هكذا هم الإسلاميون دائماً، فما أن يحصلوا على شيء من السلطة عن طريق الإنتخابات والتفويض المباشر من الجمهور، حتى يبدؤا في تطبيق أولى برامجهم السياسية، عائدين بالمجتع القهقرى إلى عصور الظلام وفتاوي المنع والمصادرة التي برعّ في "تصنيعها" فقهاؤهم ومنظروهم السياسيين.
حركة حماس الأصولية في فلسطين، وما أن حصلت على إدارة بعض البلديات في مناطق السلطة الفلسطينية النصف محررة، حتى بدأت في الإعلان عن خطوط برامحها العريضة والكشف عن أجندتها الواسعة للتعامل مع الواقع الفلسطيني و"تخليصه" من حالة الفوضى السياسية التي يتخبط فيها. وفوجئ الناس، بعدّ إنتصار حماس، ببرامج "الإسلام النصّي" المعدلة سياساً تطفو فوق السطح، حيث أريدّ لها أن تٌحلّ محل القانون الوضعي المدني الفلسطيني.
فحماس تريد أن تحكم "الشريعة والسيف" في رقاب الفلسطينيين، بعدّ أن أثبتت وجودها في الساحة و"عمقها الشعبي" في الشارع الفلسطيني. وبمجرد إكتشاف هذا الوزن، سعت حماس، مثلها مثل بقية حركات الإسلام السياسي التي تنشد السلطة لتنفيذ "حاكمية الله على الأرض"، إلى طرح نفسها بديلاً عن السلطة ومؤسساتها الرسمية. فلماذا لا وقد حصدت أغلبية الأصوات في مناطق واسعة من مناطق السلطة؟.كما إنها تتسلح "بالشريعة الإسلامية" وتسعى لتطبيق الإسلام "بحذافيره"، لذلك، فلها كل الشرعية أن تصدرّ ماتشاء من أوامر في مناطقها وتسن قوانينها الخاصة، بحيث تستطيع أن تمنع مهرجاناً ثقافياً درجّ عليه الفلسطينيون منذ زمن هو"مهرجان فلسطين الدولي" بحجة منع "التبرج والسفور والإختلاط" كما قالّ الشيخ حامد البيتاوي خطيب المسجد الاقصى وعضو المحكمة العليا الشرعية ورئيس رابطة علماء فلسطين. الأمرّ الذي إستنكره الشاعر الفلسطيني محمود درويش وعده "بادرة طالبانية" من جانب حماس ينبغي محاربتها فوراً. وقدّ أثارّ قرار حماس هذا إحتجاجاً في أوساط المثقفين والكتاب الفلسطينيين وتوجساً لدى قطاعات واسعة في الشارع الفلسطيني من بزوغ "بوادر طالبانية" في الأراضي الفلسطينية الخارجة للتو من تحت "نير الإحتلال الفلسطيني"(أنظر موقع شفاف المتوسط).
ولعل التعبير الأصدق عن النوايا الحماسية الإصولية المضمرة في تدمير الدولة المدنية في فلسطين(وأركانها الحديثة التموضع، والتي لم يكتمل بنائها للآن...) هوماحدث من إشتباكات مسلحة بين رجال الأمن الفلسطيني والميليشيات الإصولية التابعة لحماس و الهادفة لترسيخ سياسة الأمر الواقع في قطاع غزة، الأمر الذي أسفرّ عن مقتل عدة أشخاص من الطرفين، مع بقاء الوضع متوتراً. كلٌ هذا يوحي بمدى العنجهية الإصولية لحركات الإسلام السياسي التي تتدعي الدفاع عن الحقوق المغتصبة وتزايد على الأنظمة القمعية القائمة في التشدد والتطرف(بما في ذلك زيادتها لجرعة إستهلاك الشعارات المحلية) فيما يخص الحقوق الشعبية ومطاليب الجماهير.
والحال، إن حركات الإسلام السياسي التواقة للجلوس على كرسي الحكم، وصاحبة شعار "الإسلام هو الحل" ذاك، تتشابه كلها في شكل سعيها للوصول للحكم. وهي في ذلك تتخطى السلطة الشرعية المركزية وتحاول، ترغيباً أو ترهيباً، إزاحتها عن الكرسي لتستبدل نفسها بها، وتبدأ في تطبيق أفكار قادتها ومنظريها من الفقهاء ومجتهدي الإسلام السياسي الذين نهلوا بدورهم من أفكار الكتب الصفراء وتعاليم شيوخ التكفير الأوائل: أمثال إبن تيمية ومحمد أبن عبدالوهاب وغيرهم. فهاهو عباسي مدني أحد قائد "الجبهة الإسلامية للأنقاذ" والمنتشي لتوه بإنتصار حزبه الساحق في الإنتخابات يقول في تجمع له بمدينة قسنطينة في نوفمبر 1990: " بالحوار سنغير النظام، وإذا تراجع الحوار فسيكون الجهاد"!.
وفي 2 أبريل 1991 حركّ عباسي مدني إضرابا عاما مفتوحا، وهو في حقيقته" حملة تمرد مدني" الهدف منه: إزاحة رئيس الجمهورية وحكومته و استبدال النصوص الدستورية بالشريعة وإقامة جمهورية إسلامية"، و قد رفع المتظاهرون، شعارات: " دولة إسلامية" لا ميثاق لا دستور، "قال الله، قال الرسول"، "لتسقط الديمقراطية"( أنظر: د.حنيفي هلالي: الحركة الإسلامية في الجزائر، فصلية عالم الغد، فيينا/النمسا).
ولم تكتف حركات الإسلام السياسي في تصعيد حركة "الإنتحار الذاتي" في صراعها مع "الأنظمة الوطنية"، بل تعدت ذلك في تصدير خطابها الكارثي للغرب، بعد "إرتقاء" هذا الخطاب وظهور نظريات مدمرة تقول: "بمسؤولية الغرب عن الفساد والظلم في بلاد المسلمين ودعمه للأنظمة الطاغوتية،لذلك وجب نقل المعركة لأرضه ومقارعته في داره". وهذا هو الحادث الآن، وكان آخر الصور الطازجة من التطبيقات الكارثية لهذه الأفكار/الفتاوي ماحدثّ مؤخراً في لندن من دمار وسفك دماء المدنيين العزل.

ملاحظة: كتبت هذه المقالة كرد كردي على جملة مقالات الصديق الدكتور أحمد أبو مطر وتدخلاته"الطالعة والنازلة" في الشأن الكردي، وهو الفلسطيني القح كما هو معلوم.

كاتب المقال صحافي كردي ـ ألمانيا
[email protected]