لأول مرة منذ غزو العرب لمصر عام 642 ميلادية قضت محكمة القضاء الادارى يوم الثلاثاء الموافق 14مارس 2006 بإلزام الكنيسة القبطية بمنح المطلق ترخيصا للزواج مرة أخرى،فالكنيسة القبطية تتمتع بأستقلال ذاتى Outonomy طوال تاريخها، وحتى خلال الحكم الأسلامى الطويل ظل لها السلطة المطلقة فى إدارة شئون الأحوال الشخصية للأقباط. وقد نقلت رويترز حيثيات المحكمة باعتبار أن الزواج حق دستوري وإنساني، وعلى أساس أن الدستور المصري أقر المساواة بين المواطنين وحق كل مواطن في تكوين أسرة قوامها الدين والأخلاق.
حق الزواج هو أحد الحقوق الأساسية للإنسان وقد نصت عليه المواثيق والقوانين الدولية وجاء في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان مادة 16 quot;الرجل والمرأة متي أدركا سن البلوغ حق الزواج وتأسيس أسرة بدون أي قيد بسبب العرق أو الجنسية أو الدين، ولا يعقد الزواج إلا برضا الطرفين كلاهما ولا اكره فيهquot;.
وقبل أن يكون الزواج حقا قانونيا هو منحة وعطية إلهية ، فلم يخلق الله حواء اعتباطا وإنما كل شيء مرتب حسب إرادته لتعمير الكون والتمتع بشراكة إنسانية بين الرجل والمرأة في الحب الإلهي. ومن ثم لا يوجد كائن ما كان يستطيع حرمان الإنسان من حقه فى الزواج الذي منحه له الله وهو متاح لكل المصريين سواء كان دينيا أو عبر عقود السجل المدنى.
الاختلاف ليس في حق الزواج، فهذا متاح ولا غبار عليه، وإنما الخلاف هو حول الزواج الكنسى وفقا للشرائع الدينية. وهنا نقول أيضا لا توجد سلطة مهما إن كانت هذه السلطة تجبر مؤسسة دينية على عقد زواج ديني بقواعد تخالف صلب العقيدة الدينية.
ولهذا نشأ في أعرق الديموقراطيات الغربية الزواج المدني والزواج الديني، والزواج المدني هو المعترف به أمام القانون، أما الزواج الديني فيتعلق بعضوية الشخص في الجماعة الدينية ورغبته في الالتزام بعقيدة هذه الجماعة.
وقد حسم الغرب العلاقة بين الدين والدولة بشكل واضح، لا يمكن أجبار مؤسسة دينية بسلوك يتعارض مع عقيدتها إلا إذا كان هذا السلوك الديني يتعارض مع القانون.
وأحكام المحكمة الدستورية العليا فى أمريكا (Supreme Court) واضحة في هذا الإطار، فمثلا أجبرت المحكمة الدستورية العليا الهنود الحمر بالتوقف عن تعاطي peyote، وهو نوع من المخدرات وكان جزءا من طقوسهم الدينية، لأن تعاطي هذا المخدر يتعارض مع القانون الذي يحافظ على صحة المواطن.في نفس الوقت يحرم القانون على طائفة المرمون وعلى المسلمين تعدد الزوجات، رغم إنه حق ديني في كل من العقيدتين، ومن يفعل ذلك يعرض نفسه للسجن حفاظا على حقوق الأنسان فى المساواة وحقوق المرأة لانه من البدء خلقهما ذكرا وانثى.
ومن ناحية أخرى لا تستطيع أي محكمة أجبار كنيسة على إجراء زواج ديني للمثليين جنسيا أو لمطلق، فهذا حق مطلق للكنائس، أما حق الزواج فهو متاح مدنيا للشخص المطلق وفى بعض المدن للمثلى.
ومرشح الرئاسة جون كيري كان مطلقا وتزوج زوجته الحالية المليارديرة تريزا هاينز صاحبة مصانع هاينز زواجا مدنيا لأنه كاثوليكي ولا يحق له الطلاق الديني أصلا ومن ثم الزواج مرة أخرى، وحتى أثناء حملته الانتخابية وصف في وسائل الأعلام بأنه كاثوليكي غير ملتزم.
المشكلة الأساسية في مصر هو الخلط بين ما هو ديني وما هو مدني والتشابك بين الدين والسياسة والمجتمع. ومصدرالأرتباك الرئيسي هي المادة الثانية من الدستور والتي تنص على أن quot;الإسلام دين الدولة ومبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريعquot;. ويقول خبراء القانون الدستورى أن هذه المادة لم تطبق منذ أضافتها عام 80، ولو تم تطبيقها لأصيب المجتمع المصري كله بالشلل التام، فقوانين البنوك والنشاط السياحي وحتى الإنتاج السينمائي والتلفزيوني كلها تتعارض مع هذه المادة، وبالتالي لا يمكن خلق دولة مدنية في مصر في ظل وجود هذه المادة، إلا إذا كانت القوانين غير دستورية ويتم التغاضي عن ذلك، وهو وضع شاذ أن تطبق قوانيين والجميع يعرف عدم دستوريتها.
والحقيقة أن هذا وضع مربك لكافة أوجه النشاط السياسي والاقتصادي والاجتماعي.
فيما يتعلق بالأحوال الشخصية حتى عام 1955 كانت هناك المجالس الملية للأقباط والمحاكم الشرعية للمسلمين كلا منهما تحكم في الأمور المتعلقة بالأسرة وفقا لعقيدة كل طرف. وقد تم إلغاءها عام 1955 ولكن ظل الحكم في الأحوال الشخصية ثم في محكمة الأسرة وفقا لقوانين الأحوال الشخصية لكل طرف.
ولكن الخلاف جاء نتيجة أن المحاكم المصرية مازالت تعمل بلائحة 1938 للأقباط، وبناء عليها تم توسيع منح الطلاق المسيحيين بشكل مفرط وحتى قانون الخلع تم تطبيقه على الأقباط.
ولكى يتم ضبط الأمور وفقا لتعايم الانجيل المعمول بها منذ دخول المسيحية مصر، أجتمعت في عام 1980 كل الطوائف المسيحية وصاغت مشروع قانون موحد للأحوال الشخصية وقعه كل رؤساء جميع الكنائس المسيحية في مصر ومندوبى الكنائس التي لها رئاسة خارج مصر مثل الموارنة والسريان والأرمن، ولكن للاسف وضعت الحكومة المشروع في الأدراج. في عام 1998 وبعد تفاقم مسألة الأحوال الشخصية وشكاوى الأقباط أعيد تقديم مشروع القانون مرة أخرى بعد تنقيحه بناء على طلب وزير العدل السابق فاروق سيف النصر موقعا عليه أيضا كل رؤساء الكنائس المسيحية في مصر ومرة آخرى تم تجاهل الموضوع .
الكنيسة القبطية من جانبها تلتزم بما جاء في مشروع القانون من التصريح بالزواج الثاني في حالة الطلاق لعلة الزنا أو تغيير الدين عند أحد الزوجين، وأيضا منح تصريح زواج ثان في حالة بطلان الزواج، ويبطل الزواج في حالة العنة الزوجية أو الخداع، أي تقديم معلومات مضللة وكاذبة تؤثر على سير الحياة الزوجية، والمفروض أن الزواج سر مقدس قائم على الصدق والصراحة والشفافية.
والسؤال لماذاتعنتت الحكومة طوال هذه المدة في إقرار مشروع قانون وافقت عليه كل الطوائف المسيحية؟.
بالإضافة إلى التعنت الحكومي المعروف فى كل ما يتعلق بحقوق الأقباط إلى حد التواطئ والمشاركة فى أضطهادهم ، هناك سبب آخر يتعلق بتطبيق الشريعة الأسلامية عندما يختلف طرفى العلاقة الزوجية في الملة فى الوضع الحالى ومشروع القانون الجديد يحرمها من ذلك.
ولكن هل حكم القضاء الإداري الأخير صحيح من الناحية القانونية ؟
مع أحترامى للقضاء ، الحقيقة أن هناك العشرات من الأحكام القانونية الفاسدة لأسباب كثيرة ليس هنا المجال لذكرها، ولكن من هذه الأسباب أن يقوم القاضي بدور المشرع، وفي حالة الفوضى التي تعيشها مصر حاليا أختلط الحابل بالنابل فأصبحت السلطة التنفيذية تجير على السلطتين التشريعية والقضائية، وأيضا تجاوز كثير من القضاة حدود اختصاصهم ليصدروا أحكامهم بناء على قواعد قانونية مختلقة . فالحقوق الدستورية هي رسالة للمشرع وليس للقاضي، والقاضي الذي يخلق قاعدة قانونية غير موجودة ويصدر حكما بناء عليها هو يعتدي على حق المشرع وعلى حق الناخب الذي أختار سلطته التشريعية ومن ثم فأن حكمه باطل قانونيا. والمحكمة الإدارية في حكمها السابق ضربت عرض الحائط بنصوص القانون وبإحكام محكمة النقض لتخلق قاعدة قانونية غير موجودة. ورغم أن العدل هو أسمي المعاني وهو أساس الملك وهو رسالة القضاء الأولي. إلا أنه على القاضي أن يلتزم بالقانون حتى ولو كان غير عادل. وهناك قصة عن امرأة أمريكية قالت لأحد القضاة: أسأل الله أن تحكم بالعدل، فأجاب على الفور يا سيدتي أنا لا أحكم بالعدل وإنما أحكم بالقانون.والقاضى للاسف فى الحكم السابق لم يلتزم بالقانون.
وهناك أمثلة كثيرة لقضاة تجاوزوا حدود سلطتهم القضائية وخلقوا قواعد قانونية غير موجودة أصلا، فالقاضي الذي حكم على شارب خمر في أحدى محاكم بني سويف بالجلد فى التسعينات من القرن الماضى، والقاضي الذي حكم بالتفريق بين نصر أبو زيد وزوجته هو أيضا خلق قاعدة قانونية غير موجودة لانه لا يوجد في مصر قانون للردة أو قانون للحدود الشرعية، وكلاهما أعتمد على المادة الثانية من الدستور، وفي الواقع أن هذه المادة كما قلت رسالة للمشرع وليس للقاضي.
وإذا استمرت هذه الاحكام القراقوشية يمكن أن نجد قاضيا يطعن في مواطنة الأقباط بوصفهم أهل ذمة بناء على هذه المادة، أو حتى يدعوهم إلى إنكار صلب ولاهوت المسيح ونزع الصلبان من على منارات الكنائس باعتبار أن ذلك يتناقض مع المادة الثانية التي تقول أن الإسلام دين الدولة ومبادئ الشريعة هي المصدر الرئيس للتشريع،والأسلام ينكر صلب المسيح ولاهوته وقيامته.
إن الحكم الذي أصدرته المحكمة الإدارية بشأن أجبار الكنيسة على زواج المطلق هو حكم فاسد ويمكن بسهولة الطعن فيه لأنه لا يعتمد على أسس قانونية، ولكن الأهم هو أن تتخلي الدولة عن تعنتها وظلمها وتعتمد القانون الموحد للأحوال الشخصية لغير المسلمين والذي مضي علي تقديمه ربع قرن.. هل هناك ظلم أكثر من هذا.
أما الكنيسة القبطية فكما قال قداسة البابا شنودة لا توجد قوة على الأرض تستطيع أن تلزمها بتعاليم تخالف تعاليم الإنجيل..... والتاريخ شاهد على ذلك.
كاتب ومحلل سياسى-واشنطن
[email protected]
التعليقات