لا أتكلم هنا من منطلق مذهبي رغم اعتزازي بكوني شيعيا، منتميا إلى تلك الروحية الشيعية الرائعة، الروحية التي صاغها محمد في أسسها الأولى ورعاها ثلة من ولده الكرام بالدم والدموع والحب والألم والعطاء والبذل، وإلاَّ هل وجدنا ما يخل بسيرتهم، وأخلاقهم، وإنسانيتهم...؟ وهل سطر التاريخ ما يجعلنا نستنكف من حبهم والتأسي بهم؟
أتكلم من منطلق واقعي، من الأرض وليس من السماء، حيث أقول لا يمكن لأي أبن أنثى أن يزايد على وطنية المسلم الشيعي في كل مكان، وهذه الوثائق والوقائع تصرخ بهذه الحقيقة الكبيرة.
أقول وبكل ثقة، أن المسلم الشيعي نزاع إلى الدستورية بشكل مدهش، وهذه تجربة إيران التاريخية شاهد حي على ذلك، فقد كانت المطالبة بدستور وطني يقيد صلاحية الملك من أبرز الأمور التي طرحها علماء الشيعة في القرن التاسع عشر في معركتهم مع البهلوية، وهي ذاتها التي طرحها علماء الشيعة في العراق في خضم المعركة السياسية مع الانكليز وأنصارهم، واليوم يؤكد المرجع السيستاني الكبير على أهمية وحضارية وخطورة الانتخابات النيابية، في سياق تشكيل العراق الجديد، وقد بذل الرجل قصارى جهده لإنجاز العملية السياسية ذات النزعة الديمقراطية في العراق، ولا ينكر ذلك إلا مكابر، وهام شيعة البحرين يلحون على مطلب واحد فقط، ذلك هو الدستور المنبثق من إرادة الشعب، وفي السياق شيعة السعودية الذين يؤكدون على ثقافة الحقوق ليس إلا ّ، وحتى إيران التي لا نختلف معها كثيرا وكثيرا، فإن للديمقراطية مساحة من الوجود، قياسا بالأنظمة العربية الأخرى.
الوطنية الشيعية يشهد لها مواقف الشيعة في العراق ضد الإنكليز ودعوتهم الصريحة إلى الاستقلال الكامل، والقبول بملك عربي هاشمي مقيد بدستور أو مجلس نيابي، وتتجلى هذه الوطنية الرائعة بموقف شيعة السعودية تاريخيا، لما رفضوا بطلب وتخيير من الإنكليز الدولة الشيعية ضمن تواجدهم الأكثري في الجزيرة العربية، ألحوا بأنهم جزء لا يتجزأ من هذه الجزيرة المباركة حتى إذا كانت تحت حكم وإمرة مسلم سني ! وتبرز هذه الوطنية العملاقة في موقف شيعة الكويت من الاحتلال الصدامي البغيض للكويت الشقيقة، ولكم أن تسألوا أهل الكويت الكرام، عن الذين أصروا على البقاء في الكويت، والذين رفعوا سلاح المقاومة لطرد صدام، حيث كان لشيعة الكويت الدور الجوهري في ذلك، وتتجلى هذه الوطنية بكل وضوح لما رفض السيد محسن الحكيم رحمه الله الحرب التي شنها جيش صدام على الأكراد، وكانت فتواه مشهورة (لا قتال ولا انفصال القاتل والمقتول في النار)، وهل نحن بعيدين عن الموقف الشيعي من حركة عبد القادر الكيلاني قبل أن تظهر الحقائق ويُبان المخفي؟ وهل ننسى البرنامج العظيم الذي تركه الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء، الذي جاء بعنوان (الميثاق العربي)، والذي حدد فيه معالم النهضة العربية للمستقبل، هذا الكراس الذي جاء متمما لخطبته الطويلة في القدس، حيث أم كل المسملين أنذاك، والتي فيها شن حربه الضروس على الحكام العرب الذين كانوا يساومون لبيع الأرض العربية للأعداء.
لعل ا لكثير لا يعلم أن أول صياغة دستورية منبثقة من تصور ديني إسلامي، يرسي معالم الديمقراطية هي من صنع عالم شيعي معروف، ذلك هو الشيخ النائيني في كتابه (تنزيه الملة)، الذي قرر فيه أن الديكتاتورية الدينية أسوا من الديكتاتورية العسكرية، بل ومن كل الديكتاتوريات، ذلك السفر العظيم الذي ثبت فيه الحق الديمقراطي بشكل واضح جلي. ولعل لا يعرف الكثير من المسلمين وغيرهم أن أول كتاب في ثقافة الحقوق هو تلك الرسالة القيمة التي ألقها أو كتبها الأمام الشيعي الرابع علي بن الحسين الملقب بالسجاد، وعنوان الرسالة (رسالة الحقوق)، حيث نجد فيها تصنيفا رائعا لمنظومة الحقوق، حقوق الفرد وحقوق الأمة وحقوق الحاكم وحقوق الرعية وحقوق البدن وحقوق الروح... وهل نعلم أن أول عملية اختيار شعبي في تاريخ الخلافة الراشدة كان مع علي بن أبي طالب عليه السلام، وهل نعلم أن الكثير من فقهاء الشيعة إذا كان يؤمن بأن الإمامة تعيين، فأنه يصرف ذلك إلى الامامة الدينية وليس إلى الإمامة السياسية، فأن الامامة السياسية تتم بالبيعة والاختيار؟
المسلم الشيعي ينزع باتجاه الديمقراطية، باتجاه الدستورية، ولعله يستند في ذلك إلى تاريخه، تاريخ علي بن أبي طالب، تاريخ الحسين الذي لم يقدم إلى الكوفة إلا بطلب أهلها الطيبين، ومن ثم هذا هو كتاب علي إلى الاشتر الذي سطر الحقوق المدنية أي ما تسطير، وفي مقدمتها الحقوق السياسية، ِولعل ما يقوله بعض علماء الشيعة بمبدأ (ولاية الأمة على نفسها) مشتق من هذه الأسفار والتجارب الشيعية الرائعة.
يكفي الشيعة فخرا أنهم لا يكفرون مسلما، ويكفيهم فخرا أنهم حاربوا الانكليز في العراق والهند، والفرنسين في سوريا الكبرى، وكانوا القوة التي تحدت جبروت صدام حسين، فكانت مأساة القبور الجماعية التي هي عار على جبين الإنسانية، وهل ننسى ما قدمه شيعة لبنان لأخوتهم الفلسطينين، حتى كان ذلك على حساب الشيعة في العراق في كثير من الأحيان.
أني أدعو الأخوة السنة في كل مكان إلى التملي بهذه الحقائق التاريخية الصارخة، ومن ثم إتخاذ الموقف الذي ينسجم مع الحق والحقيقة، فالشيعة لم يبخوا بدم في سبيل وطن ودين، ولم يبخلوا بمال في سبيل قضية عربية وإسلامية، وليسألوا الأخوة الفلسطينين كم بذل الشيعة من الحقوق الشرعية في لنصرة هذه القضية المقدسة.
ليس لدى فقه سلطاني، بل فقه شعبي، ولم يدونوا في كتبهم الفقهية (سلطان غشوم ولا فتن تدوم)، وقالوا قولتهم التاريخية العظيمة (كافر عادل خير من مسلم جائر).
التعليقات