قراءة في مسرحية تيرنو بوكار

اختتم في أمستردام المهرجان الهولندي السنوي (Holland Festival )الذي استمر أربعة اسابيع. وتضمن أعمالاً فنية متنوعة على قاعات مسرحية مختلفة : غناء صوفي،اوبرا، رقص، وعروض مسرحية محلية وعالمية. إستضاف المهرجان هذا العام أحد ابرز المخرجين المسرحين في العالم (بيتربروك) الذي ولد في لندن عام 1925 وأخرج أعمالاً مسرحية وسينمائية منها : الملك لير، فاوست، المهابارتا، هملت، كارمن، الماراصاد، مؤتمرالطيور وغيرها من الاعمال. شارك بيتر بروك في عمله الجديد (تيرنو بوكار) اعداد(ماري هلينه استيته) واخراج بروك نفسه على قاعة (غاز فابريك) في أمستردام، وهي القاعة الاكثر مناسبة لأعماله لفضائها الكبير وخلوها من المنصة. يقول بروك: أستطيع أن اخذ أي مساحة فارغة وأسميها: خشبة مسرح عارية. ومثل في هذه المسرحية نخبة من الممثلين الافارقه.

النص:

معد عن كتاب بأسم( تيرنو بوكار) الموسيقي المتصوف الافريقي. يتعامل بروك مع النصوص تعاملاً حراً ولايلتزم بقد سيتها، كما رأينا كيف تعامل مع نصوص شكسبير. إنه يمتلك فهماً ووعياً متقداً في تحليله للنصوص المسرحية الكلاسيكية والحديثة. وتدور فكرة العمل عن التواضع والتحمل والصبر والقيمة الكبيرة لذلك في المجتمعات الدينية والحقيقة والحكمة والنقاء في الحياة وكيف التعامل معها والعودة الى الجذور. طبقاً لبيتر بروك فأن هذه الحكاية تسلط ضوءاً جديداً على إشكالية العنف والتسامح التي تُشغل العالم حاليا. على مدى ساعة ونصف نقلنا بيتر بروك بعوالمه وطقوسه الصوفية في هذا العمل المسرحي المدهش المثير الى افريقيا دون أن نشعر بتعب الرحلة.
يفاجئك بيتر بروك منذ الوهلة الاولى وأنت تدخل القاعة وتجلس على الكرسي بأجوائه الخاصة وتشم رائحة المسرح الحقيقي. مشهد المسرحية الافتتاحي مونولوج للراوي يقص علينا حكاية (تيرنوبوكار) المتصوف والمحيط الذي يعيشه وإيمانه بقضيته.

التمثيل:

قدم الممثلون في هذا العرض إداءات مختلفة منها مشهد المعلم الذي أصبح الممثل فيه مشاهداً ومشهد البانتومايم حين يضع احد الممثلين العصفور على الشجرة، كان مشهداً صامتاً لكننا شاهدنا عصفورا حياًً. أما مشهد صراع القبيليتين فكان أكثر المشاهد اثارة ومتعة. أحتل الممثل الحيز الاكبر في الفضاء المسرحي بحضوره وعلاماته: المرأة، اللون الاسود، اللون الابيض، المسبحة وعدد الخرز، أبدع الممثلون وعلى رأسهم بروك.

الديكور:

كان مُشكلاً من خمسة حصران (الحصير بساط قصير أو طويل من قصب) أربعة حصران على جانبي المسرح، وحصيرة كبيرة مربعة الشكل تحتل مقدمة وسط المسرح الذي تمثل منصة الاحداث والذي يعتليها يدخل في قلب الحدث، وتمثل أحياناً الصحراء. وشجرة جرداء في عمق المسرح. كان استخداماً معبرأ لمفهومي الزمان والمكان. وظف بيتر بروك الموسيقى الحية والغناء الحي وخلق جواً تسوده الموسيقى التي تتسرب الى الروح لتنعش الذاكرة. ولعبت الاضاءة والالوان والملابس دوراً مهماً في إنجاح هذا العمل.

الاخراج:

استغل بروك كل طاقات ممثليه وابتكر أدوات فنية بسيطة بالتعامل مع أدواته وتشكيلاته الفنية الباهرة والقدرة الكبيرة على تحريك ممثليه في الفضاء المسرحي بكل هدوء ومرونة ورشاقة ولم يعتمد على فخامة الديكور والابهار أو التكنلوجيا التي تتعكزعليها بعض العروض المسرحية. كان عرضاً بسيطاً هادئاً وعميقاً في التمثيل والاخراج معاً، وجعلنا نرى اللامرئي مرئياً من خلال استخدامه للطقوس وتوظيفها لخدمة الحاجات العصرية المطلوبة في المسرح.
إذا كان حسم الصراع لم يتم في الحياة فقد حسمه بروك في مسرحيته، إنها مسرحية جدلية فكرية تمثل صراعاً دينياً بين فريقين من المتصوفة في إحدى القرى الافريقية.
واخيراً أهدى بروك الينا شعلة من الامل للمستقبل في حسم الصراع، ومهما بلغت قوة الشر في العالم ينبغي علينا أن نتأكد من انتصار الامل والحب على الشر والكراهيةولعل الجملة التي اختتمت بها المسرحية تختصر حكمة التسامح والتعايش حيث يقول الشيخ الصوفي: (هناك حقيقتك وهناك حقيقتي وهناك الحقيقة نفسها ). نعم إنه المسرح المقدس الذي تحدث عنه بيتر بروك في كتابه (الفضاء الخالي).

هذه هي المرة الاولى التي أشاهد فيها عملا مسرحياً حياً لبيتر بروك،وكنت قد شاهدت له من قبل على شاشة الفديو في معهد المسرح في أمستردام عددا من الأعمال المسرحية والسينمائية. كانت المشاهدة الحية لهذا العرض تجربة غنية ومشبعة بالصور البصرية والسمعية، بالقيم والموروث الشعبي والانثربولوجي للشعوب.
وبعد نهاية العرض قـدمت أغانٍ صوفية إيرانية وأفغانية على القاعة نفسها.

فنان مسرحي عراقي - أمستردام
[email protected]