تسارعت في الآونة الأخيرة التطورات والنتائج التي أفرزتها قيام إحدى الصحف الدانماركية بنشر صور هزلية مسيئة لرسول الله (ص)، ومن ثم قيام إحدى المجلات النرويجية الصغيرة والمغمورة والمحدودة الإنتشار والتوزيع بتفليد ذلك الفعل الأخرق المنافي لمبدأ حرية الأديان والعقائد والذي يحترم حريات الآخرين وعقائدهم ، ولعل سحب المملكة العربية السعودية لسفيرها من العاصمة الدانماركية والدعوة العلنية والمتصاعدة بحظر ومقاطعة المنتجات الدانماركية هي من ضمن التصاعد البياني في خط الأزمة والذي قد ينسحب بالتالي على الموقف الدبلوماسي من النرويج ! وهنا أرى ضرورة التأكيد على أن علاقات النرويج مع العالم العربي محدودة بشكل كبير، ولا توجد ثمة سلع كثيرة تصدرها النرويج للعالم العربي سوى الخدمات التقنية والتعامل بين شركات النفط، وحتى السفارات العربية الموجودة محدودة للغاية وغير مؤثرة أو فاعلة بشكل كبير، فالسعودية مثلا لا وجود دبلوماسي مقيم لها وكذلك بقية الدول الخليجية وكل السفارات العربية الموجودة هي السفارة المصرية والمغربية والتونسية ! وما عدا ذلك لا شيء بالمرة، وهذا الوجود الدبلوماسي الباهت يعود أساسا لإبتعاد النرويج خلال العقود السابقة عن حلبة الشرق الأوسط ولعلاقتها الوثيقة جدا بإسرائيل ! وقوة اللوبي الإسرائيلي في السياسة النرويجية، وغياب الصوت العربي والفاعل، وهو أمر قد تغير كثيرا منذ أن دخلت أوسلو وبقوة في قضية الشرق الأوسط عبر الإتفاق الشهير الذي حمل اسمها وهو(إتفاق أوسلو) في الربع الأول من تسعينيات القرن الماضي والذي غيرت نتائجه مجرى الصراع الشرق أوسطي وخلق واقعا سياسيا جديدا في المنطقة والعالم، وكان بمثابة إنفتاح النرويج على قضايا العالم العربي، وحيث باتت أوسلو اليوم أكثر خبرة وتواصل مع العالم العربي من أي وقت مضى، والأحزاب السياسية الفاعلة في المجتمع النرويجي باتت تتخلى عن مناقشة الهموم الداخلية فقط وتتطلع لمناقشة الدور النرويجي في الأزمات الدولية وهو دور فاعل ضمن إطار الأمم المتحدة ومنظماتها الإقليمية وعلى صعيد قوات حفظ السلام الدولية أو منظمات المساعدة الإنسانية وجميعها بمثابة حلبات لعب ومجال حيوي للدبلوماسية النرويجية، الأمر الذي أدى لتطوير العلاقات مع العالم العربي عبر البوابة العراقية لوجود عدد محدود من القوات النرويجية في (الشعيبة) في البصرة، وتواجد الشركات النرويجية في دول الخليج العربي سواءا للإستثمار أو للبحث عن الصفقات وغيرها من النشاطات والتي لتجارة السلاح خلفياتها أيضا، وليس سرا أن النرويج من الدول المتقدمة في صناعة الأسلحة الدفاعية ومنظومة الصواريخ المتطورة !، وفي الآونة الأخيرة أثار اللوبي الإسرائيلي في النرويج ضجة إعلامية كبيرة ضد زعيمة حزب (اليسار الإشتراكي) السيدة (كريستينا هالفورسين) والتي تشغل حاليا أهم منصب في حكومة التحالف العمالي / اليساري وهو منصب وزير المالية على خلفية تصريحاتها في الصيف الماضي ضد السياسة الإسرائيلية المتطرفة في إضطهاد الفلسطينيين ودعوتها وقتذاك لمقاطعة البضائع الإسرائيلية!! وهو تحول ستراتيجي وخطير في موقف الأحزاب النرويجية المؤيد سابقا تأييدا أعمى للسياسة الإسرائيلية!! ولم تنس إسرائيل ذلك الموقف بل إنتظرت حتى التغيير الحكومي الذي أعقب إنتخابات الخريف الماضي لتشن حملتها القوية ضد السيدة هالفورسين متهمة إياها بالإتهام التقليدي المعروف : (العداء للسامية)!! ورغم إعتذار الوزيرة بشكل علني إلا أن الحملة ضدها لم تزل مستمرة وأتوقع أن تتم ملاحقتها حتى إخراجها من الحكومة !! فالجانب الإسرائيلي لا يمزح في مثل هذه الأمور وهو ليس على إستعداد لفقدان المواقع التاريخية التي يحتلها في السياسة النرويجية!! ووسط هذه الأوضاع برزت قضية شتم الرسول الكريم والتعدي على المقدسات الدينية للمسلمين وهو أمر لا علاقة له على الإطلاق بالسياسة النرويجية المتوازنة وبمواقف السلطة النرويجية التي تحترم الأديان والتي وفرت للمسلمين خصوصا كل وسائل الحرية الفكرية والدعم المادي والمعنوي وحرصت أشد الحرص على حماية مبدأ حرية العقيدة والنظرة للمسلمين نظرة عادلة ومتوازنة، ووفرت الدعم المادي للمساجد ودور العبادة وبشكل يوفر كل مظاهر الإحترام والتقدير والتوازن، وبفضل مساعدات الدولة النرويجية وحمايتها أضحت للمسلمين في النرويج وضعية محترمة ووجود فاعل شمل كل مجالات الحياة رغم معارضة وعدم إرتياح بعض التيارات اليمينية المتطرفة والقريبة الصلة بالدوائر العنصرية التي تضخم كثيرا من بعض المشاكل التي يرتكبها بعض المسلمين وتحاول تعميمها على جميع المسلمين أو العرب، ولكن صرامة القوانين النرويجية الضامنة لحرية الفرد والعقيدة والدين تمنع أي تجاوز على حقوق الآخرين، وما حصل من شتم وتعدي على رسول الله (ص) لا تتحمل الحكومة النرويجية مسؤوليته على الإطلاق، و لا دخل للسلطات النرويجية من بعيد أو قريب بهذه المسألة المعيبة، ففي إطار الدستور النرويجي فإن الملك هو حامي الأديان، كما أن العنصرية ممنوعة بحكم القانون، ولكن هنالك شيء تختلف حوله الأحزاب والجماعات وهو حرية التعبير وحدود تلك الحرية، فترى بعض الدوائر النرويجية من أن المسلمين في حالة حرب مع حرية التعبير التي يريدون لها أن تشمل كل شيء خصوصا وأن السيد المسيح (ع) ذاته كان عرضة للهجوم والتعدي والسخرية من بعض التيارات وكما حصل في أزمة عرض فيلم (الإغراء الأخير للمسيح) الذي أساء لذلك النبي الكريم ولم تستطع السلطة أن تمنع عرض الفيلم بل سمحت للكنيسة بالتظاهر خارج أبواب دور العرض السينمائية!!، وإذا كانت بعض الدوائر لأغراض عديدة تحاول الدخول على الخط وتعكير خط العلاقات المتصاعد بين العالم العربي ودول الشمال فينبغي أن لا تترك الفرصة لتلكم الجماعات لكي تمارس تأثيرها!، فالأمر المؤكد هو براءة المجتمع والسلطة النرويجية من مسؤولية التعدي على الرسول الكريم (ص)، والأمر المؤكد الآخر هو خطأ سياسة المقاطعة أو التلويح بها لأنه يقدم خدمة مجانية للوبي الإسرائيلي الذي يهمه كثيرا تخريب علاقات النرويج مع العالم العربي والإسلامي، فمساعدة النرويج للمسلمين لا ينكرها إلا جاحد.
- آخر تحديث :
التعليقات