لا يمكن وصف موقف دول الجوار من العراق الجديد بأقل من دبلوماسية الغباء السياسي!! لماذا؟! لأن الدبلومسية تعني ضمناً إدراك المتغيرات الخارجية وخاصة الإقليمية قبل وقوعها من أجل احتوائها لمصلحة البلد المعني بإعتبار أن الدبلوماسية الناجحة تكمن في الاجابة على سؤال: كيف نحتل الموقع الرابح في المعادلة الجديدة؟! لأنه ليس من الصحيح الاعتقاد بأن محاولة إعادة التاريخ إلى الوراء يدل على الذكاء السياسي!! ناهيك عن الإنخراط مباشرة أو مداورة في محاولة بائسة كهذه بذريعة مقاومة الاحتلال الأمريكي!! وخاصة في دول العالم الثالث وأكثر خصوصية في منطقة الشرق الأوسط حيث لا يستطيع أحد الادعاء بأنه بعيد أو مستقل عن الولايات المتحدة أو هو قادر على الاضرار بمصالحها إلا إذا كان النفاق السياسي قد أصبح هواية لبعض دول المنطقة، وهذا هو واقع الحال مع الأسف!!
لكن الغباء الدبلوماسي لدول المنطقة في موقفها من العراق الجديد لا يقف عند هذا الحد مع الأسف مرة أخرى!! وبعيداً عن التنظير، لنتساءل: أين تكن مصداقية القول بحرص الدول العربية على وحدة العراق وإنتمائه لمحيطه العربي كونه عضواً مؤسساً لجامعة الدول العربية وكون غالبية سكانه من العرب؟! هل تكمن هذه المصداقية بضبط الحدود في وجه فلول الارهابيين القادمين من دول الجوار ذاتها؟! أم في الازدواجية الاعلامية التي تسمي الارهاب في العراق مقاومة وفي غيره إرهاباً؟! أم في تمييع الموقف من إعادة العلاقات الدبلوماسية مع بغداد؟! أم في القلق المزعوم من التغلغل الايراني في العراق دون تقديم البديل العربي لهذا التغلغل؟!
وإذا كان هناك من يقلق من استتباب النظام الديمقراطي في العراق باعتبار ذلك سيرفع من مطاليب القوى المتضررة أو المعارضة في بلده، فلماذا لا يكون الحل بالاقدام على إصلاحات داخلية وهي مؤجلة بوجود التغيير في العراق أو عدمه، أليس ذلك أفضل من ترك المنطقة تنـزلق نحو المجهول مع تزايد وتيرة الإرهاب واتساع مؤيديه في صفوف القوى المتضررة أو المعارضة في مختلف البلدان العربية!! أليس هذا هو واقع الحال أم أن هناك من لا يشعر بالألم إلا بعد أن يقع الفأس بالرأس كما تقول العرب العاربة؟!
أما على الصعيد الاقتصادي، ولنتناسى تلك الدول المستفيدة من استمرار الأزمة العراقية خاصة مع تخلي الدول العربية المؤثرة، وهي استفادة غير مضمونة المستقبل بالضرورة. ولنتساءل على سبيل المثال: كم كان بوسع الاقتصاد المصري أو السعودي أن يستفيد خلال الأكثر من سنتين الماضيتين لو أن هاتين الدولتين المؤثرتين قد ألقتا بثقلهما السياسي والدبلوماسي لمصلحة الشعب العراقي ونظامه الجديد؟! وكم كان بوسعهما أن يكسبا سياسياً ودبلوماسياً بحكم المناخ السياسي الإيجابي في عموم المنطقة الذي يمكن أن يخلقه حتماً التعاون المصري السعودي العراقي، وكما سيكون صدى ذلك إيجابياً على الصعيد الدولي بالنسبة للنظامين السعوي والمصري؟!
إن إرتفاع وتيرة الإرهاب في العراق والمجازر المروعة التي تحدث هناك باستمرار، بالإضافة إلى المسؤولية الأخلاقية المترتبة عليها، لا يمكن النظر إليها بعيداً عن استمرار الأعمال الإرهابية في مصر والسعودية والأردن، وإذا أضفنا الوضع القلق والحافل بالمفاجآت الذي تخلقه سياسات النظام السوري في لبنان والعراق، والتدخل الإيراني الحقيقي في العراق ولبنان والتنسيق الإيراني السوري المعروف بـهذا الصدد، فإن تراكمات خطيرة من هذا النوع، إذا تُركت دون معالجات عملية، في مقدمتها مساعدة العراق للقضاء على بؤر الإرهاب وعوامل إدامته، فإن احتمال انفجارها بهذا الشكل أو ذاك، سيجعل الدول المعنية في حال لا تُحسد عليها، وستتفاجأ تلك الدول بأن إيران التي تستعمل النظام السوري وسواه هي التي ستكون الأكثر قدرة على التحكم في أية مفاجآت يمكن أن تحدث في المستقبل المنظور، ناهيك عن إسرائيل الجاهزة دوماً لإستثمار مناسبات سعيدة من هذا النوع.
وأخيراً: هل ترك الأمور في العراق وعموم المنطقة تسير نحو المجهول، يدل على الحكمة السياسية أم الذكاء الدبلوماسي؟! أو إذا نجحت الحكومة العراقية لوحدها بسحق بؤر الإرهاب وهو إحتمال وارد جداً، فكيف سيكون موقف الدول العربية المتفرجة من المنافسة التركية الايرانية ناهيك عن الغربية، وهل خسارة بلد غني كالعراق بالنسبة لبعض الدول العربية وهي بأمس الحاجة إليه، يدل على الحكمة السياسية أم على
الذكاء الدبلوماسي؟!