رغم قناعتي بأننا في زمن أصبح كل شيء فيه جائز مهما بدا غريبا أو عصيا على الفهم ألا أن خبر زيارة الملك عبد الله الثاني ملك الأردن وقرينته إلى لندن لتقديم واجب العزاء في ضحايا انفجارات مترو الأنفاق اجبرني على قراءته أكثر من مرة في محاولة يائسة لالتقاط إشارة بين سطوره توضح ما بدا غريبا علي وصعب التصديق في مضمونه، إذ أنني لم افهم لماذا يكلف الملك (أي ملك أو أي زعيم) نفسه ويأخذ من وقته ووقت بلاده وقتا ليسافر إلى بلد أخرى لتقديم واجب العزاء وإبداء مشاعر التعاطف في مقتل مدنيين عديدين وعاديين قضوا قبل أيام وهي سابقة حسب معلوماتي المتواضعة تعد الأولى من نوعها في التاريخ السياسي الدولي الحديث.
صحيح أنني افهم العلاقة الخاصة جدا التي تربط الملك الشاب ببريطانيا التي تنتمي لها والدته ثم قضائه سنوات طويلة من حياته وسنوات تعليمه في ربوعها وهي علاقة ومشاعر إنسانية راقية يجب أن تحترم في إطار أنها مشاعر لكن حينما تتحول إلى سلوك يحمل مدلولات سياسية معينة فأظن انه يحق لنا أن نقف عند الأمر لنقيمه ونعاتب بشأنه أيضا إذ أنني أظن أن في الأردن عشرات الآلاف من الأسر والأشخاص الذين لديهم مصائب خاصة وعامة ويحتاجون إلى دعم مليكهم وهي بالمنطق الإسلامي والبدوي والعروبي وبأي منطق إنساني أولى من الغريب الذي هو هنا الإنجليز كما أن في الأردن عشرات المشاكل العامة والسياسية والاجتماعية والاقتصادية التي تحتاج الكثير من وقت الملك وتفكيره وهي أولى في ظني أيضا من الوقت المهدر في الذهاب إلى لندن لتقديم واجب العزاء وإبداء التعاطف مع أهل عاصمة الضباب وهي مشاعر كان يمكن التعبير عنها تليفونيا مثلما كان يمكن تقديم العزاء بنفس الطريقة.
ثانيا أنني لم افهم ولا استسيغ فكرة الشعور المستمر بالذنب الذي يحلو لكثيرين أن يفرضوها علينا فرضا لمجر أننا مسلمين وعربا وان المفجرين والإرهابيين هم أيضا مسلمين وبعض منهم عربا واذكر في هذا الخصوص ما طالب به الأستاذ عبد الرحمن الراشد مدير قناة العربية في مقال له قبل أسابيع بدعوة العرب للتصويت لصالح نيويورك في سباق استضافة الاوليمبياد ليكون ذلك تأكيد عربي على بداية صفحة جديدة ورد الدين للمدينة التي ضربتها تفجيرات 11 أيلول (سبتمبر) 2001، مثل هذا المطالب تبدو مثل البطحة على رأس البعض التي يطالبهم المثل بأن يضعوا أياديهم عليها رغم أننا واقعيا وبمنطق السياسة العالمية لسنا مبطوحين ولا مذنبين ولو كان الأمر كذلك لكان أولى بالإنجليز أن يخرجوا عن بكرة أبيهم لزيارة كل مستعمراتهم السابقة لان لهم في كل بلد مجزرة واحدة على الأقل، ولكان على الفرنسيين أن يوقدوا شموع الندم والاستغفار سنويا على الضحايا الذين قتلوهم في الجزائر، أو كان على الاميركان إطفاء أنوار البيت الأبيض في مناسبة ضرب السودان بحثا عن مصنع كيماويات غير موجود وقبل ذلك ضرب ليبيا بالطائرات والصواريخ دون ذنب جناه الليبيون. أتساءل هنا لماذا ننسى بسهولة كل الآثام والمجازر والظلم الذي تعرضنا له على أيدي الغرب مع سبق الإصرار والترصد ونتذكر فقط ما يرتكبه قلة منا هم منبوذون فينا قبل أن ينكرهم الغرب بل انه بشكل أو بآخر مسؤول عن تنامي شوكتهم في العالم واسألوا السيد بوش الكبير عمن صنع اسامة بن لادن؟! أن هذا السلوك لا أجد له تفسيرا في قواميس السياسة ألا معاني مخزية يحسن بنا ألا نعرضها من الأساس وان نذكّر أنها تدور في فلك الإحساس بأننا بشر من الدرجة الثانية نستحق الإساءة لكن لا يمكن أن نرد عليها.
ثالثا أن ما فعله الملك عبد الله الثاني لم يبادر إليه الكثيرين من اقرب حلفاء بريطانيا والذين يتشاركون معها في تلطيخ أياديهم بدماء العرب في العراق مثل الرئيس الاميركي مثلا أو أي من رؤساء الدول الأوروبية وهم بكل الأعراف أولى بتقديم هذا النوع من الدعم من ملك دولة عربية لا يمكن أن يفسر تصرفه في الأدبيات الغربية المتعجرفة بطبيعتها ألا على انه نوع من أنواع تقديم فروض الولاء والطاعة وإبداء الندم على تصرفات لا يملك هو ولا أي زعيم عربي منعها من الوقوع في بلاده. ثم إذا كان قلب الملك كبيرا إلى هذا الحد فلماذا لم يذهب لتقديم العزاء في المصريين من ضحايا تفجيرات شرم الشيخ ويبدي تعاطفه مع ذويهم وهم أيضا ضحايا عمل إرهابي ومن تدبير تنظيم القاعدة أيضا مثل ضحايا لندن لكنهم يتميزون عن الضحايا الإنجليز بأنهم جيران والجار أولى بالشفعة كما يقولون كما أنهم عرب ومسلمين والعزاء فيهم ثواب في الأرض والسماء؟!
وفي النهاية أتمنى ألا يفهم من مقالي أنني من المعارضين للملك الذي لا اعرف عنه ألا ما تكتبه الصحف، فالواقع أنني احترم جدا ذكائه السياسي وتجربته في الحكم التي رفعت شعبيته إلى السماء بعدما كان كثيرون وأنا منهم يشفقون عليه من خلافة والده الرحل بكل ما تمتع به من قبول وقدرات سياسية مميزة لكن الملك الشاب نجح في إبهار شعبه وشعوب أخرى كثيرة بأدائه المتفوق لكن هذا الاحترام لا يمنع العتب كما أن هذا الأخير لا يفرز بالضرورة حالة معارضة مستمرة لمجمل أداء وسياسات ملك الأردن.
- آخر تحديث :
التعليقات