لم تكن ثورة 14 تموز( يوليو) 1958 حدثا عابرا في تاريخ العراق الحديث.ومازالت افرازاتها قائمة لحد اليوم، وكل ما شهده العراق خلال العقود الخمس الاخيرة وما يحدث اليوم هو بشكل ما امتداد للحدث التاريخي الكبير. والكتابة عن تموز اليوم ليست من باب الكتابة الموسمية للاحتفاء بحدث يرتبط فيه قطاع واسع من العراقيين بمشاعر رومانسية، مشحونه بذكرى ايام ناصعة. وهذا حقا ما يتسم به أي حدث تاريخي كبير، الكتابة عن 14 تموز( يوليو) مسالة ملحة كونها تساعدنا على ادراك كنه الحاضر واليات تحركه. فالتاريخ يعيد نفسه في العراق، وبصورة ماساوية.
لقد تمخضت ثورة 14 تموز( يوليو) عن صراع داخلي طويل الاجل بين القوى التي كانت تنزع الى الاستقلال وبين نظام الحكم الملكي الذي كان ينفذ سياسات استعمارية تناقضت ومصالح البلد والمصالح القومية والاقليمية وحركة التحرر الوطني التي تصاعدت بوتائر عالية في تلك المرحلة. ومن وجهة نظر اليوم فان القاسم المشترك الوحيد، الذي كانت يربط القوى السياسية الفاعلة على الساحة العراقية، والمحركة للثورة انحصر فقط في اسقاط النظام الملكي، لان الطرق سرعان ما افترقت بها، ربما في الايام من الثورة. حينها ارتسم اصطفاف جديد للقوى العراقية، التي كانت قاعدة اساسية للثورة، ونشب بينها صراع اسفر عن اراقة دماء غزيرة في العراق، مازال قائما لحد اليوم. وهذا ما يستدعي التمهل والتعمق في فرز السبب الحقيقي للفاجعة العراقية، واستمرارية دوران طاحونة الدم. ودون شك فان السبب الرئيسي يكمن في مصالح القوى المتطاحنة، في سعيها للسيطرة على السلطة والنفوذ ومصادر الثورة والتحكم بمقدرات البلد في رؤيتها لتطور العراق لاحقا. وقد جسمت الصراعات التي دارت في السنوات الاولى لثورة 14 تموز( يوليو) ذلك الصراع وافرزت بصورة واضحة القوى المنخرطة في الصراع وطبيعتها.
ان النجاح الباهر الذي واكب ثورة 14 تموز( يوليو) والدعم الجماهيري منقطع النظيرلها، كان مشروطا بطبيعتها. فالشعب العراقي كان يتطلع الى ان تؤسس الثورة لبناء نظام حكم جديد يكون الغاء لما سبقه. ويضع المقدمات لدولة المؤسسات والقانون دولة العدالة الاجتماعية، والخلاص من مظاهر الطائفية والمذهبية. لذلك فاننا نرى ان الجماهير التي شاركت في دعم الثورة تناست انتماءاتها الطائفية والمذهبية والعرقية. وفعلا فان قيادة الثورة وبفعل ذلك الضغط باشرت بخطوات ايجابية لبناء مؤسسات المجتمع المدني واعطت فسحة واسعة من الحرية للعمل الحزبي والصحافة، والعقيدة والحريات العامة، فتنفست المرأة الصعداء، ووجد الطلاب والشباب واصحاب المهن نقاباتهم وجمعياتهم التي تعبر عن مصالحها. أي ان الناس عثروا على اسس جديدة للعلاقات بينهم . وسنت الثورة العديد من القوانيين التي صبت في مصلحة شرائح اجتماعية واسعة، وخططت لمشاريع انهاض الاقتصاد الوطني، وتخليص الثروة النفطية من قبضة الشركات الاجنبية، وانتهجت سياسة خارجية مستقلة تعبر عن مصالح البلد وتخدمها.وكان على الثورة المضي ابعد في طريقها هذا، واجراء الانتخابات لرئيس الجمهورية والبرلمان وتحقيق العدالة الاجتماعية. هذا هو الطريق المشروع والوحيد لثورة 14 تموز، هذه هي المهمة التاريخية لثورة 14 تموز( يوليو). ولكن القوى المنخرطة غدرت بالمشروع واطاحت به واطاحت بالحلم العراقي فانقلب لكابوس مازالنا نراه لحد اليوم.
ان مسار الثورة وفق ذلك المنظور اثار رعب القوى التي ادركت بانه سوف يحرمها نهائيا من الاستئثار بالسلطة وموارد البلد وانتقالها الى طبقات جديدة. وتحالفت قوى ذات اهداف وطبيعة مختلفة والتفت حول شعار:اجهاض الثورة، واستعادة ما خسرته، ومنع مضي العراق في الاتجاه الذي يصب في مصالحها. واليوم نرى في العراق ان بقايا تلك القوى هي التي تقف وراء عرقلة المسيرة نحو بناء دولة القانون الديمقراطية واستكمتال اهداف ثورة تموز. وتحارب تلك القوى اليوم بوسائل اكثر دموية، ولايقف امام تنفيذ جرائمها الوحشية وازع اخلاقي او ديني، فالرهان اكبر، وهي تدرك ان هزيمتها هذه المرة ستكون منكرة واخيرة, فالشعب العراقي مصمم على المضي في طريق بناء الدولة الديمقراطية.
واستفادت قيادة الثورة، التي تراجعت عن الاهداف الحقيقية المعلنة، من ذلك الصراع، ولعبت على تلك الورقة فراحت تميل تارة لهذه القوى ومرة لتلك، من اجل تغذية الصراعات بينها وتاجيجها، بدلا من العثور على وسائل ناجعة والحلول الوسط من اجل الوفاق الوطني. وعملت قيادة الثورة التي تمثلت بالزعيم عبد الكريم ومجموعة الضباط والنخب الاجتماعية التي التفت حوله، ايضا من اجل الحيلولة دون تطور الوضع نحو اقامة عراق ديمقراطي حق، فاستاثر الزعيم قاسم بالسلطة، ورفض احداث تغيرات هيكليلة في ادارة الدولة، وابقى على اجهزة الامن السابقة، وابدى التساهل في تنفيذ القرارات التي صدرت لخدمة مصالح قطاعات واسعة من الشعب، وضيق اكثر على الحريات العامة حظر العمل السياسي وحصرها فقط باحزاب صورية بديلة للاحزاب الحقيقية. لقد ساعدت هذه السياسة وبدعم اجنبي على تعبئة القوى المعادية لمسيرة ثورة 14 تموز فانزلت بها ضربة قاصمة في رمضان الاسود 1963 .
ولم تتحرك القوى التي كانت تقود قطاع واسع من الشرائح الاجتماعية ذات المصلحة بتحقيق الثورة اهدافها المنشودة، بفعالية وجد. لقد بدت مسلوبة الارادة السياسية، تتحرك بوجل، ففشلت في ادارة الصراع، وتحولت الى ذيل تارة للجماهير المنفعلة واخرى للقوى الخارجية، وغدت مخصية من الناحية السياسية ففقدت المبادرة، فاصدر التاريخ حكمه القاسي بها، لتكون اليوم قوى مهمشة، بعد ان كانت سيدة الشارع العراقي ومعبودته.
وهكذا فان القوى التي دفعت نحو الثورة وقدمت الدعم لها والنخب التي قادتها، غدرت بثورة 14 تموز( يوليو) الفرصة التاريخية الفريدة التي منحها التاريخ ذات مرة لشعب العراق لبناء دولته الحديثة، ولم يظل امامه اليوم الا ان ياخذ العبرة من التجربة المريرة ولايدع فرصة اليوم تضيع من يده.
- آخر تحديث :















التعليقات