1-ما هو تعريف العلمانيّة؟
نستطيع أن نعرف العلمانيّة بأنّها فلسفة الإنسان الذي يحاول امتلاك قدره في أمور الدّنيا والآخرة. أي أنّ الإنسان العلماني هو ذلك الفرد الذي يمتلك بعدين وجوديين، بعدا عموديا يربط وجوده على مستوى الضّمير والوجدان بقوّة ما فوق الطّبيعة، وقد لا يرتبط بأي قوّة أصلاً، وهذا ما يمكن أن نطلق عليه عبارة "البعد الإيمانيّ"، وبعدا أفقيّا يرتبط به السّلوك المدني للفرد مع بقيّة الأفراد الآخرين في المجتمع، وهذا البعد يقوم على أساس المواطنة وما تمليه من حقوق وواجبات، ويمكن أن نطلق عليه عبارة "بعد المواطنة".
فالإنسان العلماني هو من يمتلك هذين البعدين ويؤمن بعدم الخلط بينهما ويدرك بأن الفصل بينهما أسّ الأساس في التّعايش السلمي داخل المجتمعات البشريّة.
أمّا البعد الإيماني، فهو بعد خلافي لا يمكن أن يخضع لمعايير القيمة، وإذا أخضعناه إليها كان سببا في العنف والملاحقة الإلهيّة بأيد بشريّة. وأمّا البعد المواطنيّ، فهو بعد متعيّن قابل للتقييم والضبط والزيادة والنقصان والتّعديل والتجريح.
فالعلمانيّة إذن يمكن أن تعرّف بأنّها تلك الفكرة التي تطمح إلى تخليص الدين من الصّراعات البشريّة حتّى يكون أكثر صفاءً، وتخليص الصراعات البشريّة من تحكّم رجال الدين حتّى تكون أكثر ديناميكيّة وأقلّ حدّه وأوسع مشاركة.
2- هل العلمانيّة ضدّ الدّين؟
العلمانيّة ليست ضدّ الدين، ولكنّها ضدّ تحكّم رجال الدّين في الحياة السّياسيّة.
ولكن يجب أن نلفت الانتباه إلى أنّ العلمانيّة ليست وصفة محدّدة أو معادلة جامدة، فهي مفهوم يتحدّد في التّاريخ ويكتسب مضمونه منه. إنّ الأمم التي عانت من ثقل كلكل الدّيانات ومن تحكّم رجال الدّين في كلّ أمور الحياة، قد أنتجت علمانيّة مناضلة إلى درجة الشراسة والتعصّب. أمّا العلمانيّة التي نشأت في مجتمع متوازن لم يحتكر فيه رجال الدين كلّ الفضاءات الحياتيّة، فكانت قادرة على التّعايش مع الأديان. بل إنّ الأديان تنتعش في المجتمعات العلمانيّة ذات المحتوى الديمقراطي، من خلال تقسيم المجال الحياتي إلى دنيا مرجعيّتها العقل والتّجربة، وهذا مجال العلمانيّة، وإلى فضاء للأخلاق وما بعد الحياة، حيث مرجعيّة الوحي وعمل الأسطورة.
3- هل تشكّل العلمانيّة قطيعة مع جذورنا الإسلاميّة؟
لا تشكّل العلمانيّة قطيعة مع الإسلام أو أيّ ديانة أخرى، وذلك بدليل تاريخي مستفاد من التّجارب الغربيّة. فانتصار العلمانية في هذه المجتمعات أحدث قطيعة مع مجموعة الأفكار القديمة التي أنتجتها تأويلات النّصوص المقدّسة والتي استبدّت وفرضت رؤاها على كلّ الميادين بما في ذلك العلوم الطّبيعيّة، وحاولت إضفاء الحقائق اليقينيّة على هذه الأفكار حتّى وإن تعارضت مع البراهين العقليّة والقوانين العلميّة الصارمة. ولكن هذه المجتمعات ما زالت تمارس طقوسها الدّينيّة رغم انتصار العلمانيّة، وما زالت فيها الكنائس والمعابد والمساجد مأهولة بالمؤمنين. كلّ ما حدث هو أنّ العلمانيّة حرّرت الاعتقاد من الصّراعات الحياتيّة أو بمعنى آخر حرّرت المواطن المؤمن من الانفصام نتيجة وضعه المربك الذي نشأ من فرض التفسيرات اللاهوتية المتعارضة مع المعارف الجديدة عن الحياة ومع قوانين الطّبيعة، فانعتق الإنسان بتحملّه المسؤوليّة عن أفعاله، وساهمت العلمانيّة بذلك في وضع صورة أجمل للّه نفسه لدى المواطن المؤمن.
4- لماذا تتعارض الدّولة الدّينيّة مع الدّولة العلمانيّة؟
إنّ الفرق الجوهريّ بين الدّولة الدّينيّة والدّولة العلمانيّة يكمن في نوع الشّرعيّة التي تستند عليها السّلطة السّياسيّة، فالدّولة الدّينيّة تستند السّلطة فيها على ظاهرة الوحي بصفته مصدرا لكافّة الحقائق وبصفته المعبّر عن الإرادة الإلهيّة. وهذا النّوع من الشّرعيّة قد ساد خلال حقب طويلة من تاريخ الاجتماع الإنسانيّ. أمّا الدّولة العلمانيّة، فتتّخذ مصدر شرعيّة السّلطة فيها من إرادة الشّعب من خلال الاقتراع العامّ لكافّة المواطنين.
الدّولة الدّينيّة هي دولة إعداد وتأهيل المؤمن للآخرة، وذلك باحتقار الدّنيا وشؤونها وازدراء كلّ مظاهرها حتّى يتسنّى لممثّلي اللّه في الأرض (وهم أولو الأمر المتحالفون مع رجال الدين) تسيير الإنسان المؤمن في قطيع سلس لا ينظر إلاّ إلى مرعى الآخرة اليانع.
فالدّولة الدّينيّة تتحكّم في السّلوك وفي الضّمائر وتحاول في حراستها للمقدس أن تخضع النّوايا للمحاسبة والعقاب الدّنيوي.
أمّا الدّولة العلمانيّة فهي تلك الدّولة التي تعنى بسلوك المواطن ومطابقته أو عدم مطابقته للقوانين التي تواضع المجتمع عليها. أمّا الضمائر فلا دخل لها بها. فالدّولة العمانيّة تفرّق بين الإنسان المؤمن والإنسان المواطن، فهي دولة للإنسان المواطن سواء كان مؤمنًا أو ملحدًا، سواء كان ينتمي إلى دين الأغلبيّة أو الأقليّة، فتضع القوانين وتطبق الجزاءات على المواطن وتترك الخطيئة للعقاب الأخروي. ولنقل باختصار إنّ الدّولة الدّينيّة هي دولة المؤمنين التي تحتكر كلّ الفضاءات الاجتماعيّة وتعنى بتأهيل المؤمن الرّعية إلى ما بعد الموت، وهو لا يتأهّل إلاّ إذا سلّم قدره إلى رجال الدين الذين يعرفون فكّ طلاسم المقدس وترجمته للمؤمن في نصوص واجبة التّسليم والاتّباع، وإنّ الدّولة العلمانيّة تترك مهمّة الخلاص الأخروي حكرًا على الفرد وضمن فضاء الحريّة الشّخصيّة، وكلّ همّها يتوجّه إلى تطوير الإنسان من خلال تراكم تجربته التّاريخيّة.
5- لماذا يقرن الإسلاميون العلمانيّة بالإلحاد؟
كان انفتاح الإسلاميّين على التّجربة الفرنسيّة مبكّرا، ونحن نعرف أنّ مخاض العلمانيّة في فرنسا كان مؤلمًا عسيرًا، وأنّ انتصار الثّورة الفرنسيّة على الإقطاع والإكليروس كان انتصارًا دمويًّا وقاسيًا، لذلك حاولت الثّورة الفرنسيّة أن تجتثّ جذور عدوّها المهزوم وتزلزل أركانه، وهذا حدث لا يقبل التّكرار في كلّ التّجارب. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإنّ رجال الدّين لا يخرجون من مسرح الأحداث ولا يسلّمون بأنّهم يرعون الأرواح لا الأجساد لأنّ ذلك يحدّ من هيمنتهم على المجتمع وسطوتهم في تقرير مصيره.
فهم لا يريدون أن يفقدوا هذه السلطة التي اكتسبوها في فترة الانحطاط، حيث كان الشيخ يعرف ما ينفع النّاس في الحياة، وبعد الممات فيفتي في نواقض الوضوء والحجّ والميراث والحيض... وكذلك المتكلّم باسم جماعة المؤمنين مع الحاكم والسّلطان. لذلك كانت البيعة للحاكم لا يقوم بها الشّعب وإنّما يقوم بها أهل الحل والعقد وهؤلاء هم الفقهاء. لذلك كان من المنطقي أن يدافعوا عن استمرار امتيازاتهم وأن يقذفوا العلمانيّة التي تحاول أن تسلبهم ذلك بالإلحاد والكفر البواح.
6- هل يمكن تحقيق الدّيمقراطيّة بدون علمانيّة؟
إنّ الديمقراطيّة بدون علمانيّة هي حيوان أسطوري لا وجود له إلاّ في أذهان الإسلامويّين وخطابهم السّياسي. أمّا التّجربة البشريّة فهي تنفى إمكانيّة حصول ذلك.
إنّ الوصول إلى الديمقراطيّة بدون علمانيّة لم يقل به أحد غير بعض العرب من أمثال المفكّر المغربي محمد عابد الجابري الذي عودنا على توليد أفكار خرافيّة في معامل الفكر المؤدلج.
بادئ ذي بدء نقول إنّ كلّ نظام ديمقراطي لا بدّ أن يكون نظامًا علمانيًّا ولكن ليس كلّ نظام علمانيّ هو نظام ديمقراطي بالضّرورة.
فالعلمانيّة هي رفض لفكرة إقامة دولة دينيّة تهيمن على المجتمع، ولكنّها قد تؤسّس لنظام متعصّب يكرّس إيديولوجيّة اجتماعيّة أو سياسيّة أو اقتصاديّة تهمش فئات من المجتمع بسبب العرق أو اللّون أو المعتقد، كما حدث في ألمانيا النّازيّة أو إيطاليا الفاشية أو جنوب إفريقيا العنصريّة أو الاتّحاد السّوفياتي في دكتاتوريّة البروليتاريا. وهذا شأن العلمانيّة التي تتّخذ من الدّين خصمًا، وتحاول اجتثاثه من المجتمع كما حصل بعيد الثّورة الفرنسية أو إبان العهد الستاليني في الثورة البلشفيّة، فهذه كلّها كانت أنظمة علمانيّة قامت على العسف والطغيان وتسبّبت في محن وكوارث بشريّة.
ولكن يجب أن نقول إن العلمانيّة عندما تتّخذ المضمون الديمقراطي تكون قادرة على إفراز نظام اجتماعيّ وسياسيّ واقتصاديّ لا يقوم على الإقصاء وإنّما على التّراضي في العيش المشترك للمواطنين. أي أنّ العلمانيّة الديمقراطيّة هي وحدها التي تعترف بالمواطنة لكلّ مكوّنات المجتمع وترفع عنهم حيف الإكراه الدّيني والسّياسي.
أمّا إذا ادّعى مجتمع ما أنّه قادر على تحقيق الدّيمقراطيّة بدون علمانيّة، فإنّ ذلك يخفي مخاطر جمة منها سيطرة رجال الدين على المجتمع وفرضهم رؤية ميتافيزقيّة تخالف الواقع السّياسي. وهكذا تكون الديمقراطيّة ديمقراطيّة صوريّة أقصى إنجاز يمكنها أن تحقّقه هو صناديق اقتراع تفضي إلى اختيار جلاد من باقة المستبدين، ونظام إيران دليل ساطع على ذلك.
التعليقات