أية حضارة إسلامية تمثلها دولة أتاتورك؟
في تسويق مبتذل "للحجج" و"الفوائد" المتأتية من عملية إنطلاقة المفاوضات مع الأتحاد الأوروبي في إطار السعي للعضوية الكاملة إياها، يطرح قادة حزب (العدالة والتنمية) نظريات عجيبة تؤكد تناغم طروحاتهم في الإنضمام لأوروبا مع "المصالح الأوروبية" ودخول هذه "الطروحات" حيّز "حوار الحضارت" الرائج منذ جريمة 11 سبتمبر 2001 ، ومنع تصعيد فكرة "صدام الحضارات" بين الإسلام والغرب. وذلك كله بالقول "أن عملية ضم تركيا للأتحاد الأوروبي يعني قبول العالم الإسلامي ووجود النية في الحوار معه"، وأيضاً التخلي عن فكرة "النادي المسيحي" والتي أطلقها العديد من رجالات أوروبا السياسيين ومنظروها الإيديولوجيين مراراً ومراراً للتأكيد على الطابع الديني للقارة الغنية.
لكن السؤال هنا:هل تركيا حقاً، وبتكوينيتها الحاضرة، تمثل وجهاً من وجوه الحضارة الإسلامية؟. وكيف هو الأمر إذن، والبلاد تٌسييرها الإيديولوجية الكمالية التي قمعت أي تطبيق ميداني/سياسي للإسلام وسعت للتخلص من إرثه المتمثل في الخلافة العثمانية وتركتها الثقيلة بتبديل الحروف العربية ونزع الثياب الشرقية والتضييق على المتديين بدستة إجراء "تعسفية" وضعت قيوداً على رفع الآذان ومنع الحجاب وإغلاق المدارس الدينية والجهر بوصف إي نشاط إسلامي بالرجعية(تلك التي يوصفها الجيش التركي مع {الإنفصالية الكردية}، بأكبر خطرين يٌهددان البلاد)؟.
تركيا التي يتحكم فيها العسكر وحلفائهم الطبيعيون من قوى قومية شوفينية تقوم على أساسين: الأول:إنكار العناصر الغير تركية والعمل على إذابتها في البوتقة التركية، وثانياً: الإبتعاد عن العالمين الإسلامي والعربي والتمسك بقشور الحضارة الغربية للحفاظ على علمانية ضيقة متعصبة تحتفظ بالخصوصية التركية وفق صيغتها الأتاتوركية المميزة...
والحديث عن أوروبا والإنضمام إلى ناديها المسيحي، يدخل في عدة أطر، منها أولاً: سعي الحكومة الحالية لإرخاء قبضة العسكر والقوى الشوفينية على مراكز القوة والقرار في الدولة. ثانياً:الحصول على مساعدات إقتصادية هائلة تضمن إنقاذ الإقتصاد التركي من حالة الركود وتدفع بالبلاد نحو الإنتعاش ومزيد من النمو.ثالثاً: النفاذ إلى القلب الأوروبي الصناعي عبر الإشتراك في صنع القرار السياسي الأوروبي( بالأعتماد على التمثيل البرلماني والوزن الديموغرافي الكبيرين)، وهو خيار إستراتيجي يحمل أحلاماً قديمةـ مازالت في سبات عميق وتنتظر من يوقظها ـ في السيطرة على أوروبا المسيحية وأسلمتها عبر الغزو والتوسع الديموغرافي للجاليات التركية فيها(راجع هنا أقوال و"هفوات" العديد من الساسة الأتراك في هذا المضمار). وهو الخيار الذي تتفق معه المؤسسة العسكرية في البلاد أيضاً، وذلك عبر تقارير جهاز الإستخبارات التركية(الميت)حول منع حالة إندماج الجالية التركية في ألمانيا وتأسيس لوبيات تركية رفضية وعصّية على الأندماج ترتبط بشكل مباشر بمؤسسات الدولة الأمنية...
الأتحاد الأوروبي إتجه وبعد شد وجذب لقبول تركيا مٌرشحة لنيل العضوية الكاملة، ولاشك إن المشوار سيطول وسيكون صعباً جداً في ظل الرفض الأوروبي الشعبي العارم لدخول الأتراك الإتحاد, وكذلك إمكانية تصّدر العديد من الأحزاب اليمينية المعادية للتوجه التركي لقيادة حكومات أوروبية قادمة قد تعيق أو تٌصّعب عملية التأهيل التركية في المسيرة السياسية الأوروبية الوعرة المسالك...
ثمّة كذلك، حقيقة وهيّ أن تركيا لن تندمج في الأتحاد الأوروبي كما يأمل بعض المحللين والكتاب الأوربيين العاطفيين(وخصوصاً الألمان منهم) ذلك أن "الخصوصية الدينية" للمجتمعات الريفية المسلمة(وهي الغالبية العظمى من شعب تركيا) عصيّة على الإندماج في المجتمعات الأوروبية، وهذا ظاهر في عدم إندماج حوالي ثلاثة ملايين تركي في المجتمع الألماني وإقامتهم لمجتمعاتهم المتوازية ضمن المجتمع الألماني.ذلك أن هناك "نزعة رفضّية" متجذرة في الجاليات الإسلامية من جهة رفض الإندماج و"التخلي عن الخصوصية" مقابل المواطنة الأوروبية، أو حتى ما يٌسمى ب"الإسلام الأوروبي"( ذاك القناع الذي إبتدعه الكاتب الإخواني السويسري طارق رمضان لممارسة التوسع الديمغرافي الإسلامي تحته بكل هدوء).وأوروبا تخدع نفسها بترديدها كليشيهات "الإندماج" و"حوار الحضارات" لإستقبال ملايين الفقراء من المسلمين الأتراك الذين يغايرون مجتمعاتها في العادات الإجتماعية والثقافية والقيمّية، وقد تربوا في ظل أنظمة عسكرتارية وإنقلابية، ومنظومات تربوية جذرّت فيهم ثقافة رفضية تحمل الكثير من الحقد تجاه الآخرالغربي/ المسيحي: الأوروبي والأميركي تحديداً...
ولوكان أهل تركيا وحكامها يقبلون بالعيش مع "الآخر" كما في محاولاتهم تعيّير أوروبا بذلك، لما كانوا أفرغوا الأناضول من مئات الآلاف من الأرمن واليونانيين والكرد الإيزيديين والسريان وغيرهم، عبر التقتيل وسياسة التطهير العرقي التي مارسوها، ومازالوا: في حالة الشعب الكردي وحرب الإبادة المستمرة ضده...
والحال، إن سنوات أخرى ستمر على مشوار خداع الذات التركي ـ الأوروبي قبل إن يكتشف الأثنان إنهما كانا "يٌسايسان" بعضهما البعض في ذروة واقع سياسي دولي يخادع نفسه هو الآخر بطرح مناهج "حوار الحضارات" في وجه المد الإرهابي الإسلامي، والكل يحتفظ بنية مضمرة في رفض وإستبعاد الآخر. لكن إلى ذلك الحين تكون مياه كثيرة قد جرت من تحت الجسر التركي، وأحدثت تغييراً مناسباً في العقلية التركية من جهة علاقة الدولة القمعية البوليسية ومؤسستها العسكرية مع الشعب الكردي والديمقراطيين في البلاد، وفرض المزيد من القوانين التي تحمي حقوق الكرد والأقليات الدينية والقومية، وتحترم حقوق الإنسان في جمهورية أتاتورك خليفة "سلطنة بني عثمان". وحتى ذلك الحين يبقى أبن البلد(تركياً كان أم كردياً) هو المستفيد الوحيد من هذه العملية الطويلة: فهو الذي سيربح مزيداً من الحقوق المواطنّية والإحترام(بوصفه موضوعاً تحت مراقبة الأتحاد الأوروبي الصارمة ومشمولاً بحمايته) كما سيربح مادياً عندما تتدفق مئات الملايين الأوروبية لخزينة بلاده الخاوية، أو ربما ينجح بدوره في إجتياز حدود منطقة إسطنبول الأوروبية لينضم إلى ملايين الأتراك الرافلين في عز المجتمع الأوروبي الصناعي(الكافر!) هانئين في "حواريهم الإسطنبولية" وسط برلين وكولونيا وهامبورغ وغيرها من المدن الأوروبية الكبيرة...
ثمّة أشياء كثيرة من هذا القبيل قد تحدث في السنوات القليلة القادمة...
صحافي كردي مقيم في ألمانيا
[email protected]
التعليقات