مع رحيل أمير دولة الكويت سمو الشيخ المغفور له جابر الأحمد الجابر الصباح إلى جوار ربه تطوى صفحة مهمة وحاسمة من صفحات التاريخ الكويتي الحديث الذي إختط تفاصيله ورسم تحولاته الهائلة والمتحولة نخبة من الرجال الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، وحققوا في شمال جزيرة العرب أسطورة التحول والإنطلاق وبناء المعالم والأسس الحضارية لنهضة وطنية وحضارية شاملة لم تخل بطبيعة الحال من شوائب وإشكاليات البناء السريع الذي يختزل عصور وقرون التخلف التاريخية المتجذرة والذي جاء رجال البناء في العصر الحديث ليحاولوا تعويض سنوات الحرمان وليرسموا خارطة تاريخية وسياسية جديدة في المنطقة معمدة بالتضحيات والعمل الدؤوب والمباشر ووسط رعاية شعوبهم التي كانت تراقب وتتابع كل تفاصيل عملية البناء والتحديث والعصرنة، وكانت دولة الكويت منذ إنطلاقتها وإستقلالها الناجز والتام عام 1961 وطنا لكل التحديات، وموئلا لصور التحديث والتحدي لبناء الفجر الكويتي والعربي الجديد الذي حقق من التغيير أشياءا تشبه الحلم لو نظر لها المرء من الزاوية التاريخية المجردة، فبجابر وإخوته وجيله خطت الكويت أولى خطواتها التاريخية لتكون اليوم شاهدا حيا على مقدار تضحية وأصالة وعطاء جيل التأسيس والبناء الذي رسم كل ستراتيجيات التحول والبناء والإنطلاق، والذي رسخ كل معاني التحرر الإنساني والإستقلال الوطني، فقد كان جابر رحمه الله حلقة من حلقات النمو التاريخي لدولة الكويت، ورافق وعايش كل لحظات وتفاصيل البناء الوطني الصعب، وساهم أبدع وأصدق مساهمة في تعبيد الطريق لكويت المستقبل التي هي إمتداد لكويت الأصالة والعروبة والإسلام التي لم تتخل يوما عن دورها التنويري ولا عن خطها المعتدل ولا عن هويتها العربية المسلمة المسالمة وهي تتحدى كل صور الطغيان والعدوان والإستلاب والغزو ومحاولة محو الهوية الوطنية والتعدي الآثم على خيار شعبها في الحرية والسلام، وهي نفس الخيارات التي كانت الكويت وحاكمها الراحل الشيخ جابر الصباح يعملون بجد وإجتهاد من أجل ترجمتها بكل أمانة ومصداقية.
لقد رسمت الأقدار للراحل الكبير أن يرحل بصمت وفي أيام العيد المباركة ومع أولى أيام العام الميلادي الجديد والعالم بأسره يقف على أعتاب مرحلة مهمة من المتغيرات، ولكن ذلك العالم لم يزل يتذكر وقفة الأمير الراحل وهو يقود شعبه الصغير المسالم في ملحمة التحرير الوطني الخالدة ويخاطب العالم بأسره طلبا للنصرة من غدر الغادرين البعثيين القتلة الذين لعنهم التاريخ والشعوب، ليتحقق النصر وتعود الكويت حرة عربية مسلمة تقاتل من أجل قضايا العرب والمسلمين، وتغيث الملهوف وتنصر المستضعف ولم تضعف أبدا أمام أهواء الحقد والإنتقام، بل صفحت عن المسيء، وغضت الطرف بكرم وكرامة وفروسية عن من أخطأ بحقها من الأشقاء والأصدقاء وواصلت بقيادة جابر وأشقائه الكرام النجباء مسيرة الخير والعطاء والتواصل مؤمنة بالله الخالق العظيم وبإرادة شعبها التاريخية على مقارعة كل صنوف التحديات، وراسمة البسمة والخير في شمال جزيرة العرب.

وستحل أعياد التحرير والإستقلال في فبراير القادم في ظل الغياب الجسدي الأبدي لشيخ التحرير والحرية عن البلد الذي أحبه حتى الثمالة والشعب الذي إحتضنه حتى النهاية، ولكن العزاء كل العزاء يكمن في وجود من سيواصل المسير على درب جابر من أبناء الأسرة الحاكمة الكريمة الذين كانوا أداة من أدوات البناء الوطني الشامخ، ولن تتوه السفينة الكويتية وسط أنواء العواصف الدولية الخطرة، فلقد إستطاع (النوخذة) الكويتي وربان سفينتها الماهر من التعاطي مع مختلف الظروف والتحولات والأوضاع القاسية، وستكون الكويت تحت قيادة سمو الشيخ سعد العبدالله وسمو الشيخ صباح الأحمد إمتدادا تاريخيا ومتجذرا لكويت البناء والعطاء والحرية والتحرير، لقد غاب بغياب الشيخ جابر عصرا كاملا من التحولات سيتواصل لا محالة وستتطور دولة الكويت، وستتعزز مكتسبات الشعب الكويتي الحر، وسترسو السفينة الكويتية في شواطيء الأمان بعد أن أنشد الشعب الكويتي أنشودة الوداع لحاكمهم الراحل الذي خاض معهم كل التضحيات والتحديات والذي بهم وبمبايعتهم الشاملة له في مؤتمر جدة التاريخي في أكتوبر 1990 تمكن من قيادتهم نحو ولادة الكويت الحرة الجديدة.

كل العزاء للشعب الكويتي العربي الحر، ولأبناء الأسرة الحاكمة الكرام، وكل التمنيات لقيادة التواصل والعطاء الكويتية بالنجاح والتقدم، ورحم الله الشيخ الراحل جابر الصباح، وحفظ الله الكويت وشعبها من كل مكروه.

[email protected]