تيّارات الإسلام الحركيّ ما زالت تفضّل الدّعاية والتّعبئة الجماهيريّة وتجييش العواطف على الحوار والتّفاعل، وما زالت تؤمن بالجسد الواحد للأمّة الواحدة المكوّنة من الأشباه ولا تؤمن بالتّعدّديّة، وتـُخضع حقوق الإنسان إلى أحكام الفقه بدل أن تطوّر أحكام الفقه لكي تلائم مبادئ حقوق الإنسان، وتعتمد فكرة المرشد والزّعيم الأوحد، وتحكّم الدّين في كلّ
الحلقة الأولى |
وهناك مظهر آخر خفيّ من مظاهر الفاشيّة الإسلامويّة يتمثّل في منع المعرفة غير الدّينيّة عن الدّين، واعتبار رجال الدّين وحدهم مؤهّلين للخوض فيه، مع أنّ رجال الدّين يؤهّلون أنفسهم للخوض في كلّ صغيرة وكبيرة تخصّ حياة كلّ مسلم ومسلمة على وجه الأرض، ومن ذلك أيضا مواجهتهم المعارف الحديثة بالمعارف العتيقة التي كان عليها أن تدخل باب تاريخ المعرفة، لولا تضخّم الظّاهرة الدّينيّة في حياتنا ومؤسّساتنا التّعليميّة. فعندما تحدّثهم مثلا عن الأسطورة بالمفهوم الأنتروبولوجيّ يواجهونك بالجرح والتّعديل، وكأنّ ابن خلدون نفسه لم يبيّن في مقدّمته ومنذ مئات السّنين بطلان المقاييس الشّكليّة المعتمدة في نقد الرّجال دون نقد المتون، وهذا أوّل درس في التّاريخ وفي العلوم الدّينيّة تعلّمه طلبة الجامعة التّونسيّة من الجيل الذي أنتمي إليه، وهو جيل مدين بمعرفته إلى أساتذة حرصوا على أن يكون تدريسهم للدّين غير دينيّ، سواء كانوا مؤمنين أو غير مؤمنين، وحرصوا على أن يبتدئ كلّ كلامه باسمه الشّخصيّ لا بادّعاء الكلام باسم اللّه.
هناك مجال للحديث عن الدّين غير مجال الحلال والحرام، وهناك تحليلات مهمّة لظاهرة الحجاب كتبت بلغات أخرى، ولا نجد لها أثرا في الكمّ الهائل ممّا ينشر عن الحجاب في ديارنا، وهناك في مجال التّحليل النّفسيّ محاولات جدّيّة لربط المطالبة الحاليّة به بالتّعبيرات الهستيريّة، بالمعنى الدّقيق للكلمة الدّالّة أوّلا وقبل كلّ على بنية للذّات البشريّة، وعلى علاقة معيّنة بالجسد ونوع معيّن من التّماهيات. فليس شيء يبرز الجسد ويمسرحه ويجعله علامة مرضيّة ومصدرا للشّكوى أكثر من حجاب اليوم وعبادة الحجاب والصّراخ بأنّه حرّيّة في نوع من الإنكار للواقع. وهذا المظهر الهستيريّ للحجاب ممّا لا يتّسع المجال لتحليله في مقال بسيط التزمنا فيه بالحديث عن الحجاب في علاقته بالختان.
من المعلوم في الدّراسات الحديثة أنّ كلّ المجتمعات تنظّم المتعة الجنسيّة للأفراد عبر ما يسمّى بالخصاء الرّمزيّ، أي عبر اللّغة وعبر تحريم الأمّ ونكاح الأقارب، وهي مؤسّسات لا تستقيم الثّقافة إلاّ بها حسب ما بيّنه كلود لفي ستروس وغيره منذ خمسينات القرن المنصرم، ولا تكون الذّات البشريّة سويّة إلاّ بها.
إلاّ أنّ بعض المجتمعات التي وصفها فرويد بالبدائيّة لا تكتفي بالخصاء الرّمزيّ، بل تلجأ إلى وضع علامات على الأجساد، منها الجروح التي تسمّى ختانا. هذه الجروح تزيد في تنظيم المتعة وتؤكّد الفصل بين الجنسين، بقطع ما يذكّر بالعضو الأنثويّ لدى الرّجل (القلفة)، وما يذكّر بالعضو الذّكوريّ لدى المرأة (البظر). وقد تبيّن أنّ الختان الممارس على الأجساد الأنثويّة أخطر بكثير من ختان الذّكور لأنّ البظر منطقة حسّاسة تتوقّف عليها اللّذّة. فحظّ الإناث من هذه الجروح أهمّ بكثير من حظّ الذّكور، ومعاناتهنّ أطول وأبعد أثرا. ويمكن أن يتنزّل حجاب النّساء في هذا الإطار، فهو يهدف عموما إلى تنظيم المتعة الجنسيّة والحدّ منها، إضافة إلى كونه يهدف إلى الحفاظ على نظام الاختلاف الجنسيّ بجعل لباس المرأة مختلفا تماما عن لباس الرّجل، وتأكيد نظام تبادل النّساء، بحيث أنّ المرأة تكون محجوبة إلاّ عن المحارم، ويكون لزوجها حقّ النّظر إليها لأنّه هو الذي يملكها بما دفعه إلى أسرتها من مهر.
فما يجمع بين الختان والحجاب هو أنّهما شارة توضع على الجسد الأنثويّ لإخضاعه إلى التّنظيم الاجتماعيّ للمتعة وتنظيم الاختلاف الجنسيّ وتبادل النّساء. وضع الشّارة على ما هو جسديّ هو أحد تعريفات الخصاء حسب المحلّل النّفسانيّ جاك لاكان، ولكنّ هذه الشّارة يمكن أن تكون رمزيّة بدل أن تكون واقعيّة، أي يمكن أن يكون لها حضور في الواقع النّفسيّ فحسب. يمكن أن تنتظم المجتمعات بمجرّد وجود تهديد بالقطع والعقاب لا بالقطع نفسه، وبمجرّد وجود حجاب نفسيّ لا بالحجاب نفسه، ومجرّد الشّعور بالإثم النّاتج عن عقدة أوديب القائمة أوّلا على تحريم نكاح الأمّ والأب.
وبعبارة أخرى، يمكن للمجتمعات البشريّة أن تنظّم المتعة بالكلام وبالمسارات النّفسيّة التي تجعل الذّات البشريّة تستبطن المحرّم، وتضع الحواجز والحجب لنفسها بنفسها. فهي في غنى عن الجروح والشّارات الإضافيّة. فقطع بظر المرأة ليس ضروريّا لكي تكون المرأة إنسانا سويّا يضع الحدود لنفسه، ووضع حاجز الحجاب أمام نظر الرّجل ليس ضروريّا لكي يحترم الرّجل غيريّة المرأة وحرمة جسدها، ويحترم الحدود والضّوابط الاجتماعيّة. بل إنّ وجود القطع الواقعيّ والحجاب الواقعيّ يدلّ على ضعف المسارات النّفسيّة المنظّمة للمتعة، والمنظّمة للتّعايش بين الجنسين.
وممّا يدلّ على ذلك أنّ وجود الحجاب وانتشاره لا يمنعان من التّحرّش بالنّساء ومن الاغتصاب، والوقائع تشهد أمامنا بهذا، والتّجارب الشّخصيّة للنّساء. فنحن لا نرى رجالا أكثر تحرّشا بالنّساء وأكثر انفلاتا جنسيّا، وأكثر تشييئا لجسد المرأة، وأكثر استعدادا لاستغلال جسدها في مقابل ماليّ من أولئك الذين يعيشون في مجتمعات تفرض الحجاب على النّساء، لا سيّما الحجاب القمعيّ المتمثّل في النّقاب. ولا يعني ما قلته طبعا أنّ كلّ الرّجال في هذه المجتمعات هم على هذه الشّاكلة.
الحجاب والختان هما الزّيادة التي تخفي نقصا أو هشاشة، الزّيادة الدّالّة على إخفاق المسارات النّفسيّة التي تحدث الخصاء دون خصاء واقعيّ، والحجاب دون حجاب.
ولكي أزيد في توضيح هذه الفكرة، أضرب مثلا كاريكاتوريّا : تخيّلوا إنسانا يكمّم فمه يوما لكي لا يقول كلاما غير لائق، أو تخيّلوه يلفّ عضوه الجنسيّ لكي لا يرتكب المعصية، فالتّكميم واللّفّ يدلاّن على فشل هذا الإنسان في وضع الحدود النّفسيّة التي تجعله يصون لسانه ويصون جسده وأجساد الآخرين. فهو يخصي جسده على هذا النّحو لعدم ترسّخ الخصاء الرّمزيّ لديه.
ولئن كان الختان عادة بلفّها الصّمت وليست مجال دفاع ومطالبة إلاّ لدى بعض شيوخ الإفتاء، فإنّ الحجاب تحوّل اليوم إلى شعار ومطلب تحرّريّ. فهو أكثر ما يدلّ على حصول كارثة نفسيّة ما، تجعل الحجب النّفسيّة غير كافية أو مهدّدة بالخطر. إنّ الحجاب هو من باب التكميم واللّفّ المشار إليهما، ولذلك فإنّ المجتمعات التي تحجّب نساءها هي المجتمعات القلقة التي يوجد فيها انفلات ما للغرائز، ويوجد فيها عجز عن ترسيخ القيم البشريّة لدى أفرادها، وتضخّم للشّعور بالإثم، نتيجة عدم ترسّخ الخصاء الرّمزيّ.
التعليقات