1- عوني كرومي: الصورة الاخيرة
بقلم منير العبيدي
لماذا لا استطيع الكتابة عن quot; عوني quot; كما أعتدت أنا اناديه بدون رتوش، كتب الجميع و أنا ساهم.
اليوم صباحا بل باكرا قفز الى ذهني سؤال: أين الصورة ؟ آخر صورة عوني و أنا في مهرجان الثقافة العربية في برلين ؟ من ألتقطها ؟ منصور ؟ نعم منصور البكري... سأسمي موضوعي الصورة الاخيرة. ولكن هل هو منصور حقا من التقط الصورة ؟ هل اتصل به كي اسأله ؟ و لكن مهلا الساعة الان بعيد الخامسة صباحا بقليل.
في الطريق الى ورشة الثقافات في برلين كان يسير أمامي. و الشارع يرتفع قليلا. وقف و ألتفت فعرفته quot; هلو عوني شلونك quot; صحتك شلونه quot;. جيدة لو اترك التدخين.
كان مرهقا و شاحبا، دخلنا القاعة المعتمة و أهتدينا بالضوء الخافت الى مقاعد الجلوس سلمنا على هذا و ذاك وجلسنا وبينه وبيني مقعد فارغ، كان يحادثني و يتطلع الى المقعد الفارغ بيننا، الكراسي ضيقة و الجلوس لصق بعضنا لم يكن مريحا.
و مض ضوء آلة التصوير مرة أو عدة مرات، من كان منصور البكري؟ ربما حالما تقارب عقارب الساعة العاشرة سأرفع سماعة الهاتف الذي يحتوي على الرقم ثمانية اربع مرات و احادث منصور أسأل عن الصورة الاخيرة معا عوني و أنا.
بالأمس تهدج صوت فهد الأسدي و أنا أحادثة عبر الهاتف، و أسأل عن الأصدقاء: عادل كوركيس أرسلت له رسالة بالبريد الالكتروني بمناسبة آخر عيد مسيحي، ماذا يسمى ؟ أنا أنسى الأسماء دائما، ربما عيد الفصح ؟ ربما. أسبوع بدون جواب ثم اتصلت و اتصلت و اتصلت كان التلفون يرن و لا احد يجيب. كيف أنت ابا ليث ؟ أسأل فهد فيروي لي، لا شيء يبعث على المسرة ابدا، وفي النهاية يتهدج صوته.
لماذا كان عوني ينظر الى المقعد الفارغ بيننا ؟ ارقني السؤال و أيقظني منذ الصباح الباكر.. و أيقظتني ومضة ضوء جهاز التصوير الذي صورنا معا الصورة الاخيرة. كان ينظر الى المقعد الفارغ بيننا و أراد أن يقول شيئا: quot; منير ؟ quot; ثم سأل سؤالا. احسست انه بدل السؤال في اللحظة الاخيرة ناظرا الى المقعد الفارغ بيننا.
في اليوم التالي كان يتوسط أسعد راشد و حسين الانصاري في جلسة نقاشية عن المسرح. كانت هذه آخر مرة اراه فيها
* * *
في اليوم التالي كنا نستقبل ستار كاووش في محطة القطار، كانت الامسية الحوارية عن تجربته تزامنت مع مهرجان الثقافة العربية، وكنت في اليوم التالي مشغولا بالتحضير للامسية سمعت مساء بعد الامسية ان عوني نقل الى المستشفى بعد وعكة، لم يكن مسموحا لأحد زيارته.
لا أدري لماذا يذكرني رحيلك، يا عوني، برحيل موفق الخطيب،كنا نتقاطع و نلتقي و لا نلقي بالا لبعضنا، و نقول لأنفسنا دائما أن في الوقت متسعا لنجلس الى بعضنا و نتحادث و ربما نتعاتب و ربما نتعانق، ولكن الوقت كان دائما أسرع.
في مطعم طارق في برلين جلس أصدقاء ستار كاووش وزملاء دراسته و كاووش و منصور البكري و أنا ثم ألتحق بنا فهمي بالايي . رن الهاتف النقال لمنصور البكري ثم أدلى منصور البكري بما عرف توا.
ـ رحل عوني كرومي الى الابد.
إتصلنا بهذا و ذاك الجميع يسأل: هل انت متأكد ؟
ـ تلفون البيت لا يرد.
ـ الجميع لم يصدقوا. لم ننشر الخبر حتى نشره آخرون عن طريق امستردام وليس برلين
كنا أول العارفين و آخر المصدقين.
و بقيت الاسئلة:
لماذا كان عوني ينظر الى المقعد الفارغ بيننا ؟ ماذا اراد أن يسأل ؟ من إلتقط الصورة الاخيرة ؟
2- طريق الحرير وصل إلى نهايته
بقلم هاني نديم
حينما التقيت عوني كرومي وشريكه الألماني روبرتو تشيللو في مسقط نهاية التسعينات لأول مرة، وهو يعبر بمشروعه المسرحي العالمي (طريق الحرير)عمان، تعجبت كيف لم ألتق هذه الروح من قبل، لإيماني بوجوب تقاطع المتشابه منها!، النظرية التي رسخت حينما تكرر اللقاء ـ صدفة ـ في بيروت ودمشق والقاهرة!.
في مسقط حينما جلنا على معطيات حرب العراق (كعادة المثقفين البليدة في الثقة بجدوى الكلام)، مجموعة من الكتاب والصحافيين، ظل عوني صامت كشاهدة قبر!، وكنا جميعاً وإن لم ننظر إليه، نستنطق عراقيته ومسرحته لحرب جاءت لتأكل الأخضر والأسود!!، لم نستنهضه بثقل تنظيراتنا وطروحاتنا، وظل يتحدث باسماً عن الخناجر العمانية التي جلبناها من سوق الظلام!!؛ الشاعر العراقي عبد الرزاق الربيعي وأنا، بقينا لما بعد الثرثرة نتشبع من عوني ونستعين بوجهه على شحوبنا، شعر عوني بالفزع لخلو بهو الفندق وكأنه أفاق فجأة وسألنا: أين ذهبت الناس؟..بكير..فهمت من لكنة صوته التي تتداخل مع المسرح بشكل فطري، أنه يستجدي الوقت كي لا يبقى وحيداً لأحزانه، صمت... ثم قال: أإلى هنا يلحقنا العراق؟؟..واستدرك ناظراً لعيني مواطنه الربيعي: كم هو مؤلم، أنك لا تستطيع أن تفرح!!، اخترقني سيف نوراني بارد وأنا أرقب صمت العراقيين عن يميني وعن شمالي في بهو فندق أفخم من أن نشتم رائحة أهلينا في الشمال الفقير!، طال هذا الصمت..وقلت في نفسي.. بعد تلك العبارة لن يأتي شيء أقوى من الوداع..وهممت بنطقها، لكنه شعر أسرع من ردة فعلي بذهابي، فباغتني بسؤاله المعتاد: ما أخبار النساء!، رد عليه الربيعي العاشق دائماً، بقصيدة تلبس عباءتها العراقية المقصبة بالحزن، بكي عوني ونسيت أنا أن أجيبه عن السؤال، لكنني لم أنس أبداً تلك البسمة الشفافة التي كلما ذكر العراق اليوم، أشعر أنه يبتسم من السماء بنفس حرقة عوني كرومي وهو يسأل عن النساء، طالما أنه لا يجب أن يسأل عن الرجال!!.
في دمشق، قال لي أشم رائحة بغداد!
في القاهرة سألني هل تحب الفول؟
في بيروت أدرت رأسي نحوه وكان شارداً وسألته ما أخبار النساء؟
لم يجب....كما لم أجبه في مسقط...
النساء يا عوني ـ كما تعلم وأعلم ـ بخير طالما العالم يزداد سوءاً!!، النساء يا سيدي هي المسرح الذي سافرت أنت من أجله كل العالم وظل باقياً هو هو ..المرأة خيط الحرير ناعم في أيدينا، مميت إن ملكناه رقابنا، المرأة كالدنيا التي غادرتك، لا تعلم مطلقاً، متى تعطيك ظهرها.
رافقتك محبتنا، كما ترافقنا ابتسامتك
3- جنرال بروفة: رسالة إلى أستاذي عوني كرومي
بقلم رسول الصغير
أستاذي دكتور عوني الجميل
هل تعلم كيف وصلني الخبر المر.. هل تعلم إن الأصدقاء كانوا يتصلون على أرقامي لكني كنت في مكان بعيد علمتني أنت كيف أحبه وأخفيه عن عيون الآخرين...
كنت أتدرب ليلة السبت 26 على عمل صغير اسمه أمنياتي وهو تجربة جديدة ومغامرة لم يفعلها احد من قبل وكنت أريدها مفاجأة لك..
كانت الاتصالات تأتي إلى سعاد تباعا وهي تحاول أن تجدني..
أخيرا جاء صوتها حزينا... كأنه العراق وقالت لي
(راح دكتور عوني )
نزلت هذه الصاعقة لتجعل ليلتنا جنرالا.. لا... بل عرضا من البكاء عليك أيها الحبيب... لقد بكاك كل من في المسرح من البشر ومن الحجر.
لماذا استعجلت يا دكتور..
رجعت..
قلبت دفتر التلفونات..
كنت بحاجه إلى شخص أخر يعرفك مثلي كي أبكيك معه..
كي احظنك فيه..
والله مشتاقلك..
والله مخنوق.. يمعود
وداعتك العبرة كسرت صدري...
(وين أروح واحنه كل واحد صار بديرة )
ولكن لا شي وأنت تعلم إنني مثلك غريب أيضا..
قلبت الأسماء التي تحبها وتحبك واحد واحد ,,
رائد محسن
إقبال نعيم
ناجي عبد الأمير
كريم رشيد
خليل شوقي
ياسين النصير
نصير شمه
علي طالب
و ووووووووووووووووووووو .......
ومنين أجيبك يا جبار محيبس ,,
وعيونك يا دكتور كلمتهم واحدا واحد
و توسلتهم واحدا واحد
لكنهم كانوا جميعا واجمين لا يتكلمون حتى أرقام هواتفهم كانت تبكي..
كنت أنت أول من أتصل به إذا حاصرتني وحشة الغربة أو آذاني شخص ما..
رفعت السماعة وطلبت رقمك ولكني هذه المرة معزيا فقط لأنك قررت الرحيل وعزمت..
بعدها كتبت الرسائل إلى فاضل خليل والى مقداد عبد الرضا والى عقيل مهدي والى يوسف العاني والى حسن عبد والى فلاح إبراهيم والى عواطف نعيم والى أمي أوصيتها أن تسوي لك ثواب والى أصدقاء آخرين اعزيهم واستقبلت التعازي أيضا وبحثت كثيرا عن عزيز خيون فهو أكثر من يفيدني في هذه المحنه.
لكن عزيز كان ينوح وحيدا هناك أيضا كأنه يخشى أن اسمع نحيبه فأصدق الخبر
أصدقاءك في بغداد وطلابك وصفوف أكاديمية الفنون والناس الذين أحببتهم وأحبوك..والنصوص و الشخوص والمطر والشجر وال...............
كلهم يبكوك أيها الحبيب.
.هل هذا هو عرضك الأخير لنا يا أبا حيدر..يا أستاذي..
يا صاحبي.. يا بويه
هل من المعقول أن يكون المشهد الأخير بكل هذا الوجع
وأنت الذي أخرجت كل مسرحياتك للأمل القادم..
الآن أقرء ما يكتبه محبيك عنك ودمعتي على خدي.
4-عندما يموت عوني كرومي
بقلم إسماعيل نوري الربيعي
عونيلا أظنك ستلحق فطور الساعة الثامنة، فها أنت ذا قد جاوزت منطقة الخطر، أراك تستحضر أرواح كاليكولا وغاليلو غاليليهو و كريولان، تسري النفس بمأساة تموز، تبحث بكل ما فيك عن القائل نعم القائل لا، وتضج حائرا ملؤك الفزع من تداخلات الفرح والحزن، إنك الجالس القرفصاء فوق رصيف الرفض، إيه أيها الغائب، كأنك تقص حكاية لأطفالنا الأعزاء، بعد أن أزريت بمجتمع الكشخة ونفخة، وحاولت التأسيس لصنع الإنسان الطيب،كأنك تداوي جرحا غائرا وعويلا ما عرف الانقطاع بصراخ الصمت الأخرس، أيها الباكي والشاكي والحائر الذي يسح الدمع مع كل ترنيمة للكرسي الهزاز، تختط لوحتك الآسرة والهانئة من بقايا الموصل إلى حدود بغداد حين تمرق روحك بين البير تارة والشناشيل، يامن أضعت المحفظة ، وترصدت بعين الإنسان كيف أن المسيح يصلب من جديد، هرولت بعيدا في القفار والفيافي ولم تجد سوى الصمت والذئاب، وقفت طويلا ساهما متأملا عند الصلب،أضعت كل ما فيك واستعدت ما تبقى من الضحكات المؤجلة في المحطة، رسمت كل شيء ووضعته في الشريط الأخير والمساء الأخير، والأخير الأخير ، هذا الذي حط على جسدك المسجى في مثواك الألماني ، حيث ذهبت لترصد الطائر الأزرق ، تصرخ وتتهادى ولا ضير أن تتنادى على أنتيجونا و فاطمة وكل نساء الأرض، ما فتئت تبحث في جدل العلاقات بين السيد والعبد أو العبد والسيد ، حتى رحت تطلق المزيد من الأسئلة، تلك التي أثقلت عليك حياتك التي امتلأت بالأحلام والكوابيس والمناجاة والأصدقاء والاحتمالات والتقمصات والتمردات ، لتختمها مسافرا في الليل، بعيدا عن التراب الذي أحببت، والنهر الذي عشق، والجدران التي شهدت صدى مناجاتك وسعير السؤال فيك.
عوني أتراها عدوى الموت التي راحت تطال مثقفي المنفى، وما هذا السكوت القلبيّ الذي حط على الأفئدة ، كأنه آثر أن يزورهم واحدا واحدا، من دون كلل. آه ياعطب القلوب يامن رحت تحط برحلك على مبدعي العراق، كأنك تترصدهم . وهاهم يحددون موقفهم من كل شيء، يحددونه موتا، كأنه صراخ الصمت الأخرس، بعد أن أعياهم الإحباط واللاجدوى وانعدام الأمل.ولكن ما أقساه من صراخ أم صمت ، أيها المبدعون يامن تعالجون الموت بموتكم والفقد بفقدكم ،كأنه موقف تضامني، الجميع قرر أن يوقف قلبه ، كل بطريقته الخاصة ، كيف يعيش ولماذا يعيش بعد أن تكرس الفقد وصار العراق بعيدا نائيا ممزقا كأقصى ما يكون.لقد خاب الأمل فما تبقى للقلوب سوى السكوت.
5- فوق رصيف الرفض رحل غاليلو المسرح العراقي
بقلم د. حسين الانصاري
لم اكن اعرف ان لقائي بك في برلين قبل يومين سيكون اللحظات الاخيرة من مسيرة جمعت بيننا سنين طوال، كنت استاذا لي وزميلا وصديقا، كان الدكتور عوني كرومي يتوسط جلسة الندوة الفكرية التي ضمها الاسبوع الثقافي العربي تلك التي دعيت لها الاسبوع الماضي وكان بصحبتنا ايضا الاخوين الناقد السوري د. عادل القرشولي والفنان د. اسعد راشد، كان محور حديثنا عن واقع المسرح العربي اليوم تحدث بحماس العارف وخبرة المجرب، و بعد الندوة اجرى اخر تمرين لمسرحية مسافر ليل للشاعر المصري صلاح عبد الصبور، كان مغرم بهذا النص الذي اعاد اخراجه برؤية جديدة اذ استبدل فيها الشخصيات بفتاتين لعبتا كل الادوار مستخدما السلالم ديكورا وهو يفجر مفردته هذه بشتى التوظيفات منتجا منها دلالات العرض المقصودة، ورغم ان العرض قدم لنا باللغة الالمانية الا ان الصورة كانت حاضرة وبليغة مما جعلنا نعيش معه متعة القراءة والتأويل.
عوني افرام كرومي من مواليد نينوى 1945 انسان يفيض محبة ووعيا وطيبة، تربى في فضاء المسرح الشعبي تلقى فيه اول الخبرات من استاذه الراحل جعفر السعدي واقرانه كان يتعبد في هذا المزار، يغادره صباحا ويعود اليه مساءا حاملا مشاعل النور وليعرض فيه اجمل الافكارالتي ما زالت علامة مميزة في تأريخ المسرح العراقي.
انه لايختار الا تلك الاعمال التي يجد فيها ذاته،الاعمال التي تحترم فكر الانسان وتجسد وعيه وتجيب عن قلق اسئلته وتعلن تحديه وتواصله نحو افاق الغد وامال المستقبل. فكانت من بينها رائعته الخالدة ( غاليلو غاليلي ) حيث الصراع بين قوى السلطة وحقائق العلم التي قدمها على مسرح اكاديمية الفنون مجسدا فيها خلاصة وعيه وجمال رؤاه وسحر معالجته شكلا ومضمونا. لقد واصل الفنان الراحل مشواره الفني الذي رسخه بالدراسة الاكاديمية في معهد الفنون واكاديمية الفنون الجميلة بجامعة بغداد وليكمل دراسته العليا في جامعة همبولدت الالمانية رافقني اليها وهو يشرح لي كل تفاصيل ايامه وذكرياته مع رموز الابداع الالماني : غوته، شيللر، لسنج، هسه، ماكس راينهارت، هاينر ميللر، برتولد برخت والقائمة لاتنتهي...
في عام 1977 عاد الى الوطن وهو يفيض بالطموح والتجدد والرغبة للعمل فكان مدرسا في اكاديمية الفنون قسم المسرح صباحا وفي المساء يقضي الساعات مخرجا في المسرح، كان محملا بحماس الفنان الحقيقي والمثقف الواعي اغترف من التراث العراقي القديم وقدم لنا رثاء اور ومأساة تموز ثم اتبعهما بسيل من الاعمال الرائعة : كوريولان، رؤى سيمون ماشار، تساؤلات مسرحية،القائل لا القائل نعم، تداخلات الفرح والحزن، مبادرات، فوق رصيف الرفض،الغائب، الانسة جولي، الانسان الطيب، صراخ الصمت الاخرس، مساء السلامة، ترنيمة الكرسي الهزاز، المسيح يصلب من جديد، مشعلوا الحرائق،السيد والعبد، مسافر ليل
ان الفنان عوني كرومي كا فنانا شاملا مثل واخرج وكتب العديد من المؤلفات في حقول الفن المسرحي وقد درست كتبه في معظم معاهد الفن العربية والالمانية ومن اعماله المطبوعة نذكر طرق تدريس التمثيل، فن التمثيل، المسرح المدرسي، المسرح الالماني المعاصر،روبرتو تشوللي ومسرح الرور، جوته، بينيكيو فاوست
كما توزع ابداع الفنان الراحل على مساحاتالوطن العربي فقد ساهم في التدريس الجامعي واقام عشرات الورش المسرحية في فنون التمثيل والاخراح والسينوغرافيا كما شارك في معظم مهرجانات المسرح العربي وملتقياته تارة مخرجا واخرى باحثا ومحاضرا ومحكما،
ان اختيارات المبدع الراحل تعبر بوضوح عن فكره الثاقب ونظرته الابداعية واحساسه المرهف ومشاعره الانسانية لذا جاء تعامله مع النصوص العراقية منها او العربية والعالمية بذات المستوى من القدرة العالية والصدق الفني، كان يضع لمساته بوضوح ويطبع اعماله بوشم الابداع وحنكة المتمرس، لم تغب هموم الانسان والوطن في جل اعماله كان محاصرا بقلق الاسئلة ومجاهل الوجود واستشراف المستقبل، هذه الهموم رافقت رحلته الابداعية داخل الوطن وفي المهجر ايضا،
حلم ابا حيدر طوال حياته بوطن معافى ومسرح عراقي اصيل يقدم للانسان زاد الثقافة الجادة وجمال الصورة وجرأة المواجهة، لذا فقد كانت اعماله عرضة لرقابة السلطة فمنع البعض منها وتوقفت عن العرض واحيل للتحقيق والاستجواب اكثر من مرة لكن هذا لم يفت في عضده وظل امينا لمبادئه وافكاره اليسارية والتقدمية عبر مسرح يسعى الى الخلاص ويدعو الىالى علو شأن الانسان اينما كان ولهذا كانت عروضه تستقطب الجمهور اينما تكون.
عوني كرومي نهر عطاء انساني وفيض ابداعي لاينضب، ستظل انجازاته راسخة في القلوب والضمائر، نبراسا للاجيال ومشاعل تنير الدرب لطلاب الفن الخالص والمسرح الحقيقي الذي يحترم عقل الانسان وذوقه الراقي، انه نافذة نحو أفاق الوطن الجريح ومرأة الواقع
لم اكن اعلم ان القدر يترصد خطواته نحو النهاية المحتومة، كان لقاء برلين الاخير بيننا،تحدثنا طويلا وحاورته عن اخر افكاره سأنشرها عما قريب، اهداني اخر اعمالة وكتب لي في الاهداء : هذا ما جاد به المنفى أملين ان يكون مفيدا لغيرنا
ايها الراحل الجليل ياغاليلو المسرح العراقي ودعتنا جسدا لكن فكرك سيبقى هاديا لنا في دروب الفن والوعي والابداع ابدا.
6- الراحل عوني كرومي...العمل مسرة
بقلم باسم عبود الياسري
لا أظن أن بلداً يفقد من أبنائه في الغربة ما يفقده العراق، فما زال هذا البلد الذي لم يكن أبناؤه يفكرون بالسفر قبل أربعين عاماً ، ما زال يلفظهم كل يوم بلا وداع يليق بهم، لقد فر بضعة ملايين خلال حكم النظام السابق، بين معارض سياسي وباحث عن الرزق، وباحث عن نسمة حرية، وأعداد أخرى غادرت العراق بعد الاحتلال الأمريكي بين موالين للنظام السابق وباحث عن الأمان بعد أن عز السلام بدار السلام.
لقد كان ظلم النظام السابق ظلماً مبرمجاً تنفذه جهة واحدة هي الدولة، يمكن اتقاءه الى حد ما، أما اليوم فلا أحد يضمن حياته، فقد تعددت جهات الظلم بين مجرمين محترفين وجهلة لا يفقهون بالسياسة شيئاً ومتزمتين يمتلكون حق التحليل والتحريم وباحثين عن الثراء السريع لاهم لهم غير جمع المال بشتى الطرق، وهكذا غابت القيم في بلد مثل العراق.
العراق هذا البلد الحضاري المتنور الذي أهدى العالم الأبجدية ووضع أولى الشرائع ، كان أبناء العائلة الواحدة يختلفون بسبب انتماء ابنائهم الى الاتجاه القومي أو الماركسي، أما التيار الإسلامي فلم تكن قد اتضحت معالمه بعد، بل لم يكونوا محسوبين على السياسة. كان المواطن العراقي المسلم يجد رفيق دربه المسيحي أقرب إليه من أخيه، لأنه ينسجم معه فكرياً، وهو أرقى انواع الانسجام، بينما يجد أخاه بعيداً عنه لأنه لا يحمل فكراً متنوراً، حتى القيم العشائرية أخذوا منها ما يعزز وحدة العراق لا ما يفرقه، فكانت العشيرة تمتد من الشمال الى الجنوب ضامة تحت جناحيها كل المذاهب.
ماذا أصاب العراق وما هذه الردة الفكرية والسلوكية اتي اطاحت بما تبقى منه، ها هو المخرج المسرحي الدكتور عوني كرومي (أبو حيدر) الذي أغنى التجربة المسرحية الراقية والعربية وله اسهامات في العالمية، المعجب بتاريخ العراق العميق، فقدم (رثاء اوروك) و (السيد والعبد) وهو من اقدم النصوص المسرحية التي عثر عليها على الرقم الطينية يبحث في تراثه ليختار اسماً لابنه يكنى به فيختار له حيدراً وهو المسيحي القادم من الموصل، في دلالة رائعة على اندماج الموروث العراقي بكل مكوناته. بل حتى طارق عزيز اسمى ابنته زينب وهو مسيحي ايضاً، وبين الأمس واليوم هناك الكثير من الردة في التفكير العراقي، يدفع المثقفون ثمنه كل يوم.
التقيت بالدكتور الراحل عوني كرومي عدة مرات، غير أن مرتين لا يمكن نسيانهما، الأولى قبل أكثر من ربع قرن وكان قد عاد لتوه من دراسته وقد نال الدكتوراه في المسرح، فقدم غاليلو غاليلي ذهبت الى اكاديمية الفنون الجميلة حيث يقدم طلبتها وهم زملائي المسرحية، أذكر أن ريكاردوس يوسف مثل دور غاليلو الذي تضطره الكنيسة الى التنازل عن نظريته الشهيرة في دوران الأرض وحين يرفض تمارس معه التجويع حتى يتنازل عن تلك النظرية العظيمة مقابل بطة مشوية تحت طائلة الجوع، والقارئ الكريم يدرك دلالات هذا العمل.
المرة الثانية قبل سنتين أو أكثر لا أذكر حين زار الدوحة التقيته بشاربيه اللذين غزاهما الشيب لكنه ما زال بوسامته السابقة، ما إن حييته حتى بادرني بسؤال تقليدي لكنه مفجع (شلون العراق ؟)
لم يكن عوني كرومي مخرجاً مسرحياً مثابراً ونشيطاً كغيره من العراقيين، لكنه كان يمتلك رؤية متميزة للمسرح الذي لا يراه إلا مؤسس اجتماعية، وكان يمارس دوره الأبوي من خلال هذه النظرة للمسرح في حياته اليومية، فكان عطوفاً رقيقاً مع الجميع، يعمل مع فرقة المسرح الشعبي ويدرس في الأكاديمية وتتشعب علاقاته مع جميع لفنانيين العراقيين.
كان تلميذاً نجيباً لبرخت الألماني فنهج منهجه في مسرح الإيقاظ، ولما ضاقت به ظروف العراق والحصار الذي أنهك الجميع، سافر هذه المرة ولكن ليستقر بعيداً عن وجع الوطن الذي أحبه، مكملاً سفراته العديدة الى الكثير من الأقطار العربية من مصر الى الكويت فالاردن وفلسطين والجزائر يبشر بمسرح جاد يحمل فكراً، كان أحد أعمدة المسرح العراقي، حين يعرف طلابه وممثليه على الآخرين كان يقول هذا هو العراق الحقيقي مثقفو العراق وفنانوه لا ضباطه وسياسيوه البائسون، كان يرى في الفن الأمل والمستقبل والحياة.
لم يهدأ ولم يرتح طيلة حياته التي عاشها، كان كتلة متحركة وفي البروفات ينسى عمره ويتحرك كما يتحرك شباب الفرقة، كان يرفع شعار برخت المشهور العمل مسرة.
مات عوني كرومي باسم العينين لتنطفئ شمعة أخرى من شموع العراق
7- مسافر ليل... يختصر الرحلة
بقلم ايمان محمد
هكذا يتطاول الموت علينا دائما...ودائما نتكفل بالخسائروالمرار
ولأن المرار اكبر من الكلمات وابرع من الوصف...لذا وانا اتجرع مرارة هذا الرحيل اكتب عن هذا المخرج الانسان الدكتور عوني كرومي...الذي كان وسيبقى علامة مشرقة في تاريخ المسرح العربي واهم اعمدة وركائز المسرح العراقي المعاصر..
لقد كان من المفترض ان اكتب انطباعي عن مشاهدتي لمسرحية(مسافر ليل) للشاعر صلاح عبد الصبوروتمنيت ان يقرأ المخرج الراحل هذا الانطباع...وما دار بخلدي ان يكون هذا لقاء اخير بيني وبين الاخ الكبيرواستاذي المخرج الخالد عوني كرومي...وبقيت بيني وبينه اسئلة عالقة...وعدني ان يجيب عليها ووعدني ان نكمل الحوار بعد عرض اليوم الثاني للمسرحية....الا ان الموت ترك اجابة طويلة...؟؟؟؟وألمْ كبير بحجم محبتي الخالصة لهذا الانسان الجميل.
الدكتور عوني كرومي واحد من المسرحيين العرب البارزين الذين يجمعون بين الدراسة الأكاديمية والتجربة المسرحية الرصينة
نال كرومي شهادة الدكتوراه في العلوم المسرحية العام 1976 في المانيا. شغل عدة مناصب أكاديمية في معاهد وكليات الفنون المسرحية في بغداد وعمان ودمشق وبرلين التي كانت المحطة الاخيرة، وشارك في معظم المؤتمرات ومهرجانات المسرح العالمي في ألمانيا ورومانيا و في روما وقرطاج ونال العديد من الجوائز والشهادات التقديرية من مهرجانات عربية ودولية.
في اوائل ستينيات القرن المنصرم كانت بداية تجربته المسرحية..حيث درس الاخراج المسرحي بمعهد الفنون الجميلة في بغداد، وصدرت له عدة مؤلفات بالدراسات المسرحية، بقي حتى اخر يوم يتبنى هموم الانسان في البحث عن الحقيقة وايجاد الاجوبة لمعضلات العصر الراهن وكان شغوف بالبحث عن ذاكرة معرفية ومساحة اوسع للابداع وتفرد بامتلاك القدرة في الحوار مع ثقافة الآخرين الذين نال اعجابهم وتقديرهم العالي عندما احتفى به بيت بريشت المسرحي تقديرا لثرائه الفكري وابداعه المتميز والاصيل..وبرحيله فقد المسرح العربي واحداً من اهم المخرجين المبدعين والفاعلين الذي خدموا من خلال الاعمال المسرحية قضايا فكرية ومصيرية خطيرة
يسعى الى استحضار متعة فنية راقية لمشاهدي العرض وهو يبحث في ذواتهم ويسقط بقع الضوء على اسئلة كبيرة.
يرمم انفعالآت المشاهد بعذوبة غريبة...وهذا ماشعرت به شخصيا وانا اشاهد اخر عمل مسرحي (مسافر ليل )التي اختار على اطراف العرض الاخير نهاية لرحلته في هذه الحياة تاركاً لنا ارثاً رصين لأعمال ستبقى خالدة الى الابد
quot;مسافر ليلquot;
في هذا العمل ليست ثمة افكار مباشرة تجهز على المشاهد انما هناك فضاء واسع يشعر به وقد جعله بعبقريته الفريدة اوسع بكثير من مساحة المسرح...وهذه حتما ستراتيجية فنية مقصودة وتكاد تكون صفة ملازمة لأكثر اعمال هذا المخرج الكبير...واجبرني في نهاية العرض ان استدرج الى ذهني مسرحية ترنيمة الكرسي الهزاز التي عُرضت في بغداد اوآخر الثمانينيات واكتشف بلا عناء ادواته التي تلازم العرض وهي مسحة الحزن والالم التي تتشظى كما تتشظى ازمنة ابطال العمل المسرحي وهذا مايجعله يبتكر مساحةاوسع لتستوعب هذا الكم من الانفعالات الانسانية بازمنة صعبة...يمنح المشاهد حرية التفسير والتاويل والتحليل...ساعيا ان يكون العمل برمته وبكل ادواته معينا لرفد المشاهد بثقافة ومعرفة راقية...وهذه غاية اولى كان يتبناهاويسعى بها ولها دائما...فلم يتقيد باسلوب او نمط مسرحي معين انما يسعى بحرية كاملة ليتبني الفكرة ويجهز عليها فيخترع لهاشكلا يجيب على اسئلة كونية كبيرة ...يستدير بازمنة النص الى وجهة الماضي..يستحضر الاسماء والاحداث الثاريخية ويؤكد الصلة الجديدة , فهو يتبنى افكار لم تاتي من فراغ انما هناك اواصر وصلات زمانية ومكانية يتداولها ابطال المسرحية ...وليست ثمة صعوبة في هذه الاستدارة لما للدكتور عوني من خزين معرفي وثقافي كبير وتأثر بالغ بالتراث والاحداث والصور التاريخية
(مسافر الليل) رحلة لكل مشاهد يبحث عن انعتاق او عن فسحة ليدرك وجوده كاملا وكل من كان في قاعة العرض معنيا بهذا الرحلةالقصيرة الطويلة وليفتح نوافذ السؤال الازلي لاسباب كينونتنا ولقد كان الدكتور عوني رحمه الله موفقا جوليا ريبيكا وكلاوديا كريمر باختيار بطلتي العرض الممثلتين
فلقد برعتا في تبني فكرة المسرحية والاجادة بعرض رؤية المخرج في معالجة النص الذي كان يتبنى فكرة السلطة على لسان شخوصها.. الاول صاحب التذاكر الاقوى وومسافر ليل..الذي يبحث عن ذات بعيداً عن القهر والسلطة
رحم الله فقيدنا....والهمَ عائلته الصبر
ولا اعتقد ان من مثله يغادر الذاكرة
برلين
التعليقات