيرة لتطوير قدراتي ومعارفي، حيث تمكنتُ من متابعتي دراسة المايم في مدرسة أمستردام العليا للفنون المسرحية، في هذه المدرسة كانت مساحة الحرية التي يملكها الطالب هي أهم ما لمستـُه من فروق بالمقارنة مع تجربتي الدراسية في بغداد. هنا يمكنك أن تقول كل ما تريد دون التفكير بسلسلة المحظورات الكثيرة التي كانت تحد من قدرة الطالب على الحوار الجاد وتحدد المخيلة في اكتشاف آفاق جديدة. في العراق كانت المحظورات تبدأ من طريقة الحوار مع الأستاذ أو مع الفنان الأكثر تجربة، وهو حوار محاط بالكثير من القيود الاجتماعية، ولا تنتهي عند قائمة الممنوعات التي لا يمكن التطرق إليها بحرية على خشبة المسرح والتي تشمل كل ما له علاقة بالجنس والدين والمواقف السياسية. كما وفر لي وجودي في أمستردام فرصة للإطلاع على مجموعة من الأعمال المسرحية الهولندية والعالمية. وفي مكتبة معهد المسرح (Theater Instituut) تمكنتُ من مشاهدة أهم الأعمال التي أسست لفلفسة جمالية ترتكز أساساً على تقنية الممثل وعلى الدور المحوري للجسد والحركة في عملية التواصل المسرحي. أعمال مسرحية لفنانين من أمثال دكرو, بيتر بروك، غروتوفسكي، مايرخولد، يوجين باربا، وتجارب من المسرح الياباني. هذه الأعمال لا يمكن الاستغناء عن مشاهدتها لمن يطمح إلى تحقيق منجز مسرحي قائم على أسس معرفية، نظرية وعملية. فهذه التجارب جميعها انطلقت مما سمي (مختبر الممثل)، حيث الممثل وجسده وما يختزنه الجسد الإنساني من طاقات هائلة وغنية هي العناصر المحورية إن لم تكن الوحيدة في مجمل العرض المسرحي.
لقد لعبت السلطة دوراً بارعاً في محاربة الفنانين ونجحت في ذلك إلى حدّ ما، مما دفع بعض الفنانين الجادين إلى العزوف عن تقديم الأعمال الفنية التي يطمحون إلى تقديمها إو إلى الهروب إلى المنافي بحثاً عن الحرية والانفتاح على التجارب المعاصرة في المسرح. بالمقابل كان على الفنانين الذين اضطروا للعمل في تلك الظروف المخيفة أن يلجأوا إلى أساليب أخرى للإفلات من سلطة الرقيب كاستخدام الرمز، أو العودة إلى التمثيل الصامت، فاللغة مفضوحة أكثر من التعبير الصامت الذي يمكن أن ينفتح على العديد من التأويلات مما يشكل حماية بطريقة ما ضدّ سلطة الرقيب.
ها أنا بعد كل هذا المشوار صار لديّ حلم:
لقد زال الكابوس عن الوطن وها قد بدأ زمن الأحلام، وليس حلمي سوى أن تتسع أرض العراق لفتنة الجسد فتتأسس فيه مساحة للاشتغال المسرحي في أجواء من الحرية تنطلق فيها كلّ الإمكانات المكبوتة والمؤجلة، أن يكون بمقدور كل عراقي حالم، وما أكثر الحالمين في العراق، أن يذهب إلى مكتبة الأكاديمية، في بغداد وفي غيرها من مدن العراق، ويطلب بضغطة زر أي مسرحية عالمية يرغب بمشاهدتها. أحلم أن يتحرر الجسد لكي تتحرر الروح.

كاتب المحاضرة فنان مسرحي عراقي مقيم في هولندا

*الدرسات النحوية القديمة تسمي حروف الجر وعملية الجر بحروف الخفظ وعملية الخفظ وعذرا لقولنا العراقُ فأردت خفظه فأبى إلا أن يرتفع.
*المشاركة التي قدمها الفنان الى ندوة ( المسرح والديقراطية) في لاهاي هولندا2004
* وقدمت هذه المشاركة ايضاً في جمعية فقراء بلا حدود بغداد 2005