لا شك في أن خطاب العنف لا ينحصر في شريحة معيّنة من الكائنات الانسانية، بل أن هذه الظاهرة تطال كافة الشرائح المجتمعية بما فيها النخب الفكرية والثقافية والسياسية على حدّ سواء. وعلامات هذا الخطاب متعددة ومتنوعة في حضورها في المجتمعات الإنسانية، الذي يتجلّى بشكل صارخ من خلال سيطرة التأويل الواحد الذي يدعي حصرية المعرفة والحقيقة للفكرة الواحدة، أو التعصب الغالب على بعض المجموعات الثقافية التي لا تقبل الاختلاف معها، الأمر الذي يؤدي لإشاعة مناخًا لا يسمح بالتعدد أو التنوع، كما ينفي إمكانيات الحوار البنّاء سواء داخل أصحاب الجماعة الواحدة أو بين الجماعة نفسها وغيرها من الجماعات الإنسانية الموازية، فيحوّل المجتمعات إلى كيانات متناحرة على الدوام، أو منعزلة غير مفتوحة على الحوار، مما يدفع إلى تحويل هذه الكيانات الى أشبه ما يكون بالقنابل الموقوتة على وشك الإنفجار في اي لحظة، عندما تجد المحفز لانطلاق فتيل نزوعها العدواني.

وتتعدد أسباب شيوع خطاب العنف وتتداخل، بحيث لا يمكن عزل مفردات الواحدة منها عن الأخرى، فهي تطال كافة مفردات التركيبة الانتربولوجية والثقافية المكونة للحضارات، فالاسباب سياسية ودينية واجتماعية وفكرية واقتصادية....

ولعلّ حضور الدولة التسلطية في بعض المجتمعات يُعدّ أحد أهم تلك الأسباب وأبرزها ؛ فالدولة التسلطية تحتكر لنفسها مصادر السلطة والقوة في المجتمع لصالح النخب الحاكمة، مرتكزة في ذلك على اختراق المجتمع المدني وتحويل المؤسسات المستقلّة إلى مؤسسات تابعة كامتداد لأجهزة الدولة في ظل هيمنة صارخة لسلطة الاقتصاد، علاوة على البعد الأيديولوجي لهذه الدولة التي تسعى من خلال الأجهزة الأيديولوجية الى تبرير مشروعيتها والتأكيد على quot;مركزية القيادة quot; مما يترتب عليه، غياب الحريّات في سبيل فرض القمع الذي يكرس التراتبية الهرمية الذي يفرض الطاعة والولاء من الأعلى إلى الأدنى الذي يكرس النظام البطريركي الأبوي في المجتمعات.

إن طبيعة الحكم التسلطي تحتم استعمال العنف والارهاب اكثر من اعتمادها على الشرعية الحقيقية، سواء كان عنف مادي مباشر يطال الابدان والأرواح او عنف وارهاب فكري ومعنوي، فالانتخابات التي يفرزها هكذا نظام لا معنى له، لأنه يجمد الحقوق المدنية المقترنة بحقوق الانسان، كما يعمل على توظيف الأجهزة الأيديولوجية والقمعية وينفق عليها الميزانيات الكبيرة لأنها هي التي تؤسس وتشرعن وجود هذا النظام وتؤمن الاستمرارية له.
فالاجهزة الايديولوجية المتعددة في الدوائر الاعلامية والتربوية والتشريعية وغيرها، تتضافر لتعيد تصنيع الرسائل الأيديولوجية لهذه الدولة في علاقتها مع شعبها ورعاياها، كما تعمل المؤسسات العسكرية التي تقف على أهبة الاستعداد لقمع اي مواجهة داخلية حتى لو كانت سلمية.

وفي ظل هذه السياقات السابقة، يتمّ تدوير النخب الفكرية، والعمل على خلق quot;مثقفينquot; مدافعين عن وجود هذه السلطة، التي تحاول ان تخفي قمعها وارهابها بأقنعة quot;ديموقراطية quot; التي تبرر للسياسي وجوده وممارساته.
كل ذلك يؤدي إلى إلغاء حق تداول الأحزاب المعارضة للحكم مما يؤدي الى الجمود في مؤسسات الدولة، وهذا الجمود في المؤسسات الحكومية يوّلد نفور عام خصوصًا عندما تتزايد اخطاؤها مما يجعل من هذه الحكومة هدفًا ثابتا لسخط جماهيري مكتوم دائم، وان بدا ان هذا الشعب محكومًا في الظاهر، لكنه يظل قائمًا محتدمًا في أعماق المجتمع، فيتحول إلى مستنقعات تنمو فيها الأفكار المتشنجة المتطرفة، وعندما تقوم الانتفاضات الشعبية في تلك الأنظمة تكون في طبيعة الحال ردّ فعل على العنف المسبق للدولة، وفي الوقت نفسه يكون السبب الرئيس لإعادة إنتاج العنف من جانب أجهزة الدولة، مما يوقع البلاد في دوامة لا تنتهي إلا بانتهاء الأسباب الدافعة لتلك العلاقات 0

وتترافق مع تلك الظروف رواج بارز للخطاب المنغلق، الذي يتحول الى خطاب عنف، لأنه ينظر إلى غيره من خلال هويته الدينية العقائدية، أو القومية اللغوية، أو الحضارية الثقافية... وهو يحاكم ويحكم عليه على هذا الأساس. فإن كان يتفق معه بالعقيدة أو المذاهب أو العرق أوالثقافة أو النمط الحضاري، قبله وتماهي معه، وإلا نبذه إلى خارج يمثل البدعة والكفر، أو العمالة والخيانة، أو التأخر، والتخلف، أو الغرابة والهمجية، أو أي اسم آخر يدل على المغايرة الكلية أو على الاختلاف الوحشي.
إذن فالمنغلق على ذاته ومعتقده ينفي الآخر ولا يعترف له بحقه في أن يكون مختلفاً عنه، ويمارس بحقه شتّى أنواع العنف، إذ الاختلاف ف نظرة هو نقيض الهوية وضدها الذي يتهددها ويعمل على استتباعها أو تسخيرها أو تصفيتها. لهذا فالآخر لا حقوق له كإنسان، بموجب هذه النظرة التي نرى إليها من خلال التصنيفات الضيقة ولتسميات الجاهزة واليقينيات المطلقة. هكذا يستبعد صاحب العقل المغلق القابع في هويته الصافية، كل اختلاف أو مغايرة، مع أن الاختلاف الوحشي هو الوجه الآخر للهوية الصافية العمياء، بل هو مبرر وجودها وعلة تماسكها.
أما من الناحية الاجتماعية فإن الفقر والحياة الخانقة وغياب الخدمات والرعاية الصحية وشروط العيش الكريم يؤدي لنوع موازٍ من العنف الذي يظهر من خلال سلوك الناس ولغتهم، فيصبّون جام غضبهم على من يعدّونه سببا لمعاناتهم فتنتشر مشاعر العداء في نفوس المحرومين تجاه تلك الاقلية التي تتمع بالرخاء فتتكاثر في هذه المجتمعات طبائع السلوك العدواني سواء في التعامل مع الذات او مع الآخر او مع مرافق الدولة التي لايشعرون بالانتماء المعنوي اليها.

ولا تنفصل الأسباب الاجتماعية عن دوافع العنف الأخرى فإن الاضطهاد المقترن بأنواع التمييز القسري التي تكرسّه السلطات، الذي يمايز بين ما يُعرف بالمجموعة الاجتماعية quot;الاعلىquot; وما يقابلها من مجموعة توصف quot;الأدنى quot;، مما يكرّس طبقيّة صارخة وذلك على أساس من تبرير الأفضلية quot;للطبقة الاجتماعية المصنفة أرقى quot; متسلحة بكافة الموروثات من المعتقدات والعادات والتقاليد والايديولوجيات، التي تؤصّل هذه الفوارق سواء كانت هذه الفوارق على أساس الطائفة او الدين او المذهب او العمر او الجنس او الثروة....
ومازالت هذه الاشكال ممارسة حتى اليوم في معظم دول العالم على نحو مصّرح به معلن او مقنع مباشرا او غير مباشر من اشكال التمييزالقسري، التي تجعل الرجل اعلى من المرأة، والكبير افضل من الشاب، والغني أرفع منزلة من الفقير، والابيض افضل من الأسود، والعشيرة الفلانية أعرق من تلك..........
فيصبح المنتسب إلى الطائفة quot;الدينية او القبلية أو العشائرية quot; التي ينتسب إليها الحاكم، أهل ثقة وصاحب نفوذ بالقياس الى من لا ينتسب إلى هذه الطائفة، وكل ذلك يترافق مع الامتداد لمكانة العائلة او الامتداد العشائري او الأصل العرقي....

كل الامور آنفة الذكرمن اشكال التمايز تتضافر فيختل الحراك الاجتماعي ومن ثم السياسي، وتبرز الخلافات وتزداد في البلدان التي تكثر في الأعراق والأديان والمعتقدات داخل الوطن الواحد، الأمر الذي يجر البلاد الى دوامة العنف والحروب الأهلية، فتكثر فيه الأزواج الثنائية الضدية التي تنتج الحدّة العدائية التي يُواجه بها هذا المجتمع ما يقترن بالتنوع والتغيير أو التجديد، لذلك فالانظمة السياسية السائدة حاليًّا في تلك البلدان، تخاف مايمكن ان ينتجه التغيير أو التجديد أو التحديث الفعلي لانه سيقوض لا محالة دعائم علاقة البنية التراتبية في تلك الدولة كما يؤدي الى تدمير او تهديد المصالح القائمة على هذا التمييز.


[email protected]
http://www.maktoobblog.com/marwa_kreidieh