فهي ضد مصلحة الشعب الفلسطيني!

أثارت مقالتي السابقة عن عملية ناتانيا جدلا ونقاشا حادين، فقد بلغت التعليقات عليها حتى لحظة إختفائها من الصفحة الأولى ل (إيلاف) واحدا وأربعين تعليقا و تسعة عشر رسالة عبر بريدي الإليكتروني المعلن في نهاية كل مقالاتي، وغالبية هذه التعليقات والرسائل من فلسطينيين في القطاع والضفة، وإذا إعتبرنا أن هذه التعليقات والرسائل عينة أو نموذجا للرأي العام العربي والفلسطيني إزاء هذا النوع من العمليات، فمن المهم دراستها و تصنيفها في محاولة لإثراء النقاش حول هذا النوع من العمليات في هذا الوقت، لأنها مرتبطة بنضال الشعب الفلسطيني ومستقبله. في البداية أود القول الصريح الواضح أن خسائر الإسرائيليين من القتلى والجرحى من جراء هذه العملية مجرد نقطة في محيط قياسا بخسائر الفلسطينيين من إرهاب جيش الإحتلال الإسرائيلي المتواصل منذ عام 1948 وبدون توقف حتى اليوم، هذا الإرهاب الذي يحتاج إلى مجلدات لتوثيقه، وأيضا أنا على قناعة تامة بأن دولة إسرائيل غير جادة في إقامة سلام عادل وشامل يستجيب للحد الأدنى من الطموحات الفلسطينية التي تبلورت منذ جلسة المجلس الوطني الفلسطيني في الجزائر عام 1988 في إقامة الدولة الفلسطينية ضمن حدود عام 1967، أي في كامل قطاع غزة والضفة الغربية بما فيها القدس الشرقية، وهي الحد الأدنى الذي لا يستطيع أي فلسطيني أن يقبل بأقل منه، لأن دولة إسرائيل لو كانت جادة في ذلك وأوفت بإلتزاماتها في إتفاقية أوسلو، لتم هذا الإنسحاب وأعلنت الدولة الفلسطينية منذ سنوات، وعندئذ ما كان لهذا العنف المتصاعد بين الجانبين قد إستمر مدمرا البشر والحجروإمكانيات السلام العادل والحقيقي.
بعد هذا التوضيح الضروري، من المهم القول أن المقالة السابقة التي أدنت فيها عملية ناتانيا ولم أكن الوحيد فقد أدانتها السلطة الفلسطينية واعتقلت أعضاءا من حركة الجهاد على خلفيتها، لم يكن الهدف منها المقارنة بين إرهاب وإرهاب، أو بين خسائرالشعب الفلسطيني وخسائر دولة إسرائيل من هكذا عمليات من الطرفين،ولكن الهدف منها كان مناقشة عدة نقاط وردت في المقالة وهي:
أولا: هل طبيعة الصراع مع العدو تقتضي إنزال خمسة قتلى في صفوفه فقط، أم من الضروري دراسة نوع رد العدو وحجم الخسائرالتي يستطيع العدو إيقاعها في صفوف الشعب الفلسطيني؟. وضرورة التفريق بين ميزان القوى وميزان الرعب، فمن خلال ميزان الرعب، أرعبت هذه العمليات الجانب الإسرائيلي أكثر من الرعب الذي أوقعه في الجانب الفلسطيني، إلا أن هذا غير ميزان القوى المائل لصالح الجانب الإسرائيلي بشكل واضح، وهذا يحتم على الجانب الفلسطيني معرفة أن السياسة هي فن الممكن..وإلا لماذا توافق جميع التنظيمات الفلسطينية على الهدنة التي أعطاها البعض تسمية التهدئة؟.
ثانيا: هل من النضال المدروس أن تضرب العدو دون القدرة على حماية شعبك من ردود فعله؟ وهذا هو الملاحظ في غالبية الأوقات: تنظيمات تضرب العدو في عملية محدودة أو عمليات إطلاق صواريخ لا توقع خسائر في صفوفه، وبعد ذلك تختفي أثناء إجتياح العدو ردا على العملية، ويتلقى الشعب الأعزل النتائج الكارثية، وهذا ما يعيشه الشعب الفلسطسني في الضفة عقب عملية ناتانيا..إجتياح وحصار وإعتقالات دون إطلاق رصاصة واحدة على جيش الإحتلال من حركة الجهاد التي قاممت بعملية ناتانيا !!
ثالثا: أرادت المقالة أن تقول وتسأل: إلى متى يستمر هذا الوضع الشاذ واللاوطني واللاأخلاقي في المناطق الفلسطينية؟. السلطة الفلسطينية لها برنامج سياسي تم إنتخاب محمود عباس رئيسا على أساسه، وما لايقل عن خمسة عشر فصيلا وتنظيما وحزبا، كل واحد منها له برنامج مختلف عن برنامج السلطة وبرامج الآخرين، فإلى أين ستقود هذه الفوضى السياسية والتنظيمية الشعب الفلسطيني؟؟. وكأمثلة فقط: حركة حماس مع الإنتخابات حينا وضدها حينا آخر، وحركة الجهاد ضد الإنتخابات، لذلك كان رأي البعض أن هدف عملية ناتانيا هو خلط الأوراق وإستفزاز الجانب الإسرائيلي لعرقلة الإنتخابات وهو أساسا يعلن عن عدم موافقته على مشاركة حماس فيها. وجبهة التحرير العربية ضد الإنتخابات لأنها تقع تحت سلطة الإحتلال تماما كما الوضع في العراق حسب رأيها، ومن يسمع تسمية (جبهة التحرير العربية) و (جبهة التحرير الفلسطينية) و (الجبهة الشعبية – القيادة العامة) و (جبهة النضال الشعبي) و...و...و....يعتقد أنه أمام تنظيمات ذات قوات ضاربة وأعضاء وكوادر بالآلآف، ونحن وغالبية الشعب الفلسطيني نعرفهم منذ عشرات السنين في الأردن وسورية وجمهورية الفاكهاني وقبرص وتونس، وهم يعرفون أن هذه التنظيمات فعلا مجرد دكاكين للوجاهة والمنفعة الشخصية،وأعضاء أغلبها لا يزيدون عن سعادة الأمين العام ونائبه وأبنائهما وبعض الأصدقاء، وبناءا على الوضع السائد في المناطق الفلسطينية من الممكن القول: ولم الحسد..إتركوهم ينتفعوا مثل غيرهم !!. ولكن الخطورة الكارثية من جراء هذا التشرذم هي الفوضى الأمنية المتمثلة في ظواهر الإغتيالات والإحتجاجات المسلحة والإعتداءات على المواطنين التي أشارت مقالتي السابقة لها، بالإضافة للفوضى السياسية التي تطرح أكثر من برنامج وتوجه سياسي، خاصة في ميدان ماأصطلح على تسميته (التهدئة) التي يفهمها كل تنظيم ويطبقها حسب مزاجه أو توجهه. والدليل على ذلك رفض (الشيخ حسن يوسف، قيادي حركة حماس المعتقل في السجون الإسرائيلية) غير المباشر لعملية ناتانيا، عندما طالب أمس الجميع بالحفاظ على التهدئة مع الجانب الإسرائيلي، فبادرت حركة الجهاد لمهاجمتة متسائلة عن التغير في موقف حماس!!.
بعد هذه التوضيحات، أعود إلى تعليقات القراء ورسائلهم التي ذكرت عددها في مطلع المقالة، ويمكن تصنيفها كالتالي:
أولا: تسعة منها رفض أصحابها المقالة جملة وتفصيلا، واعتبروا كاتبها عميل وخائن وجاسوس يعمل لحساب الموساد ويقبض منها، دون أن يناقشوا أية فكرة وردت في المقالة وطرح البديل عنها، ودون أن يذكروا المبلغ الذي تسلمته من الموساد. هذا النوع من التعليقات والرسائل ظاهرة عربية بإمتياز، فهي السائد في الساحات العربية، فكل من يخالفنا في الرأي عميل وجاسوس وخائن ومرتشي، والغريب أن هذه الظاهرة تتناقض مع العديد من أوجه الموروث الثقافي العربي ومع القرآن والسنة النبوية. ففي الموروث الثقافي العربي يتكرر ما معناه (الخلاف في الرأي لا يفسد المودة بين الناس) وفي القرآن الكريم: (ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم)، (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن) (وادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة) وفي وصف الرسول (وإنك لعلى خلق عظيم) ويقول الرسول عن نفسه (جئت لأتمم مكارم الأخلاق). فكيف طغت ظاهرة الشتائم والإتهامات والإفتراءات في ساحة الحوار العربي؟. سؤال يحتاج إلى دراسات إجتماعية ونفسية !!!.
ثانيا: واحد وخمسون تعليقا ورسالة، أيّد أصحابها وصاحباتها ماورد في المقالة جملة وتفصيلا، وذكروا الكثير عن معاناة الشعب الفلسطيني من جراء هذه الفوضى الأمنية والسياسية والنضالية، وهاجم بعضهم أصحاب التعليقات من الصنف الأول متهمين أولئك بالمزايدة وعدم التمعن في معاناة الشعب الفلسطيني التي تنتج عن هذه العمليات. وهذا يعني أن من يرى أن هذه العمليات في هذا التوقيت تضرّ بمصالح الشعب الفلسطيني هم الأكثرية في المجتمع الفلسطيني، ومن المهم التذكير أن وقف عسكرة الإنتفاضة أصبح تيارا واسعا في ساحة العمل والنشاط السياسي والثقافي الفلسطيني.
من بين كل هذه الرسائل والتعليقات إثنتان من المهم التوقف عندهما، لأنها يشيران إلى خلل آخر في طريقة التفكير والنقاش العربي:
الأولى: وقعها صاحبها ب (المتابع) وموجودة في تعليقات القراء في إيلاف، تصيّد خطأ مطبعيا ليعاتبني كيف أنا من يحمل درجة الدكتوراة في اللغة والأدب العربي، أقع في هكذا خطأ !!. وتذكر (المتابع) أنه الوريث الشرعي الوحيد لسيبوية ومؤسسي فن البلاغة ومجامع اللغة العربية، فأسهب في مناقشة إستعمالات لغوية يفضّل هو إستعمالها على أنها الأصح والأرقى مما إستعملت أنا...إلخ. إن هذا النوع من التعليقات ليس في محله ومثله الكثير بتنويعات مختلفة، يقصد منها المماحكة والمناكفة الشخصية فقط، متناسيا الموضوع المهم الذي تطرحه المقالة سواءا كان الكاتب مخطئا في طرحه أم مصيبا، ففي الموروث العربي أيضا (من إجتهد وأصاب فله أجران، ومن إجتهد وأخطأ فله أجر واحد). وآمل أن لا يناقشني (المتابع) في صحة كلمة (المناكفة) فهي صحيحة ومأخوذة من (الكنافة) النابلسية المنسوبة لمدينة نابلس التي حاصرها جيش الإحتلال الإسرائيلي عقب عملية ناتانيا، ولم يجد سكان المدينة واحدا من حركة الجهاد التي قامت بالعملية يتصدى لجيش الإحتلال ويوقف حصاره و تقدمه !!!.
الثانية: وصلتني عبر بريدي الإليكتروني من شخص يفترض أن إسمه (نضال قادري)، يقول فيها حرفيا: (إن الجهة التي قامت بالعملية التي تنعتها بالإرهابية هم جاهزون لقتلك يأيها الكاتب المغرر بك وبكتاباتك. إن مقالك لا يخدم إلا الإحتلال الإسرائيلي لبلادنا. أي كاتب يقف في جانب الإحتلال هو من المرتزقة وخائن لتطلعات شعبه). وأنا موافق تماما على الجملة الأخيرة من رسالته، وأقول علنا: كل من يقف في جانب الإحتلال فهو مرتزق وخائن لتطلعات شعبه في الحرية والإستقلال، وأنا لن أكون واحدا من هؤلاء، فالإحتلال هو الذي شردني من بير السبع إلى مخيم رفح ومن المخيم إلى المنافي العربية والغربية وأخرها أوسلو. ولكن من حقي وحق كل فلسطيني وعربي أن ينتقد السلبيات والممارسات الخاطئة التي تضرّ بنضال الشعب الفلسطيني وتجعله في نظر العالم ضمن موازين القوى السائدة إرهابيا وليس ضحية وتحول خصمه الإرهابي فعلا إلى ضحية وهمية. أما التهديد الوارد في رسالة (نضال قادري) فيوحي أنه من قيادات حركة الجهاد والمجموعات المسلحة الضاربة أمامه، تنتظر فقط أوامره للتحرك إلى أوسلو لقتلي، وإلا كيف يفهم قوله (إن الجهة التي قامت بالعملية...هم جاهزون لقتلك)..هل يفهم منها غير أنهم ينتظرون أوامره للتحرك لتنفيذ القتل. وقد رددت على الأخ (نضال قادري) برسالة إلى بريده الإليكتروني، ذكرت له فيها ما ذكرته عن أساليب الحوار المجدي الذي من شانه أن يصحح قناعاتي إن إقتنعت أنها خاطئة، و وضحت له أنني مجرد كاتب أقول رأيا يحتمل الصواب أو الخطأ ولا أملك القوة لتفيذ رأيي رغم أنف الجميع، ووضحت له أنني لست الوحيد الذي أدان العملية ووضح أضرارها بالشعب الفلسطيني، فالعديد من الكتاب أدانوها وكذلك محمود عباس رئيس السلطة الفلسطينية ووزيره صائب عريقات. وبالإضافة لذلك أقول للأخ (نضال قادري) ولكل من يلجأ لأسلوب التهديد والتخوين: حسب المنطق القرآني الذي أنا مؤمن به (لئن بسطت إليّ يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك)، وحسب قول الشاعر الفلسطيني المرحوم معين بسيسو، عندما تحدث في قصيدة له عن صمت الكاتب، قال: (الصمت موت...إن قلتها مت..وإن لم تقلها مت..قلها ومت) لذلك فأن أموت بعد قولي كلمة أراها ويراها كثيرون كلمة حق، فهذا موت مرحبا به لأنه أفضل من موت السكوت !!!.
إن القناعة بحرية الرأي والنقاش الهادىء الذي يؤيد أفكار الآخرين أو ينقضها، من أهم التحديات التي تواجه العقلية والثقافة العربية...فهل نستطيع الوصول إلى ذلك؟؟.

[email protected]