الحلقة الثانية من "هكذا يشيّد بيتر بروك عالمه التخييلي!
لقاء الممثل والمتفرج، هو بمثابة لقاء بين عاشقين
يرى بروك إن هذه اللحظة المفعمة بالطاقة، يمكن تحقيقها في بعض الأحيان، ليس عبر الصوت فقط، بل عن طريق الصمت، والصمت المطلق!. يقول: (.. لاشيء يستطيع أن يعكس هذه المراحل المتباينة، بشكل أكثر سطوعاً، مثل ما تفعله الدرجات المتباينة للصمت: الصمت الإعتيادي، الصمت الأكثر إنفعالاً، الصمت الذي يمكن قطعه بسكين!.). ميضيفاً في مكان آخر:(.. ومن المحتمل تحقيق تلك اللحظة المفعمة بالطاقة أيضاً، عبر موجة الغضب، غضب الجمهور!. ومن المحتمل جداً أن المتفرج، وهو في طريقه للعبور إلى الضفة الأخرى "خشبة المسرح"، يتحول هو بدوره إلى ممثل!..).
إن تماس المتفرج والممثل، هنا في هذه المرحلة الأخيرة، يشبهه بروك بلقاء عاشقين: (.. الأرض تتفجر، وبعدها فجأة، يشعر الواحد، أن كل شيء جائز وممكن!.).
في هذه المرحلة بالذات، أي (KYU) يولد الجنين أو (الحدث)، أما ماسبقه من مراحل، فما هو سوى حالة من الإستعدادات أو شعلة الفتيلة، أو شيء يمكن أن نطلق عليه(الحدث الثانوي) وهكذا، ومن بعد وبشكل مفاجىء، تحدث عملية الإحتراق. أي، أن ثمة شيء ما ينطبع أوينقش بعمق في إحساس ووجدان المتفرج.
في ملحمة مهابهاراتا، يسأل الشاب الشاعر: لماذا كتبت هذه القصيدة؟ يجيبه الشاعر قائلاً: " كي تنطبع الفضيلة في قلوب البشر! ". هذا المقطع لوحده، مثلاً، يعتبره بروك غير قادر على توليد الحدث، وهو ليس أكثر من مجرد إنطباع، قائلاً: (.. لكننا لو نجحنا في إحداث عملية الإحتراق، وهي لحظة ميلاد الضوء، عندذاك فقط، يمكن أن تنطبع الفضيلة في قلوب البشر!..).
يعتقد المخرج الياباني Zeami، إن الإنفصال إلى هذه المراحل الثلاث JO-HA-KYU، لايقتصرفقط على العرض المسرحي، بل يمكن تطبيقه أيضاً على كل جملة مفيدة ملفوظة، كل لحظة، كل خطوة، وكل كلمة. وهكذا، وعبر هذه العلاقة الجدلية بين المراحل الثلاث، عبر هذه التجربة المشتركة، بين المتفرج والممثل والطاقة المسرحية، تنبثق لدى المتفرج حالة إدراكية نوعية لتمييز الحدث، تساعده على الغوص عميقاً لسبر أسراره، متابعاً إياه بإتجاهات سيره صوب تلك التخوم التي يتلاشى عندها ذلك الخط الوهمي الذي يفصل مابين المخيلة والواقع اليومي...
العبور إلى الضفة الأخرى
دعونا نعبر إلى الضفة الأخرى، لنطل على مايدور على خشبة المسرح، ولنرى بروك وهو يعمل مع ممثليه أثناء التمرينات Rehearsals. إن مايفعله بيتر بروك هنا، بل يكاد يكون جوهر عمله مع الممثل،هو(الإرتجـال Improvisation) سعياً منه، في الجوهر، نحو تفجير "الحدث الحقيقي". فهو يقول: (.. الإرتجال على المسرح هو عنصر فانتازي لايمكن الإستغناء عنه مطلقاً، فهو يّعلم ويكشف عن الطاقات والفعاليات الخصبة، لأولئك الممثلين الذين يبحثون عن الدرجات القصوى للحرية في عملهم، لكن ممارسة هذا العنصر دون مران وضبط ودقة ومراقبة وصرامة، ستكون نتيجته صفراً، أي، لاشيء على الإطلاق. وهذا الأمر، يشبه إلى حد بعيد، بحثنا عن الحدث، دون وجود إدراك كامل لمغزى وحقيقة اللا- حدث. لذا فإن الشيء الجوهري والإلزامي في ميدان الإرتجال، هو وجود إدراك غني وممتلىء بالواقع، وبخطورة أي شيء يحدث أمامنا.
الإرتجال وجب أن يكون نشاط بحث يدار من قبل شخص يسعى في محاولة منه إلى تفجير طاقاته الكسلى. يمكن، بالطبع، أن يكون الواحد في حالة من الهمود المطلق واللافعالية، رغم هياجه و عنف وقوة حركته وتنقله على المسرح. بكلمة أخرى، يتعين على الممثل أن يؤدي دوره ضمن حلقة العلاقة مع شريكه الممثل الآخر، تماماً كما في لعبة التنس، الممثل يرى شريكه ويلامسه عبر الفعل الذي يؤديانه معاً، ووجب على كل منهما أن يستجيب للآخر. أما العناصر التي تخلق ذلك التماس فمركزها الجسد والقلب والروح.. إنه نوع من الطقس، يشبه إلى حد ما، تلك المجاميع من الشعراء اليابانيين الذين يرتجلون القصائد الواحد تلو الآخر، في جو ينطوي على المخيلة، وعلى الحاسة الموسيقية وعلى الروح والفطنة والموهبة!. ولهذا السبب، على الإرتجال أن يمركز نفسه حول أكثر الأشكال الفنية صرامة ودقة، كالرقص أو الموسيقى الكلاسيكية.. الخ..).
الحرية التي يمنحها بروك لممثليه في بدء التمرينات على المسرحية وعبر عملية الإرتجال، تولـّد لديهم إدراكاً لمشاكل وأسرار العمل، وذلك عبر التشذيب المتزايد لخاصية التوسع وحرية التعبير عن المشاعر والأفكار، وحسن إصغاء الممثل لشريكه الآخر، لدرجة تصبح تلك الحرية، وبشكل تدريجي، قاعدة إستثنائية للصرامة والإنضباط مع النفس والعمل ككل. بعدها، وفي غضون أي عرض مسرحي، يستطيع الممثل أن يرتجل بالحد الأدنى أو الأقصى. وكل ذلك يتوقف على المعالجة والرؤية المسرحية للموضوع. المسألة الجوهرية هنا، هي تكثيف الطاقة وإعاقة إنتشارها وتشتتها عند الممثلين.
مرة أخرى يعطينا بروك مثالاً من اليابان فيما يتعلق بممارسة الإرتجال وتحقيقه بشكل صائب. فهو يشبّه الممثل الذي يسعى لتعلم هذا الدرس في الإرتجال، بمعلم التدريب الياباني لفن الرماية. يقول بروك: (.. إن الرامي يكون في حالة إرتجال، في كل مرة يسحب قوسه ويطلق. والحدث الجديد والحقيقي يولد فقط، حين يصيب السهم هدفه!. فلو أن الرامي إرتجل بطريقة غير متقنة، طريقة تفتقد إلى الحساسية، فإن الحدث سيختل ويكبو، مثلما يحدث للممثل حين يفقد إتجاهاته أو كلمات دوره، كلاهما يفتقر إلى عنصر جوهري، كل صغيرة فيه، تشبه إلى حد ما، الشيء العلمي اللانهائي بدقته وحساسيته.. ربما نستطيع أن نطلق عليه في ميداننا، بعنصر الرشاقة المصحوبة بالتركيز. وهكذا، بإرتجال بارع ورشاقة محددة، يستطيع الرامي أن يطلق ويصيب هدفه ولو بعينين مغلقتين.). سأتوقف هنا عن متابعة عنصر الإرتجال، حيث سأتعرض له في مكان آخر ضمن سياق موضوعة إنبثاق الشكل المسرحي.
إن الجوهري بالنسبة لبروك فيما يتعلق بإستخدام كل هذه الأساليب والطرائق، هو البحث عن تلك التأثيرات التي تشد إنتباه المتفرج أو تشتته. لذا فإن الفكرة التي تعتبر الحدث هو كل شيء، هي فكرة ناقصة! فالحدث عند بروك، على العكس من ذلك تماماً، هو لاشيء في البدء، ولايُفترض سلفاً على الإطلاق.. كل شيء سيولد بالتدريج..
الشيء المفاجىء وغير المتوقع، هو أخذ العناصر من الحياة نفسها ومحاولة تحريرها من الإبتذال والعادية وكل أنواع الضجر. محاولة بث النشاط في تلك العناصر من جديد، وإعطائها ألوانها وضياءها مرة أخرى.
كل هذه العوامل تشكل العصب الرئيسي في خلق الحدث، وشد إنتباه المتفرج، وبالتالي مشاركته الفعلية في سير ذلك الحدث حتى النهاية. حين يقول بروك إن الحدث هو لاشيء في البدء، يستخدم بدلاً عنه تعبير اللا- حدث، الذي يعني، سلسلة من الإشتراطات والمعايير المحددة علمياً، كخطوات أولى أو رسم بياني لميلاد الحدث، ذلك الحدث الذي يمكنه محاكاة الحياة، فقط حين يحتوي على حرارة الحياة نفسها!. كل شيء في المسرح عند بروك يتخذ شكلاً إختزالياً وسرمدياً، متجهاً برؤاه على الدوام صوب النواة والمركز في الحياة. وقد كتب مرة: (.. المسرح هو شيء سرمدي.. أما الموت فهو ليس سوى مظهره الخارجي أو قشرته..).
التجديد والإبتكار هما مركز نشاطه الإبداعي، فهو يعتقد إن على رجل المسرح أن يمتلك شيء من صفات الصحفي أو مصمم الأزياء، فكلاهما يخضعان لقانون التجديد، وعملهما يتطلب على الدوام عنصر الإرضاء والإغواء، وإلا تعرّض ذلك العمل إلى البلى والتمزق. فلأجل أن يصبح رجل المسرح جاداً، فهو ينصحه أن يعرف كيف يكون لعوباً!.
الشكـل مـرآة الحـدث
الموضوعة الثانية والجوهرية، تلك التي تسهم في صياغة بنية العرض المسرحي هي: الشكل. والشكل عند بروك، هو بمثابة مـرآة الحدث، أو بكلمة أخرى، هو الضوء الذي ينير عتمة الحدث. في الستينات من القرن الماضي، كان يهيمن نفوذ كل من "أنتونين آرتو" و"برتولد بريشت"، على جل تجارب بروك، وقد تجسد ذلك في عروض عديدة مثل (الملك لير) مع الممثل بول سكوفيلد، وكذلك في عمله التجريبي (مارا – صاد) لبيتر فايس، وعمله الشهير US أو (نحن وأمريكا) الذي تجري حوادثه حول الحرب في فيتنام، وفي تجاربه الشكسبيرية المتأخرة (هملت) و(حلم منتصف ليلة صيف) تلك التي قدمها من على أحد الملاعب الرياضية، والتي طبق فيهما رؤاه المبتكرة بشأن فكرة " المساحة الفارغة"، وفي عروض وتجارب مبتكرة أخرى، إستطاع بروك أن يكشف التضاد بين نظريتي آرتو وبريشت، أي التضاد مابين وسائل الصدمة والسكون التحليلي، وأن يتوصل إلى أسلوب ثالث يجمع مابين هذين الإتجاهين المتطرفين، والذي أطلق عليه حينها تسمية " العرض البصري "، وكان يومها، هو الأتجاه السائد لعروض فرقة شكسبير الملكية التي عمل معها بروك آنذاك. وفي الستينات من القرن الماضي، حدثت أيضاً ثورة ضد إستبداد ماكان يسمى حينها بـ " السرد الطولي " الكلاسيكي، كشكل من اشكال التعبير، ليس في المسرح فقط، بل في ميادين فنية وأدبية أخرى كالسينما والرواية..إلخ..
ففي ميدان الدراما أهمل الكثير من المخرجين هذا العنصر، بل وإستخفوا منه كثيراً، على الرغم من أنه كان يشكل عنصراً رئيساً لمركزة الحدث، وبروك، كان واحداً من أولئك المخرجين الذين ساروا في ذلك الإتجاه، إلا أنه وعبر تجربته الإبداعية المشتركة مع زميله المخرج والممثل " تشارلس مورافتس " في العمل على مسرحية هملت، إكتشف أن أسلوب السرد الطولي، هو من أكثر الأساليب فعالية، مقارنة بالأساليب الفنية الأخرى!. حيث قام الإثنان بروك ومورافتس، وبتصميم سابق في التخلي تماماً عن الأسلوب البنائي، قاما بتفكيك النص الشكسبيري عنصراً عنصراً، سعياً منهما في إعادة بناءه من جديد، وبطرائق مختلفة تبتعد قدر الإمكان عن التنظيم البنيوي المركزي.
كان الإثنان يبحثان عن شكل مباشر للتعبير، شكل لايتغذى على عنصر السرد الطولي. وكانت النتيجة التي توصلا إليها، ليس فقط أن السرد الطولي هو من أكثر الأساليب الفنية فعالية بالمقارنة مع أساليب التعبير الأخرى، بل إكتشفا أيضاً، أن الحكاية الفانتازية، إذا ما رويت بشكل متقن، يمكن لها أن تخلق قوة إستثنائية لعنصر " الترقب " بمحتوى المضامين السردية لتلك الحكاية.
عطني أية مساحة فارغة، وسأصنع منها مسرحاً حقيقياً
يشبّه بروك المكان أو المساحة بالمثلث الهندسي، قاعدته أو ضلعه الأساسي مخصص لوعي ومشاعر المتفرجين، أما ضلعاه الآخرين، فهما مخصصان إلى الحياة الداخلية للممثلين وعلاقتهم بالمشاركين معهم من الممثلين الآخرين. إن فكرة "المساحة الفارغة" تلك التي إبتكرها بروك، هي دراسة معمقة لموضوع الشكل، وهي إختبار لجميع الأساليب والأدوات، لغرض تطويعها لمستلزمات العرض المسرحي. فهذا الأسلوب يشترط إقصاء كل الأشياء الزائدة وغير الضرورية عن خشبة المسرح، كالأسراف والإفراط في إستخدام الأشياء في الحياة اليومية، إلخ.. وقد إرتبطت فكرة المساحة الفارغة بفكرة "الزمن المسرحي". فالزمن عند بروك، هو ليس الزمن الآلي الكرونولوجي الذي يجري ويتكرر في الحياة، بل هو زمن المخيلة، إنه الزمن المختزل، زمن الفكرة، الزمن السردي، زمن سرد الحكاية!..
المسرح حسب بروك، لايعيد أو ينسخ أو يحاكي المكان والزمان، كما في الحياة اليومية، وهو لا يسعى إلى نسخ الحياة أو محاكاتها، بل يقترحها ويوحي بها عبر طرق ووسائل بصرية واضحة، محرراً الزمان والمكان من شكلهما وإيقاعهما التقليديين، جاعلاً منهما إطاراً يسبح فيه الفعل المسرحي.
في المكان المسرحي، في هذه المسا حة الفارغة، في هذا الفضاء المكثف والمغلق، يجري الزمن بصورة حلزونية، وليس بشكل مستقيم. إنه الزمن المكثف، الذي لايخضع لعقارب الساعة الزمنية اليومية. إنه زمن المخيلة، زمن الحلم، الزمن الذي أقصيت عنه كل الأشياء الزائدة وغبر الضرورية، الزمن الذي يمكن في إطاره خلق أزمنة عديدة ومتنوعة..
إن الزمن السردي للحكاية يمكنه وفي وقت واحد، أن يتقاطع بشكل منشوري خلال الأبعاد الأخرى للزمن. وهو بالنسبة لبروك أشبه بلعبة الترجيعات الحرة أو تلك المرايا والإنعكاسات التي نعثر عليها في مسرح شكسبير. بكلمة أخرى، إنه زمن الحياة الداخلية، زمن الذكريات والمخاوف بشأن ما سيحدث في المستقبل. وأخيراً، هو الزمن السيكولوجي..
إن الكثير من الحقائق تظل محجوبة في الحياة اليومية، لكنها في المساحة الفارغة، تستطيع أن تتمركز وتتجسد وتدرك وأن تكون مرئية.
إن مظاهر الزمن الداخلي تتمفصل وتترابط بإتساق وإنتظام حول البنية الأساسية للمسرحية. وهكذا، فالزمن المسرحي، زمن الحكاية، هو من أغنى العناصر التي تفعم المتفرج بالحيوية وتشد من إنتباهه، لمواصلة ومتابعة سير الحدث المسرحي.
في الوقت الذي ينصح بروك المخرجين، بعدم إهمال هذه الطريقة في بناء الشكل، يحذر في نفس الوقت، من تقييد المخرج لنفسه وعلى نحو صارم بتلك الطريقة. ذلك إن المسرح يمتلك إمكانات كبيرة وغنية للتعبير، تلك التي تسهم في تنشيط وإقامة المستويات المتباينة لبعث الحياة في الحكاية، بإعتبارها أولاً، أسطورة لها جذورها وترجيعاتها في اللاوعي، وثانياً، بإعتبارها عرضاً مسرحياً مجسّد مادياً ضمن فريق متحّد بذاته عبر الهرمونية والبناء والبناء السمفوني
العبور من المجرد إلى المحسوس
لقد تناولنا المكان والزمان لنخلي الطريق إلى عمل الممثل والمخرج للبدء في ممارسة تمريناتهما على خلق الشكل المسرحي للعرض. الشكل يبدأ وينتهي، بالنسبة لبيتر بروك، بإنتهاء التمارين المسرحية " البروفات ". إنه ينبثق في البدء، من إحساس داخلي هلامي شبيه بالطيف أو اللون أو الرائحة.
ان العنصر الرئيس بالنسبة لبروك أولاً وأخيراً، هو تجسيد الفكرة، في مكان وزمان محددين. لذا نراه يبدء شوطه التجريبي مع جميع عناصر العمل، من ممثلين وديكور وإضاءة وألوان، بإحساس يخلو تماماً من الشكل والبلورة، محاولاً نسيان جميع التقنيات وأساليب البناء، تلك التي كان إستخدمها في عروضه السابقة، أو تلك التي إكتسبها بطريقة التجربة والخبرة، مولياً إهتمامه في هذه المرحلة من الأستعداد، في التحرك صوب الفكرة!. الشيء الهام والجوهري بالنسبه له، هو البحث عن المفردات والوسائل، من أجل تحويل ذلك الإحساس البدئي الهلامي الداخلي، إلى شكل شبه مادي. فهو على سبيل المثال، يبدأ في بناء الديكور، ثم يقوم بعدها بهدمه، ثم يشّيد ديكوراً جديداً، ويعود فيهدمه.
عملية الهدم والبناء هذه، تتخللها بالطبع تمرينات وتدريبات متواصلة، وهي، في النهاية، التي تحسم وتقرر بنية ذلك الديكور وبقاءه. وهكذا وبالتدريج، يأت دور إختيار الملابس والألوان وبقية العناصر الأخرى، بذات الطريقة. تلك العناصر التي تشكل في الآخر " لغـة " تسهم في ترجمة ذلك الإحساس الهلامي الداخلي إلى شيء ملموس!.
بمعنى آخر، إن الشكل يظل خاضعاً على الدوام إلى جميع هذه الإعتبارات والإختبارات.. ومع ذلك، وحين ينبثق ذلك الشكل، فإنه يظل، عند بروك، شكلاً مفتوحـاً وغير نهائي. وفي هذه الحالة، يمثل هذا الشكل مجرد منظر أو ديكور أو مكان. والمكان هو أحد العناصر الرئيسة عند بروك، إنه يشبه الرسم البياني، الذي سيكتسب وجوده وحرارته، في المرحلة اللاحقة، التي هي بدء التمرينات مع الممثلين.
في هذه المرحلة يسعى بروك، وقبل كل شيء، إلى خلق المزاج والمناخ الملائمين لممثليه ومنحهم أقصى درجات الحرية لإنتاج شيء ما من ذواتهم، بغضّ النظر عن الأشياء التي يمنحها النص.. لهذا السبب ينصح بضرورة أن يكون كل شيء في المراحل الأولى للتمرينات على المسرحية، مكشوفاً ومنفتحاً الى أقصى الدرجات دون فرض أي شيء محدد. و(هذا بالضبط ..) يقول بروك: (.. هو ما يضع العمل في طريقه إلى خلق الأسلوب الذي يتجه صوبه عمل المخرج منذ الأيام الأولى للتمرينات مع الممثلين. وأنا كنت بدأت هذه الطريقة منذ فترة طويلة، وأستطيع الآن الجزم، أنها الطريقة الأكثر أصالة وديمومة بإستمرار، للبدء في التمرينات مع الممثلين!.) .
إن الطريقة التي يحبذها بروك للمباشرة في التمرينات مع ممثليه، هي البدء بأي شيء، بإستثناء الأفكار!. والذي يلعب الدور الرئيس في هذه المرحلة هو عنصر الإرتجال، بغض النظر عن إشتراطات النص، أوالزمن التقليدي للبروفة. ففي عمله على رائعة بيتر فايس (مارا – صاد) مثلاً، أنفق بروك مايقرب ثلاثة أرباع مدة التمرينات على المسرحية، في حّث وتشجيع فريقه التمثيلي، وحث نفسه هو الآخر وبشكل متبادل مع ممثليه، على إنتاج أشياء مبتكرة تكمن خلف النص أو تحته!. ليس أي نص بالطبع، ولكن النص الذي يمتلك تلك القدرة على تفجير مخيلة القارىء أو الممثل. وفي هذا الصدد، كتب بروك قائلاً:
( .. يوجد في مارا-صاد الكثير من الإسراف الباروكي والفانتازي للأفكار. وهكذا، فالذي يرقب عملنا في التمرينات ونحن مستغرقون في إقصاء الزيادات والزخارف، تلك التي شغلت ثلاثة أرباع زمن تمريناتنا على المسرحية، سوف تنتابه حالة من التفكير، في أننا نسعى إلى إلغاء وحجب فكرة المؤلف، عبر إبتكاراتنا وإرتجالاتنا التمثيلية والإخراجية. لكن، لو أن هذا المراقب منح نفسه القليل من الصبر لمواصلة العمل معنا إلى الآخر، لخرج بنتيجة معاكسة تماماً..). النص بالنسبة لبروك هو منطلق العملية كلها، فهو الذي يثير كل تلك الدوافع التي تحفز المخيلة.
إن ماحدث لمارا- صاد، حدث أيضاً مع عرضه الشكسبيري الشهير " تيتوس أندرونيكوس " فقد إعتبره النقاد أفضل بكثير من النص الشكسبيري نفسه!. لكن بروك، الفنان الصادق والخلاق، يلفت نظر أولئك النقاد إلى حقيقة أهّم، بقوله: (.. هل تستطيع أن تعطيني نصاً مسرحياً بوليسياً مثيراً، وتقول لي، إعمله مثل ما عملت تيتوس أندونيكوس، سأقول لك حالاً.. لا أستطيع .. لأن نصاً كهذا لايخبىء أسراراً، تلك التي أستطيع أن أنهل منها، لتفجير مخيلتي!..).
يؤكد بروك في مرحلة التمرينات على أهمية عنصر الإبتـكار، إبتكار أي شيء، رديئاً كان أم سيئاً!. إنه لايخضع ممثليه ولا حتى نفسه إلىأي نوع من الرقابة، لأنه لو فعل ذلك، فإنه سيوقف السيل الدينامي المتدفق للمخيلة. أي يصبح بمثابة سد منيع إزاء حرية تلك الأشياء المتدفقة، وعندها ستفقد الأحاسيس والمشاعر نبضها وتصبح كتلة صماء.
في هذه الفترة، والتي تكاد تشبه فترة المخاض، لابد أن تتوج بولادة!. ولادة طبيعية، بالطبع، وليس ولادة مشوهة، ولادة كائن حي حقيقي ينبض بالحياة. عندذاك، وبشكل تدريجي، تبدء الكثير من المفردات بالتشكل.. بروك يصّر على إنجاز هذه المرحلة بشكل خـّلاق، لغرض تشكيل وصياغة نوع من الصلة بين ممثليه وبين ذلك الإحساس الهلامي الداخلي البدئي. ولأجل وضع تلك البدايات، فإن التماس بين تلك الإبتكارات الشخصية، سيسهم حتماً في بروز العنصر المؤثر من إنطباعات الممثلين الشخصية، ضمن الدور ـ النص ككل، والتي تبدأ في التدفق بشكل حر وتلقائي.
مهمة المخرج هنا، هو الحفر عميقاً وعميقاً في ذاكرة الممثل، في خزائن وعيه ولاوعيه، بشكل متواصل. وفي حالة إنجازه هذه المهمة بنجاح، يكون هو وفريقه التمثيلي قد فكروا وتأملوا وجربوا وأخيراً قلبوا كل بنية المسرحية. في التمارين الأخيرة من فترة التدريبات على المسرحية، يتخذ عمل الممثل موقعاً معتماً!. وهذا مايطلق عليه بروك بـ "الحياة السرية للمسرحية". وهكذا، وبشكل تدريجي، يبدأ الممثل ممارسة وظيفته في إضاءة هذه المنطقة المعتمة، حينها يتفجر الضوء!. عندذاك، على المخرج أن يتموضع في تلك المنطقة المضيئة، لغرض رؤية الفرق بين أفكار الممثل وأفكار المسرحية ذاتها. هنا، ينبثق دور المخرج بشكله الخلاق. بمعنى، إن عليه مهمة شاقة وعسيرة وهي، إقصاء كل تلك الأشياء الزائدة وغير الضرورية والدخيلة والمرتبطة إلى حد كبير بشخص الممثل فقط، والإبقاء على الأشياء التي تنتمي إلى حدسه وإدراكه المرتبطين بالدور والمسرحية.
وهكذا وبسبب من أولوية عمل المخرج وجوهر وظيفته، مضافاً إليهما حسه الداخلي البدئي، يستطيع هو أن يميز بين ماينتمي إلى المسرحية، وبين ذلك الذي جلبه الممثل وأياه إلى العمل من حشد هائل وفائض وغير ضروري. هذه المهمة، حسب بروك، هي المهمة الأساسية والجوهرية للمخرج في المراحل الأخيرة من التمرينات على المسرحية. ولأجل أن ينجز المخرج هذه المهمة بشكل خـّلاق، عليه أن يكون صارماً حتى مع نفسه، لأن أي إبتكار يخلقه يحتوي بالضرورة، على نكهة أو نفحة من نفحاته.
المخرج يقوم بإبتكار جزء بسيط من العمل، شيء ما، غرضه توضيح شيء آخر. إلا أن جميع تلك الأشياء تتلاشى ولايبق منها سوى الشكل العضوي، لأن الشكل هو ليس فكرة أو مجموعة أفكار تقحم بالقسر على المسرحية. الشكل، هو العنصر الذي يضيء المسرحية، والمسرحية المضاءة في المحصلة، هي الشكل!. حين تتبدى نتائج العمل عضوية وموحدة، فهذا ليس بسبب من الرؤية المتماهية والموحدة، بين المخرج وفريقه التمثيلي، بل، وحسب بروك، هي بسبب من مشاركة جميع تلك الرؤى المتباينة لفريق التمثيل في الفترة الأولى للتمرينات على المسرحية.
هكذا يشيّد بروك عالمه المسرحي، بهذا الحضور الملموس للمخيلة الجماعية، وشحنه لتلك الأخيلة التي سوف تتدفق على خشبة المسرح، لتندلق نحو القاعة برفق ورشاقة، عابرة الجسور والسلالم والخيوط الفاصلة لتصب في نهر الحياة اليومي الواقعي الملموس..
شروح:
* المهابهاراتا: الملحمة الدينية الهندية، قدمها بيتر بروك عام 1985 في أحد مقالع الحجارة بالقرب من مدينة أفيسنون الفرنسية مع فريق تمثيلي متعدد الأعراق والثقافات، وإستغرق العرض مدة تسع ساعات، وأعيد عرض هذه الملحمة في مانشستر عام 1989..
** مؤتمر الطيور: قدم بروك هذا العرض هو وفرقته التابعة إلى المركز العالمي المسرحي ومقره باريس، عام 1989 في جولة لبعض الدول الأفريقية وفي الهواء الطلق، ومن بعد عرضت المسرحية في باريس وضواحيها. المسرحية مرتجلة، وكانت معمولة تحت تأثيرات مسرح القسوة ومؤسسه أنتونين آرتو. عنوان المسرحية يوحي أن بروك كان قد قصد به " المخيلة المشتركة لثقافة الشعوب "..
References:
1. The Empty Space، The Shifting Point،There Are No Secrets، Peter Brook.
2. Interview With Peter Brook By Jean Kalman NTQ 1 1985.
3. Peter Brook and Tradition Thought b Basarab Nicolescu.
4. Peter Brook and The Mahabharata by Yoshi Oida.
5. On the Art of NO Drama by J. Thomas Rimer Yamazaki Masakazu.
كاتب الدراسة مسرحي وسينمائي عراقي يقيم فيلنـدن
التعليقات