بعيداً عن الفلسفة والمصطلحات المعقدة في هذه القضية التي أثارها (كتّاب إيلاف عصام عبدالله و كامل النجار) أحاول من خلال هذه المقال أن أعبر عن رأيّ شخصي كأستاذ للرياضيات، ففي علم الرياضيات لا توجد نظرية علمية مطلقة ولكن توجد بشروط، ولكي تكون النظرية ذات قيمة لابد للشروط الموضوعة أن تكون ضرورية (necessary)، وأن تكون كافية (Sufficient) . فشرط وجود الموصل (Conductor) ـ مثلاً ـ للحصول على التيار الكهربي هو شرطاً ضرورياً إلا أنه غير كافياً، ولكي يكون كافياً يجب أن تكون هناك قوة مغناطيسية قادرة على تحريك الإلكترونات داخل الموصل في اتجاه واحد فنحصل بذلك على التيار الكهربي. والإنسان يولد وبداخله قوى روحية عاقلة مجهولة (Unknown). هذه القوى الروحية العاقلة هي بمثابة الموصلات الجيدة التي تصل الإنسان بكل قوى الطبيعة والعالم المادي والروحي الذي يعيش فيه. فالإنسان ليس منفصلاً ولن ينفصل أبداً عن الكون الذي ولد منه ويعيش فيه بل هو جزء منه متحد معه اتحاداً كاملاً بدون انفصال. وكل عناصر ومكونات الكون بدون أي استثناء هي نفسها عناصر ومكونات الإنسان. ويحاول الإنسان أن يفهم نفسه والكون بواسطة القوى الروحية الموجودة داخله بالفطرة وينشأ عن ذلك جهد (Potential) أو شغل (Work) وهو ما يمكن أن نسميه الدين (تعاليم وفرائض). فالدين إذن هو الجهد الذي تبذله القوى الروحية للإنسان من أجل المعرفة والوصول إلى حقائق ترضيه وتجعله يشعر بالطمأنينة والارتياح كمطلب فطري للإنسان. وعندما ينجح الإنسان في الوصول إلى معارف تشبعه وتروي عطشه نسبياً فإنه يبدأ مرحلة الاعتقاد فيما توصل أليه باعتباره حقيقة مطلقة (بالنسبة إليه). وقد تطور الاعتقاد على مر السنين منذ أن كان الإنسان همجياً وحتى الآن. وسوف يستمر الاعتقاد (أي اعتقاد) في تطوره حتى اللانهاية. والشخص الواحد تتغير معتقداته بطريقة مستمرة دون توقف متأثرة بالمراحل العمرية التي يمر بها والبيئية التي يعيش فيها. فالقوى الروحية داخل الإنسان تتأثر بالبيئة والعادات والتقاليد والثقافات فيمكن أن تنقل له معارف وتقدم له مفاهيم يمكن أن يعتبرها الآخر (المختلف) جهل وتخلف. ومادامت هذه القوى تتأثر وتتغير فإن الجهد المبذول (الدين) أيضاً يتغير. هكذا نجد أن الاعتقاد ضرورة طبيعية للإنسان في رحلة بحثه عن الحقيقة وحتى يجد الطمأنينة والسلام وهي مطالب كل الناس بغض النظر عن أجناسهم ومعتقداتهم. إلا أنه من الملاحظ أن كل من الاعتقاد الديني واللاديني لم يقدم للإنسان هذه الطمأنينة أو السلام المنشود. فالإنسان الديني أو اللاديني ـ باعتبار أن اللادين هو عقيدة غير المتدينين ـ لم يصل حتى اليوم إلى ما يطمح أليه بل مازال في حالة صراع ـ وإن شئت ـ حالة حرب للوصول إلى الحقيقة التي تروي ظمأه . وهكذا نجد أن الممارسات الدينية والعبادات ضرورة طبيعية ولكنها لم تستطيع أن تصل بالإنسان إلى الحقيقة. وسوف يستمر الإنسان في البحث عن معتقدات أخرى أو تطوير معتقداته بالطريقة التي تتناسب معه باعتباره كائناً متغياًر، وبالأسلوب الذي يتفق مع عالم الحداثة الذي نعيش فيه وهو في كل ذلك ما زال يبحث عن ما هو أهم وأعمق من الاعتقاد الديني واللاديني فكلاهما اعتقاد.
كاتب المقال أستاذ الرياضيات بكلية الهندسة / القاهرة
التعليقات