منذ فشل نظام البعث العراقي البائد في مغامرة غزو دولة الكويت وتحطم أحلامه نهائيا بعد إستسلامه لقوات التحالف الدولي في خيمة (صفوان) الحدودية في يوم 28 فبراير 1991 والتي أعطت النظام العراقي وقتها الضوء الأخضر لتصفية الإنتفاضة ولتعويم النفس والتفرغ للشأن الداخلي والمباشرة في عملية تكسيح العراق وإستنزافه بالكامل!، والتداعيات التي أعقبت ذلك الفشل من إنتفاضة شعبية وحصار إقتصادي مروع ومدمر، وتراجع في المستوى الحضاري والثقافي العام للمجتمع العراقي قد فرض نفسه بشكل مؤلم وموجع ليشكل صورة مستقبلية بائسة للشعب العراقي الذي إنكفأ على نفسه بعد فشل مغامرات النظام البعثي بشكله الفاشي المتوحش ذو الطبيعة العشائرية و البدائية التي أفصحت عن وجهها منذ اليوم الأول لتسلم صدام وعصابته السلطة في السادس عشر من تموز/ يوليو 1979، ذلك التاريخ الأسود الذي صبغ خارطة العراق ومصير شعبه بلون الدم القاني، والذي أدى في المحصلة لمغامرات عسكرية عدوانية لم يكن لها أدنى مبرر وفقا للصيغة والأسلوب التي تمت بها، فكانت محرقة الحرب العراقية / الإيرانية المرهقة الطويلة (1980 / 1988) عنوانا دمويا مرعبا لمرحلة تاريخية سوداء تركت جراحها المميتة في الجسد العراقي ورسمت شكلا ومستقبلا سوداويا للشعب العراقي، وغيرت الكثير من معالم المجتمع العراقي ونفسيته ووضعية الأجيال العراقية الجديدة التي عاشت ومارست ثقافة الحروب الدموية وتعايشت بشكل يومي وميداني مع لغة السلاح وتمجيد القتل والحرب والموت والدمار، وتقديس الألوان العسكرية والأنماط الفاشية وهو تحول غير مسبوق في توجهات الشباب العراقي الذي حاول الحكام العشائريين والأميين من المتخلفين والبدائيين والرافعين لشعارات البعث السقيمة المخلوطة بقدر هائل من الغباء والضبابية الهيمنة عليه وتوجيهه وفقا لرغباتهم المريضة، وكان عجز المعارضة الوطنية العراقية المشغولة بخلافاتها التاريخية ووضعيتها غير المستقرة وبعدها الجغرافي عن ساحة العمل الميدانية، وقوة وهيمنة أجهزة السلطة والأمن العراقية، وهشاشة المؤسسة العسكرية العراقية التي لم يكن لها القدرة على حسم الأوضاع وتغيير النظام و قيادة الشعب العراقي نحو بر الأمان بعيدا عن سلطة الموت البعثية البائسة، وكانت المصيبة الكبرى أن النظام العراقي لم يستوعب كل هزائمه، ولم يتعظ، ولم يحاول ولو عرضا تغيير دفة سياساته التدميرية والخاطئة، بل كان مصرا على ولوج دروب الخطيئة، وركوب قاطرة الموت، والدخول في صراعات جديدة ومستحدثة، والإصرار على توريط الشعب العراقي في مآزق سياساته الفاشلة، لقد كان عقد التسعينيات عقدا مجانيا للموت العراقي الشامل، وتمددا للهيمنة الفاشية البعثية وقائدها الأرعن الذي كان يعيش في برجه العاجي متوسدا جثث الضحايا من شعبه الذين أنهكهم الحصار الدولي في بناء القصور والإستراحات التي أسماها (قصور الشعب)!!، وفي محاولة إحياء برامج التسلح العدوانية المريضة التي لم يكن لها أي قيمة ستراتيجية في ظل تآكل النظام ونخره من الداخل بفعل حروب التصفيات العائلية التي وصلت متناقضاتها لحدود كبرى كما حصل في قضية هروب ثم عودة الصهر الذي كان (حسين كامل) بين أغسطس 1995 وفبراير 1996!! والتي أظهرت مدى ركاكة وهشاشة السلطة العراقية وبينت مدى عجز قوى المعارضة العراقية بمختلف تياراتها عن تغيير الأوضاع التي وصلت حدودا إنفجارية تلامست أوضاعها مع سلسلة من المتغيرات الدولية التي حتمت نفض الغبار عن مصير النظام العراقي المؤجل والمحفوظ في ثلاجة الأزمات الدولية منذ فبراير 1991 بعد هزيمته في رمال الكويت، فكانت الحرب ضد الإرهاب وكان بروز الجماعات الأصولية التي تمددت على حساب معاناة الناس وبالتعاون مع الأنظمة الفاشية والمهزومة من طراز النظام العراقي البائد، وكان حسم مصير نظام صدام واحدا من أهم ملفات وقضايا المرحلة والستراتيجية الكونية الجديدة، فالنظام لم يستفد من دروس هزائمه المرة، ولم يحاول التخفيف من معاناة الناس بل إستمر على نفس وتيرته السابقة في معاندة غريبة للنفس ولمنطق التاريخ، وبعيدا عن التفاصيل فإن حرب إسقاط نظام صدام كانت واضحة ومشخصة و معروفة للجميع، وكانت جزءا من مشاهد الصورة الإقليمية الجديدة، وكانت تلك الحرب التي أندلعت تحت عنوان (حرية العراق) قبل ثلاثة أعوام كاملات من يومنا هذا عنوانا لنهاية مرحلة وبداية حقبة جديدة إختلطت وتداخلت فيها كل الرؤى والعوامل والتيارات الظاهرة والحبيسة، كانت الحرب ذات عناوين وأهداف براقة وضرورية وأنجزت في وقت قياسي وبعدد محدود من الخسائر لأن النظام كان في حالة إهتراء تام ولم يكن يحتاج سوى لرصاصة الرحمة التي جاءت مع فيالق المارينز الذين غيروا تاريخ المنطقة ورسموا معالما جديدة سيذكرها التاريخ، وهشموا نظاما كان مهشما من الأساس ولكنهم وهم يهدمون ذلك النظام الخرب تناسوا العديد من الأمور، وأرتكبوا المزيد من الأخطاء، وتصوروا في قراءة خاطئة ومستعجلة للعقلية والوضع العراقي بأنه مشابه لوضعية الشعوب الأوروبية خلال تحريرها من الفاشية والنازية في منتصف أربعينيات القرن الماضي!! ولم يكن ذلك صحيحا بالضرورة والمطلق، فالمنطقة تعيش على مخزون تاريخي هائل من الثقافات والأفكار وحتى الخرافات، والعراق بالذات كان وما زال يعيش وضعية قلقة لشعب وأجيال كاملة كانت في عزلة عن العالم لأكثر من عقدين كاملين، كما أن حالة الإستعجال و (الهرجلة) والفوضى الواضحة في بناء عراق ما بعد الحرب قد تركت بصماتها الواضحة، فالجيوش الأميركية أدت مهمتها بإقتدار واضح، ولكن السياسة الأميركية لم تكن بنفس القدر من الإحترافية والتخطيط الذي كان التخبط سمته العامة... ملفات وأمور عديدة أبرزتها حرب إسقاط صدام.. ولكن الحقيقة التاريخية المجردة تقول إن الحرب لم تكن ككل الحروب ولا بد لنتائجها أن تكون مختلفة، ولا بد للمفاجآت والمستجدات أن تبرز، وقد أطلقت تلك الحرب مارد التخلف والوحشية الذي ما زال يمارس عبثه في العراق النازف.. ولكنها من جانب آخر ستدخل التاريخ بإعتبارها الحرب التي جعلت من العراق والعالم العربي يعيش إرهاصات ومعاناة التغيير مهما كانت شاقة... إنها الحرب المستمرة بعد ثلاثة سنوات من إندلاعها ونهايتها.. وإنها الحرب التي ليست ككل الحروب.. وإنها البداية الصعبة لولوج التغيير في عالم الشرق السحري العصي على التغيير.

[email protected]