في زيارتي الأخيرة للعاصمة المصرية (القاهرة) في أخريات العام الماضي وبداية العام الحالي، حرصت أشد الحرص على زيارة معالم القاهرة القديمة رغم أن ظروف النمو السكاني الرهيب وحالة الفوضى الإدارية شبه الشاملة قد جعلت من يروم ذلك يعاني أشد المعاناة من الازدحام الرهيب، وحالة التلوث الفظيعة، والوضعية المهترئة لشبكة النقل، والتاكسيات (سيارات الأجرة) التعبانة لا تلوث القاهرة التي كانت جميلة في يوم ما، بل أنها تلوث الكون بأسره؟ فكل وسائط النقل الأرضية تعاني من إختناق كبير، وكان الله في عون المواطن المصري وهو يكابد المشقات ويتنفس السموم القاتلة من أجل الوصول لعمله!، والقاهرة طبعا هي واحدة من أجمل مدن الشرق أو هكذا كانت قبل أن تتكفل الأيام السوداء بدفن معالم جمالها الواضح وسط سحابة التلوث السوداء وحالة الإهمال الفظيعة لتلك البنايات الجميلة التي تشكل معالم (وسط البلد) التي صممت منذ عهد الوالي ثم السلطان محمد علي وأبنائه وخصوصا في عصر الخديوي (إسماعيل) الذي بلغ البناء في عصره وعهده قمة تألقه، وأعتقد أن جولة بسيطة في شوارع (وسط البلد) مثل شارع طلعت حرب أو شريف أو عدلي أو التوفيقية أو شارع 26 يوليو (فؤاد) سابقا تعطيك لمحة بأنك في أحد شوارع باريس أو في (ريجينت ستريت) اللندني لولا كميات الوساخة الهائلة التي جعلت جمال الشوارع القاهرية يذوي ويئن ويختفي وسط غبار حالة التلوث والإهمال القاتل وهي مشكلة عويصة!، وبعيدا عن الإيغال في وصف السلبيات وهي كثيرة للغاية وسنعود لها في مقالات قادمة كثيرة، أقول حرصت على زيارة أهم معالم القاهرة القديمة وخصوصا (قصر عابدين) صاحب وموقع الأحداث التاريخية الهامة في التاريخ المصري وهو القصر الذي بناه الخديوي إسماعيل وإتخذه الملك أحمد فؤاد قاعدة له، ومارس فيه الملك الراحل (فاروق الأول والأخير) سلطاته، وشهدت أروقته وساحته وحدائقه قضية وحادث 4 فبراير عام 1942 الذي يعتبر منعطفا حاسما في تاريخ مصر الحديث، والذي أسقط كثيرا من المقدسات، والذي كانت له نتائجه السلبية القاتلة على صعيد العلاقة بين الملك والشعب والجيش والإنكليز ومن ثم إنهيار صورة العرش والأحزاب الوطنية وقيام الجيش بالتالي بالسيطرة على الحكم وإلغاء الملكية عامي 1952/ 1953، ودخول مصر في مرحلة مختلفة بالكامل من تاريخها، إلا أنه رغم تعاقب السنوات والعقود، و رغم التحولات الإجتماعية والسياسية الهائلة إلا أن الواقع لا يستطيع أن يخفي حقيقة وتأثير النهضة التي قادتها أسرة محمد علي، والتي أدت بالضرورة لأن تكون مصر نجمة الشرق في التحول والتطور وقلعة من قلاع التحديث والتطوير، وأن تبزغ من جنباتها كل تلك الرموز الثقافية والسياسية والأدبية والفنية، فتاريخ الملكية في مصر قد رسم شئنا أم أبينا معالم الحياة المصرية المميزة حتى الوقت الراهن، نعم لقد ألغيت الرتب والألقاب رسميا مثلا، لكنها لم تلغ من النفوس أو تسحب من الألسنة! فالباشا والبيه لا زالت من الكلمات الشائعة في الشارع المصري وقد عادت الباشوية ولكن بشكل وأسلوب آخر حيث تحول الضابط و رجل الأعمال لباشا جديد بمواصفات عصرية تتجاوز حالة باشوات طرابيش أيام زمان؟، زرت قصر (عابدين) الذي تحول اليوم شأنه شأن بعض القصور الملكية الأخرى لمتحف يدر على الدولة دخلا لا بأس به، ولكن الأهم من كل شيء هو الحفاظ على ذاكرة وتاريخ الشعب المصري والذي تمثل ممتلكات وآثار العائلة المالكة السابقة مشهدا حيا ونابضا من مشاهده المتغيرة بكل عناصرها السلبية والإيجابية، وبرغم كل المتغيرات لا زال قصر عابدين يحتفظ بعظمة الماضي وفخامته رغم أن القائمين على المتحف لم يراعوا حقيقة أن ذلك القصر هو من (الخاصة الملكية) فأقحموا فيه متعلقات وأمور هي من العهد الجمهوري!! وفي ذلك تشويه للتاريخ، المسألة المهمة في تصوري هي الحفاظ على تلك القصور والممتلكات بإعتبارها جزء من تاريخ مصر ورغم السرقات التي قيل أنها تمت في مراحل سابقة إلا أن كل بقايا العهد الملكي بقيت سليمة ومصانة وعلى العكس تماما من الملكية في العراق مثلا والتي للأسف لم تترك أية شواهد وبقايا سوى شواهد الرعب والموت التي زرعتها الأنظمة الإنقلابية الجمهورية! فمقر ورمز الملكية العراقية مثلا وهو (قصر الرحاب) تحول لأطلال بعد مهاجمة القتلة والرعاع والحرامية له ثم حولته سلطة الموت والقمع البعثية لمركز تعذيبي كبير ورهيب وهو (قصر النهاية) كانت تسلخ فيه أجساد المناضلين والأحرار قبل أن تهدم نفس السلطة ذلك القصر الصغير جدا مقارنة بالقصور الملكية المصرية مثلا، ولم يترك العهد الملكي العراقي أو بالأحرى لم يتاح له أن يترك بقايا وشهود لوجود أو حياة، والغريب أن كل القصور التي تركها نظام صدام البائد والتي أسماها (قصور الشعب) وضعت تحت الحماية الأميركية فلما سلمها الأميركان للعراقيين نهبت منها حتى الأبواب والشبابيك؟ ترى من هو المسؤول الحقيقي عن تلك الظاهرة الوحشية في التاريخ العراقي القريب؟ وكيف تسنى لقصور العائلة المصرية الحاكمة أن تظل سليمة وشامخة تحكي للأجيال حكاية نهضة وتطور لم يقدر له الإستمرار، بينما إختفى كل شيء له علاقة بماضي العراق القريب ولا أقول البعيد.. فلا شيء حقيقي من بقايا العصر العباسي الزاهر....!.
إنها قصة شعوب تحرص على التواصل مع الماضي وتتطلع لبناء المستقبل، وشعوب أخرى يتحكم الرعاع والجهلة بتوجيهها وقيادتها لتدفن تاريخها وتحرق مستقبلها.. إنها حكاية تاريخ الشعوب العربية المحتضر.


[email protected]