للأقباط قضية بعض جوانبها قديم قدم تجاور معتنقي ديانات متعددة في الوطن المصري الواحد، وبعضها الآخر مستجد أو طارئ، مع تنامي تيار التأسلم السياسي في ثلاثة أرباع القرن الماضي، وتفاقمه في ربعه الأخير، ومع ما تزامن معه من تفشي الفكر الفاشي وثقافته المعادية للآخر، تحت رايات القومية العربية، التي وإن كانت تحتوي المسيحيين ضمن تعريفها، بل هم الذين بادروا بطرح فكرتها في الشام، هروباً من دعاوى الخلافة الإسلامية، التي تجعلهم مواطنين من الدرجة الثانية في أحسن الأحوال، ودخلاء غير مرحب بهم ومستهدفون في دينهم في أسوأها، إلا أن سيادة ثقافة معادية للآخر كفيلة إذا ما استفحلت بأن تدفع أمامها كل حدود أو تعريفات تحددها في البداية، لتتسع دائرة الآخر لتشمل كل آخر، حتى تصل إلى التفريق بين أفراد الأسرة الواحدة، فكل من فكر الإسلام السياسي وفكر القومية العربية الذي ساد في النصف قرن الماضي يقوم على رؤية الذات من خلال ما تختلف به عن الآخر مع تجاهل المشترك، بل وتضخيم الخلاف والاختلاف، ليحتل كل مساحة الرؤية، إلى الدرجة التي نستطيع فيها ndash; بقدر يسير من المبالغة - أن نقول أن إنسان هذه المنطقة قد تحول إلى إنسان عدائي، قد يصل عداؤه في بعض الأحيان إلى أن يعادي نفسه، وهذا ما تطالعنا به يومياً نشرات الأخبار، عمن يتمنطقون بأحزمة ناسفة، تحولهم إلى أشلاء مع من يستهدفونهم، بحيث يمكن أن نقول أن أغلب ما يحدث في العراق الآن من تفجيرات تستهدف الأبرياء، لا ترجع لمواقف سياسية أو طائفية، إنما هي من قبيل العنف للعنف والقتل للقتل، هي بثرات الكراهية التي تم استزراعها في هذه المنطقة تتفجر ذاتياً، دون ما حاجة إلى دافع أو مبرر.
هذه الحالة النفسية والثقافية العامة شملت الجميع، وليس فقط أصحاب فكر أو دين محدد، أو أصحاب أغلبية أو أقلية، فنهج البحث عن الاختلاف وتعظيمه تمكن من الجميع، وصبغ جميع مناحي الحياة بلونه القاني.
هذا ما نراه الآن من دعاوى وصيحات بعض النخب القبطية، وهم يحاولون الوقوف على أقدامهم وفق ما تتيحه شروط عالم الألفية الثالثة، فهم يعظمون من عناصر الخلاف بالمبالغة كماً وكيفاً، ويتجاوزونها إلى خلافات مدعاة، تدخل من وجهة نظرنا في تصنيف الادعاء بالباطل، وهو تصعيد يهدد بضياع الحق تحت أقدام الباطل في الحد الأدنى، ويهدد وحدة الوطن وسلامه الاجتماعي في الحد الأقصى، الأمر الذي يوجب على كل صاحب ضمير وعقل أن يحذر منه ويتحاشاه، وقبل أن نستعرض الباطل الذي يذهب إليه البعض في سعيهم لرفع الظلم، لابد في البداية أن نعدد بعضاً مما نراه حقاً للأقباط، جديراً بالمناقشة مع الدولة، ومع أخوة الوطن الواحد من الأغلبية:
middot; المادة الثانية من الدستور والتي تنص على دين للدولة يجب تعديلها، فالدين للأفراد يؤمنون به، ويحاسبون في الحياة الآخرة على إيمانهم من قبل الديان العادل، أما الشخصيات الاعتبارية كالدولة فهي عبارة عن أجهزة إدارية، تؤدي عملها وفق القوانين والنظم المحددة لها، والتي تضمن أداءها لوظائفها على الوجه الأكمل، ويحاسبها أبناء الوطن على كفاءة الأداء في هذه الحياة الدنيا وليس في الآخرة، مما يعني أن المادة بوضعها الحالي لا تعبر عن دولة حديثة، فوق أنها خاوية من المضمون القابل للفهم والتحديد العلمي، كما أنها تتناقض مع مواد دستورية أخرى، تنص أن جميع المواطنين سواسية أمام القانون، دون تفرقة على أساس الدين أو الجنس أو خلافه.
middot; يتعرض الأقباط للتمييز الديني في الحصول على المناصب العليا للدولة وبعض مواقعها الحساسة، وينعكس هذا سلبياً على الأقباط، باستشعارهم التهميش والظلم.
middot; برامج التعليم ووسائل الإعلام الرسمية وغير الرسمية زاخرة بما يعتبر تحقير للأقباط وعقيدتهم، بل وتحريض على معاداتهم وكراهيتهم.
middot; تنامي نشاط جماعة الإخوان المسلمين المحظورة، بشعارهم السياسي quot;الإسلام هو الحلquot;، مع رمز السيفين وكلمة وأعدوا، يشكل تهديداً للأقباط، بما يشعرهم وكأنهم مقبلون على مقصلة، وعلى العودة بهم لعصور الاضطهاد والاستشهاد المنصرمة، وذلك في حالة تنامي نفوذ تلك الجماعة، أو تمكنهم من السلطة.
middot; التمييز في قوانين بناء دور العبادة، وإصرار الدولة على إدراج بناء الكنائس ضمن اختصاصات أجهزة أمن الدولة، رغم وضوح انعدام العلاقة بين بناء دار لعبادة الله وبين أمن الدول.
middot; تعرض الأقباط في العديد من القرى بل والمدن لحملات من الغوغاء، تمارس القتل والنهب والتدمير، في ظل سلبية واضحة من الأجهزة الأمنية، ثم افتقاد المحاسبة الجنائية لصعوبة التوصل لفاعلين محددين في مثل تلك الأعمال، أو إسناد الجريمة لمختل عقلياً.
تلك هي الهموم الأساسية للأقباط، والتي ينبغي على أبناء مصر كافة - المسلمين قبل الأقباط ndash; أن يهبوا لمعالجتها، تحقيقاً لصالح الوطن بالأساس، قبل أن يكون إنصافاً لقطاع من أبنائه.
نأتي الآن إلى الباطل الذي تزعمه بعض من نخب الأقباط، وهو ما يعتبر تشويشاً لا يسيء للوطن ولإخواننا المسلمين فقط، وإنما يجهض الجهود المفترض توجيهها إلى حيث ينبغي أن توجه، ونعني بالتحديد الادعاءات التي تتكاثر يوماً فيوماً عن حالات اختطاف لفتيات مسيحيات، من قبل شباب وهيئات إسلامية، بالتواطؤ مع أجهزة أمنية.
بالطبع لا يمتلك كاتب هذه السطور معلومات كاملة وموثقة عن كل تلك الحالات المدعاة، والتي صارت تتكاثر كما الذباب، ومع ذلك فإن التأمل الحصيف لما يروى من قصص، علاوة على التلامس الحياتي مع المجتمع المصري بكل أحواله، يمكننا من اكتشاف أن أغلب تلك الروايات هي محض كذب وتزييف، فلا أحد في المجتمع المصري يقر أو يقبل باختطاف النساء، سواء لأغراض جنسية أو دينية، وما يعرفه المجتمع في هذا الشأن ينحصر في بعض الحوادث الفردية، لشباب يكونون غالباً من المدمنين للمخدرات، يمارسون نزوات عارضة، لا يميزون فيها بين مسلمة ومسيحية، وتصدى الأمن والقضاء لتلك الممارسات بأحكام رادعة، وفق قانون ينص على عقبة الإعدام، وهي العقوبة المستهجنة إنسانياً وعالمياً.
تقييمنا الشخصي لتلك الحالات، التي يتصايح بها البعض، وتتلقفها وسائل الإعلام ومواقع الإنترنت، أنها إما لفتيات مراهقات وقعن في هوى أقرب من تجده من الشباب، دون أن تمتلك من التعقل وحسن التربية ما يحميها في هذه الفترة العمرية الحرجة من الانحراف، والانحراف هنا لا يتعلق فقط بالارتباط بمن يخالفها في الدين، ولكن أيضاً في المستوى الاجتماعي والتعليمي، علاوة على توقيت وظروف الطرفين، والتي قد تتيح لهما الزواج وتأسيس علاقة أسرية سليمة، أو تبقيهما في نطاق العلاقات السرية غير المشروعة، والمجتمع المصري يحفل بمثل هذه الانحرافات عن الخطوط التقليدية الصارمة، التي رسمها المجتمع المحافظ بطبعه، لكنه ndash; أي المجتمع ndash; اعتاد التستر على هذه الحالات، ومداواتها بطريقة أو بأخرى، كجزء من التأقلم والنفاق المجتمعي، الذي يحتمه واقع مجتمع مغلق، تحتشد حياته بالموانع والخطوط الحمراء، يصر عليها ويزيد منها كماً وكيفاً، وفي نفس الوقت يغمض عينيه عما يحدث من تجاوزات بل وسلبيات لها، شريطة أن تبقى مستترة تحت السطح.
لكن ما جد هذه الأيام هو أنه في حالة ما إذا ارتبطت فتاة مسيحية بشاب مسلم، فأن أهلها تحت وطأة الشعور بالعار الاجتماعي يحولون الأمر من مسألة عائلية شخصية - تعنيهم وحدهم، وتتعلق بحسن تربيتهم لأولادهم وبناتهم - إلى قضية طائفية، فيتحول الغرام إلى اختطاف، والعشق إلى اغتصاب وأسلمة!!
هنالك نوعية أخرى من الحالات، تنتمي فيها الفتاة إلى أسرة تعاني اضطرابات في علاقاتها الداخلية، فتحاول التمرد على هذا الوضع بالخلاص منه، أو بمحاولة إحداث هزة في الأسرة ربما تعيدها إلى الصواب، أو من قبيل الانتقام من والديها، وهنا قد تلجأ لإقامة علاقة مع شاب من غير دينها، لكي يحدث تصرفها أقوى تأثير على من تستهدفهم.
نوعية أخرى من الحالات مماثلة لحالة السيدة وفاء قسطنطين الشهيرة، زوجة ضاقت ذرعاً بحياتها، واستنفدت جميع الطرق المتاحة لها لتحسين وضعها دون جدوى، فلم تجد في النهاية غير الارتباط بمسلم لتتمكن من فصم رباط الزوجية، الذي تصر الكنيسة على أنه أبدي.
فيما عددناه من حالات نرصد تقاعس أو فشل الكنيسة في معالجة شئون رعيتها، ربما لانشغال قياداتها فيما هو أهم من منظورهم، كالمبالغة في عمارة الكنائس، وارتداء الملابس المذهبة، وإقامة الطقوس وتكرار المواعظ المظهرية المحفوظة عن ظهر قلب، وجمع الأموال وركوب أفخم السيارات، أما معالجة المشاكل الأسرية وعلى الأخص الفقيرة منها، فأمر تافه وثقيل الظل، ولا وقت لديهم لإهداره فيه، وليس هذا ادعاء من مراقب خارجي، وإنما هو عين ما نلمسه يومياً من ممارسات الكهنة في مختلف الكنائس، لتكون النتيجة ما نرى، وعلى نهج الثقافة المصرية لا نواجه تقصيرنا بشجاعة، وإنما نبحث عن شماعة لتعليق أخطائنا وفشلنا عليها، والشماعة في حالتنا هذه جاهزة تنتظرنا!!
بقي أن نرصد في هذه القصص نقطتين جديرتين بالبحث والاهتمام، أولهما مسألة وجود منظمات تقوم بالرعاية المادية والمعنوية لحالات هروب فتيات مسيحيات مع مسلمين، فمثل هذه المنظمات ndash; إن صح وجودها ndash; تلعب دوراً خطيراً مدمراً في المجتمع، بل وربما كانت تلك المنظمات نفسها وراء تشكيلات الإرهاب السرية، التي تطل برأسها علينا بين وقت وآخر، والأمر الثاني هو ما يقال عن تواطؤ لبعض عناصر الأجهزة الأمنية، سواء بعدم قيامها بواجباتها إزاء حالات هروب وزواج القاصرات، أو بتناول الأمر بروح تعصب طائفي، بالتستر على مثل تلك الحالات، ومخالفة القوانين التي تحكم مسألة تغيير الديانة (إشهار الإسلام)، وما تنص علية من إجراءات محددة، تكفل الشفافية، وتتيح مراجعة الفتاة من قبل أهلها والكنيسة.
نحتاج إلى مجتمع سليم ووطن قادر معافى، نواجهه به تحديات العصر، وهذا لن يتحقق إذا ما صمَّت الأغلبية آذانها عن أنين وصراخ الأقلية، كما لن يتحقق إذا ما غفلت الأقلية عن حقوقها، وانشغلت بمعارك مزيفة ومزايدات، تهرب بها من مواجهة مشاكلها الداخلية.


[email protected]