يا شمعة إنطفأت قبل أوانها

أستاذي العزيز الراحل البروفيسور عوني كرومي..

الرمز العراقي الخالد والفنان المبدع أبو حيدر..

يوم علمتُ بوجودك في ألمانيا لأول مرة عبر أحد الأصدقاء قبل سنوات وقال لي بأنك في إنتظارنا في أحد مقاهي العاصمة الألمانية برلين كانت فرحتي كبيرة ولا توصف كوني سألتقي في الغربة ولأول مرة برمز من رموز الثقافة العراقية وبالذات المسرح العراقي الذين طالما تابعنا بشوق أعمالهم في داخل الوطن وكنتَ أنت أيها الراحل أحدهم.. فلقد عرفتك مبكراً ومنذ أن بدأتُ أشق طريقي في الحياة ومنذ بدأتُ في تكوين شخصيتي الثقافية سابحاً في بحور الأدب العالمي والشعر العربي والفن بكل أشكاله من موسيقى ومسرح وسينما وتشكيل.. لقد كان لدينا نوعين من الأساتذة شاركوا في بناء شخصياتنا وهم أساتذة المدرسة والجامعة الذين ساهموا في تشكيل بنيتنا الفكرية علمياً وأكاديمياً وأساتذة الحياة الذين ساهموا في تشكيل بنيتنا الفكرية ثقافياً وإجتماعياً وسياسياً ولقد كُنت بإمتياز أحد أساتذة الحياة الذين صقلوا شخصياتنا الشابة ووضعوا اقدامنا على الطريق الصحيح عبر إيحائاتهم الفنية الجميلة سواء في المقطوعة الموسيقية أو العمل التشكيلي أو المسرحي وكانت رائِعتك quot; ترنيمة الكرسي الهزاز quot; التي كانت يومها عملاً إبداعياً رائعاً وعلامة تحول بارزة في تأريخ المسرح العراقي أول اللقاء بك وبإبداعِك ومن ثم التواصل مع مسيرتك الفنية الغنية والكبيرة.

لكنك اليوم رحلت عنا مُبكّراً.. وكأنك قد تنبأت بأنك ستسافر عنا بعيداً في ليل برليني أبدي
طويل فكانت آخر مسرحياتك وأعمالك الإبداعية التي أردت أن تنهي بها مشوارك الفني الجبار هي مسرحية quot; مسافر ليل quot;.. لم ترحم نفسك بل إنك أجهدتها وحملتها فوق ما تستطيع.. لقد صَعقتَنا برحيلك بل وقصمت به ظهورنا.. رحلت عنا ونحن في أمس الحاجة إليك.. فمَن سيعوضنا عنك بفقدانك؟.. وهل هنالك من هو كمثل عوني كرومي الإنسان والفنان؟.. بفقدانك فقدَ المسرح العراقي ركناً بارزاً من أركانه ودعامة متينة من دعائمه التي لا ولن تعوّض ولكن عزائنا هو أنك غادرتنا شهيداً لهذا المسرح الذي وهبته كل حياتك بل وضحيت بها من أجله ومثلك لا يغادر إلا بمثل هكذا لحظات تأريخية يخلدها التأريخ.

لقد كنت على الدوام جبلاً أشماً شامخاً.. كم رموك بالحجارة إلا أنها لم تزِدك إلا صلابة وتناثرت تذروها الرياح أمام قمتك التي لم تهتز يوماً وبقيت عالية شامخة حتى اللحظات الأخيرة

لقد كنت نخلة عراقية باسقة مثمرة في كل الفصول والأوقات.. وبما أن الشجرة المثمرة هي وحدها التي تُرمى بالحجارة لذا كانت الأحجار تحاول ليّك وثنيك عن عزيمتك وتحطيم ثمار إبداعك لكنك صمدت وبقيت مثمراً حتى حانة ساعة الفراق

لقد كنتَ شمعة جميلة وضّاءة على الدوام تحرق نفسها في سبيل أن تسعد الآخرين وتنير لهم طريق الحياة لكنها واحسرتاه إنطفأت قبل الأوان.

لقد كان همك الوحيد وشغلك الشاغل أن ترفع إسم العراق عالياً في جميع المحافل العربية منها والعالمية.. ولقد نجحت وحققت ذلك قولاً وفعلاً وبالجهد والعرق والإبداع الذي لم ينضب حتى فارقَت روحك الحياة لا بالكلام والمزايدات وحدها.

رغم عظمة الشعب الذي تنتمي إليه.. إلا أن في هذا الشعب مثلبة لابُد أن نشخصها في هذا الموقف العصيب الذي وضعتنا فيه بفقدانك وهي أننا شعب مهووس بتحطيم الذات لا يهتم بمبدعيه ولا يوفيهم حقهم بل ولا يوفيهم حتى عُشر حقهم لا بل والطامة الكبرى هي أن هنالك فينا من يهاجم هؤلاء المبدعين ويبالغ في معاداتهم ويحاربهم حتى الرمق الأخير على عكس أغلب شعوب المعمورة التي تعتز وتفتخر بمبدعيها وتوصلهم الى مرحلة التقديس في حين أن الكثيرين منهم أقل عطائاً وإبداعاً بل وحتى تأثيراً منكم.. فما حدث معك حدث مع كثيرين قبلك من عظماء ومبدعي العراق بدئأً بالسياب مروراً بالبياتي والجواهري وسليم البصري وعلي الوردي وجعفر السعدي وغيرهم كثير من عظماء العراق الذين لا يجود بهم الزمان إلا مرة واحدة وفي فرصة واحدة لم يستثمرها للأسف أغلب العراقيين.. فماذا فعلنا يوم كان كل هؤلاء بيننا؟.. وهل وفّيناهم حقهم؟.. وماذا فعلنا يوم كنت بيننا؟..هل وفّيناك حقك؟.. ففي الوقت الذي يقوم فيه منبر ثقافي دولي مثل ( بيت بريشت المسرحي ) في العاصمة الألمانية برلين بالإحتفاء بك وتكريمك وبمنحك لقب quot; عوني كرومي وسيط الثقافات quot; لم يُوفِّك الكثيرون من أبناء وطنك سواء أفراداً أو مؤسسات حقك ولم يعرفوا قيمتك الكبيرة كنموذج للفنان العراقي الرائع والمبدع الذي كان يعيش بينهم وهذا ديدنهم مع أغلب المبدعين الذين غادرونا مثلك قبل الأوان.. أين نحن من مصر التي تقدس ذكرى عبد الوهاب وأم كلثوم وعبد الحليم وتتباهى بهم بين الأمم وأين نحن من أمريكا التي إحتفلت بأحد أعياد ميلاد المطرب الأسطورة فرانك سيناترا بأن أوقدت له شمعة فوق نصب الحرية وبحضور الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش الأب !.. وأين وأين..

بكم لا بغيركم سيخلد إسم العراق.. بكم لا بغيركم سنتباهى بين الأمم..

سيفتقدك محبيك من أبناء وفنّاني ومبدعي العراق الذي كنت لهم أستاذاً وأباً وأخاً كبيراً.. وستفتقدك خشبة المسرح التي كنت تتنقل عليها كتنقل الفراشة بين الزهور والتي لم تفارقها ولم تفارقك حتى توقّفَ قلبك الكبير وفارقت الحياة.. وسيفتقدك العراق الذي هو أحوج ما يكون اليوم الى عراقيين أصلاء من أمثالك.

يكفيك فخراً أربعين سنة مليئة بالعطاء والإبداع الذي لم ينضب.. ويكفيك فخراً بأنك قد أعطيت للمسرح العراقي والعربي والعالمي أعمالاً خالدة لن ينساها كل متذوقي فن المسرح الجميل.. ويكفيك فخراً أنك صاحب فكرة ومؤسس مسرح الستين كرسي.. ويكفيك فخراً بأن من بين يديك اللتان كانتا تفيضان إبداعاً وخبرة وموهبة تخرّجت أجيال وأجيال من الفنانين المسرحيين العراقيين المبدعين الذين أصبحوا اليوم مفخرة الفن العراقي.. ويكفيك فخراً بأنك قد سقطت شهيداً قرب خشبة المسرح وأنت في قمة عطائك الإنساني

أيها المعلم الكبير.. لقد سكنت قلوب محبيك ومحبي العراق لأنك قد جسدت العراق في كل لفتاتك وحركاتك.. في بساطتك وتواضعك مع الآخرين.. في قلبك الذي كان عامراً بحب الجميع أيها العزيز الراحل يا أبا حيدر.. لقد عِشت من أجل العراق.. وإستشهدت من أجل العراق.. وستبقى رمزاً خالداً من رموز العراق.

أستاذي العزيز.. تلك المقالة التي كُنتُ أنا قد كتبتها قبل فترة وكُنتَ أنت تنتظر قرائتها ولم تُنشر لأسباب خارجة عن إرادتي سأنشرها قريباً بعد هذه المقالة وفائأً لذكراك الغالية وستبقى في الحلق غَصّة وفي العين دمعة وفي النفس عبرة لأنك لن تستطيع قرائتها.. لكنني واثق بأنها ستصل يوماً إليك عبر روحك الطيبة الطاهرة التي ستبقى ترفرف علينا كما ترفرف الملائكة.

وداعاً عوني كرومي.. وداعاً أيها الجبل الأشم.. وداعاً أيها النخلة العراقية الباسقة.. وداعاً أيها الشمعة التي إنطفأت قبل أوانها..

وداعاً يا إبن أرض الرافدين البار..

وداعاً يا وريث حضارات سومر وبابل وأكد وآشور..

وداعاً أيها الراهب الذي قضى عمره يصلي في محراب المسرح العراقي..

وداعاً يا شهيد المسرح العراقي..

رحمك الله يا أبا حيدر وأسكنك وروحك الطاهرة فسيح جناته.

مصطفى القرة داغي

[email protected]