كريم عبد: لم تكن أطوار بهجت مجرد فتاة عراقية أنهت دراستها في كلية الآداب وأحبت أن تعمل في الصحافة كما يحدث عادة، فلاقت حتفها في خضم أحداث الأيام الماضية، بل هي نموذج لجيل المأساة وقد حولها استشهادها إلى رمز من رموز هذا الجيل. فعندما ولدتْ أطوار بهجت في 1976 كان الشكل العام لصورة المأساة العراقية قد اكتمل : عسكرة المجتمع، هيمنت الحزب الواحد، السيولة النقدية، إمساك أجهزة الأمن والمخابرات بزمام المبادرة. كل شيء كان مهيأ لبزوغ نجم الديكتاتور.. كل شيء كان مهيأ لحفلة طويلة من الحزن والتعثر والتشرد والجروح والأمجاد الزائفة، حفلة طويلة ماتزال مستمرة، ما تزال عامرة تقدم كؤوسها المرة للمدعوين قسراً، جيلاً بعد جيل. لكن جيل أطوار بهجت كان مختلفاً. الأجيال السابقة كانت تختار الرفض أو الخضوع بارادتها، تنتصر على الموت بالشهادة أو تكسب شيئاً من فُتات السلطة بالتلطي على أبوابها لتكون جزءاً من أدواتها أو ديكورها. أما جيل أطوار بهجت فحين فتح عينيه لم يجد أمامه سوى صور الديكتاتور الكريهة وأناشيد الحرب الدامية وليس له خيار سوى الكآبة والقبول حتى لو أوهم نفسه بعكس ذلك. لم تنقطع الشهادة لكنها كانت تختنق في أوار الحرب وتتبعثر في قهقهات الديكتاتور، أما الجمهور فقد كان عليه أن يغرق طرباً بقصائد الشعراء الأنذال وكؤوس المأساة المرة... عندما اضطررنا للهروب من العراق نحن الجيل الأسبق، جيل تأميم النفط والمشانق وحملة التبعيث والرعب الأسود، كان جيل أطوار بهجت ما يزال يتلعثم وهو بالكاد يتلفظ أسمه، أطفال يولدون كالورود لكنهم لا يعرفون أية وحشة تنتظرهم خلف أسوار الطفولة...
عندما دخل جيل أطوار بهجت إلى الصف الأول في المدارس الأبتدائة، كان السيد النائب قد تحول إلى السيد الرئيس القائد، والحرب تكبر لتدخل عامها الثاني. أطفال يدخلون ببراءتهم إلى الصف الأول بينما الحرب تسبقهم إلى صفها الثاني. كانت الحرب أكبر منهم، فرضت عليهم أناشيدها الكاذبة لتوجع حناجرهم الطرية وهم يرددون كلمات لا يعرفون معناها، وينظرون إلى صورة السيد الرئيس القائد المعلقة أمامهم فوق السبورة ولا يعرفون من هو هذا الرجل!! ولماذا وضعوا صورته هنا!! لكنه يعرف ماذا يريد منهم!! كان صدام حسين يعرف العراقيين واحداً واحداً في كل قرية ومدينة وزقاق. كانت سجلات دوائر الأمن والمخابرات تقدم له معلومات عن أية واحدة أو واحد منهم : ماذا يريد ولمن ينتمي وكيف يفكر وفي أية منطقة من إنسانيته يمكن أن تُطلق عليه النار كي يموت ويحيا ميتاً، نار الحقد والإذلال والمتجارة بإنسانيته وأسمه ومعنى وجوده، كي يتم دفعه ليجلس في المكان المطلوب ويتحرك في الوقت المطلوب من حفلة الليل الموحشة الطويلة.. المهم أن يجلس في المكان المطلوب مقتولاً لا يعرف من قتله بل لا يعرف أنه مقتول أصلاً لأن قهقهات الديكتاتور توقظه من موته دائماً كي لا يشعر بأنه مقتول. هذه هي مأساة الإنسان العراقي التي لا يعرفها أحد ما عدا الشعراء الأنذال وأجهزة الأمن والمخابرات وبعض الإعلاميين العرب الذين تركوا أطوار بهجت وجيلها والعراق كله يواجهون الموت والرصاص لوحدهم، فالعراق العظيم لا وجود له عندما لا تكون هناك دولارات ويد غليظة كيد الديكتاتور كي ينحنوا لتقبيلهم..

لم ألتق الراحلة أطوار بهجت من قبل، لذلك فأنا لا أعرف شيئاً شخصياً عنها، لكنني كنت أرى مأساة جيلها في عينيها المترددة وهي تطل أحياناً عبر فضائية العراق نهاية التسعينات وقد دفعوها لتقف في مكان لا يمكن أن تكون قد اختارته أو أحبته، فهو مكان لا يمكن أن يحبه أحد، لكنهم دفعوها إليه كي تقف حيث يريدون هم لا حيث تريد هي، هذا ما فعلوه بأجيال كاملة. لقد رأيتها مرات عديدة تقدم نفس البرنامج، برنامج ثقافي بعثي بامتياز، يلمع صورة الديكتاتور بعد أن انطفأت عيناه من كثرة الهزائم والأحقاد ليُصبح روائياً، روائياً بعيون مطفأة، لذلك لم يكن يبدو على اطوار بهجت بأنها كانت مقتنعة بما تقول أو بما يقوله النقاد الذين تحاورهم عن الرواية والروائي المجهول. برنامج مخصص لتمجيد روايات لراويها وهي أول نمط من الروايات التي لا تحمل أسم من ألفها!! ليس لأن كاتبها رئيس جمهورية أو بطل قومي يترفع عن أن يظهر بمظهر أديب، لكنه رجل متخم بعقدة الأشمئزاز من ذاته، يعرف تماماً كم يكرهه العراقيون وكم يكرهون أسمه وصوره حتى صار هو أيضاً يكره نفسه وأسمه فلم يجرؤ على وضعه على الغلاف. هذا هو السبب الحقيقي الذي جعله يُصدر رواياته السيئة دون أسم!! صدام أكثر من سواه يعرف كم هو يكره نفسه وكم يحتقر أسمه، وكم قتل من البشر كي يصل إلى هذا المستوى من المشاعر المشينة، مشاعر كراهية الذات، حيث تلاحقه وجوه الضحايا في اليقظة والمنام، لذلك ظل يحقد على العراقيين كما يحقد على نفسه وأسمه، وهذه هي الضريبة التي تدفعها الشعوب عندما ترميها الأخطاء والأقدار إلى حفرة الديكتاتورية التي لن تستطيع الخروج منها إلا حين ترمي الأخطاء والأقدار بالديكتاتور ذاته إلى نفس الحفرة التي وُجدَ فيها هارباً جباناً ولم يستطع مواصلة حرفة القتل التي أدمنها بعد أن قتل آلاف العراقيين. لقد خانته النذالة حين وجد نفسه هو في الهدف والمسدس ذاته بيده لكنه لم يطلق النار على رأسه، بل ارتعد وسقط منه المسدس ليسقط هو في الحفرة. وحين خرج العراقيون منها لم تكن الحفلة قد انتهت كما كانوا يتوهمون، بل كان عليهم أن يواصلوا وجعهم واحلامهم وأيامهم الصعبة مع فصلها الثاني. وهنا وجدتْ أطوار بهجت فرصتها لتبحث عن المكان الذي تريده، الذي تريد حقاً أن تبدو واضحة على حقيقتها من خلاله رغم الخطورة بل المخاطر الكثيرة التي تحيط به، فعملت في الفضائيات العربية.. كانت صادقة مع نفسها عندما لم تشعر بالهزيمة لأنها هزيمة النظام وليست هزيمتها هي أو هزيمة جيلها، لقد أنخرطت في العمل قبل أن يخرج الرعديد من حفرته وبعد أن خرج منها، استمرت في العمل ولم تنهزم مع الشعراء والاعلاميين الأنذال الذين كانوا يدفعونها إلى الدور الذي يليق بهم هم وليس بها، فلم تكن هي من صناع المشهد أو المخرجين.. كانت تؤدي دوراً دُفعت إليه دفعاً، تؤديه رغماً عنها، جيل كامل كان يفعل ذلك!! فهي لا تملك أن ترفض فقد كانت مقتولة في حفلة القتل البعثية، وحين تكسرت أبواب القاعة عن تلك الحفلة المريرة غادرت أطوار بهجت مع المغادرين، غادرت إلى الهواء الطلق ولم تنهزم مع الشعراء والإعلاميين الأنذال الذين أصبحت لهم شقق ومحظيات في منافي الثعالب والذئاب.. كانت صادقة مع نفسها فبقيت في موقعها، تخلصت من آثار القتل الأول. غادرت الجوقة بشجاعة لتبحث عن مكانها تحت شمس العراق، تبحث عن مكانها كصحفية وكأنسانة لتتركهم في فضيحتهم، لذلك لاحقوها ليقتلوها في مدينتها سامراء، لقد قتلوها هذه المرة مباشرةً بعد أن عجزوا عن قتل إنسانيتها، لقد قتلوها حقاً، قتلوها دون أن يتمكن من نجدتها أحد مع الأسف..

لن أخضع لسطوة الكلمات وأوهامها لأقول أنها بمقتلها وُلدتْ من جديد، فقد قتلها الأوغاد حقاً، قتلوها ولم نتمكن من نجدتها، تماماً كما يُقتل العراقيون كل يوم ولا يستطيع أحد أن ينجد احداً!! لماذا؟! لأن الحفلة ما زالت مستمرة وايقاعاتها وخناجرها ما تزال بيد القتلة والمجرمين!! صحيح إننا خرجنا من حفرة الديكتاتورية ولكن إلى أين؟! إلى فضاءً يَصعُب أن نقول بأنه فضاء الحرية وإلا لتمكن بعضنا من نجدة البعض الآخر كي نحيا ويحيا العراق معنا، كي لا نسمح لهم أن يقتلوا أطوار بهجت أخرى دون أن نتمكن من نجدتها فتصبح كلماتنا ووجودنا بلا معنى تماماً!!
فمتى نصحو إذا كانت كل أجراس الموت هذه ترن في فضاءات العراق دون أن يتمكن بعضنا من نجدة البعض الآخر، بل دون أن يفهم بعضنا البعض الآخر!! متى نصحو إذن؟! ولمن تُقرع كل هذه الأجراس حقاً؟!

اقرأ

باسم النبريص: وداعا يأطوار.. وداعا يا براءة العراق

إبراهيم المصري: يا أطوار هل قرأتِ الدون الهادئ؟