نشرتُ في زاوية كتاب إيلاف، في الرابع عشر من آذار (مارس) الماضي، مقالاً بعنوان (المثقفون العراقيون خارج المشهد) ذكرتُ فيه quot;أن النظام الدكتاتوري السابق حول شرائح المجتمع كلها، وفي مقدمتها الشريحة المثقفة الى رهائن، ومارس معها أبشع أساليب الترهيب والترغيب لربطها بعجلته الجهنمية، فمن كان يجرؤ على التملص من تنفيذ أمر من أوامره، أو مشروع من مشاريعه؟ ولم يكن أمام من يريد التحرر، أو الإفلات من قبضته إلاّ الفرار الى الخارج. بيد أن هذا الخيار كان صعباً لقسم كبير من المثقفين، فظروفهم القاهرة لم تكن تسمح لهم بالمغادرة، وأوضاع العراقيين السيئة في المنافي لم تكن تشجع على ذلك، ثم هل كان من المعقول أن يهرب المثقفون كلهم الى الخارج؟ إن الأدباء والفنانين والمفكرين والأكاديميين هم أكثر الشرائح الاجتماعية تعلقاً بالحرية والقيم اليمقراطية، كونهم يشتغلون في حقل إنساني يقوم أساساً على الاجتهاد والاختلاف وحرية الفكر والموقف، ولا يدرك هذه الطبيعة فيهم إلاّ من كان من صنفهم أو لصيقاً بهم، وإذا كانت القوة الغاشمة وسياسة القمع والاستبداد، التي مارسها النظام السابق، قد أرغمتهم على إنجاز، أو أداء أعمال منافية لطبيعتهم، أو السكوت عن الظلم والقهر، فإن ذلك لا يعطي الحق لأحد بأن يقصيهم عن المشهد السياسي، أو يهمشهمquot;. ولم يُخيّل لي، على الاطلاق، أن أجد عراقياً واحداً، أينما يقيم، وأياً كان تفكيره، لا يرتوي بإقصائهم أو تهميشهم، بل يطالب بمحاكمتهم بتهم شتى يرقى بعضها إلى مستوى جرائم الحرب! ولكن يبدو أن عليّ، من الآن فصاعداً، توسيع مدى مخيّلتي لأجعلها قادرةً على الذهاب إلى أقصى مايمكن للمخّيلة الإنسانية أن تصل إليه، وأجنب نفسي من أي صدمة يولدها موقف فاشي، أو فعل سادي، أو رأي مريض يصدر عن هذا المرء أو ذاك، سواء أكان عراقياً أو غير عراقي، مواطناً عادياً أو مثقفاً أو سياسياً، كما حدث لي، ولغيري حتماً، وأنا أقرأ ما نشره شخص يدعى د. ساهر فاضل الهاشمي (اسم مستعار طبعاً)، في موقع (فكر) الالكتروني، من حلقات، يدعي بأنها دراسة كتبها quot;بعد بحث مضن استمر ثلاث سنواتquot;!، بعنوان (هؤلاء مدحوا الطاغية: أسماء في الذاكرة العراقية)، وقد أعادت نشرها مواقع أخرى مثل (الجريدة العراقية)، و(الكاتب العراقي)، و(الحوار المتمدن)، و(رزكار)، و(البديل). يحرض الكاتبُ، مستخدماً ضمير الجمع في اللغة، وكأنه لسان حال منظمة أو حزب، البرلمانَ العراقي الجديد على المطالبة بمحاكمة أكثر من 400 أديب وكاتب وفنان عراقي (يورد أسماءهم جميعاً) quot;على الجرائم التي ارتكبوها بحق الشعب وهدر ثرواته على كلماتهم وقصائدهم الساذجة. عليهم كبرلمان انتخبه الشعب ان يصدروا قانون محاكمة الادباء والكتاب الذين مدحوا وصنعوا الديكتاتور وزادوه بطشا ودمويةquot;، ويرى الكاتب أن الشعب العراقي quot;لن يغفر لهم ما فعلوه بهquot;، فقد quot;عمل اولئك الافاقون الدخلاء على تمجيد الطاغية الغبي وصنعوا منه ديكتاتورا لامثيل له في الدنيا، فهم يتحملون كل جرائمه وبطشه بالناس الابرياء والكتاب الاشراف والادباء الصادقين ورجال الدين الاخيار، فهم مشتركون معه في جرائمه ناهيك عن انهم اشتركوا في نهب ثروات البلد بالجوائز والمنح والهدايا والعطايا والتكريمquot;، وهم quot;احد اسباب انهيار القيم والاخلاق الاصيلة في الثقافة العراقية والسبب المباشر في تأسيس ثقافة الارهاب الصداميquot;. ويمضي الكاتب، بلغة هزيلة أقرب إلى لغة كتّاب التقارير وquot;العرضحالجيةquot;، وتحتوي على أغلاط نحوية وإملائية، و تخلو من علامات التنقيط، إلى اتهام هؤلاء المثقفين بالفاشست، وأشباه الكتّاب، والشحاذين، والمنافقين، وقتلة العراقيين، والإعلان عن احتفاظه بـ quot; بوثائق منشورة تمدح الديكتاتور او تعظم من شأنه او تدعو الى فكر البعث الشوفيني سواء اكانت قصيدة او مقالة او قصة او نقد او دراسة ادبية او سياسية مع اسم المادة وتاريخها ومكان نشرها quot;. ويضيف صاحب الاسم المستعار أن أولئك آثروا quot;بأن يسجل لهم شرف سرقة خبز الجياع وعزهم باستلامهم دنانير الطاغوت الاخرق عن كلمات تافهة ذليلة كسيحة لا تنتمي الى الادب ولا الى أي جنس ثقافي اخر. لقد كتبوا ممجدين الحرب والقتل والقنابل وازيز الرصاص باسلوب رخيص ومبتذلquot;. ويعد الهاشمي بأنه سوف يخصص quot;حلقة خاصة عن الادباء والكتاب العرب الذين تلوثت اقلامهم بدماء العراقيينquot;، وquot;حلقة اخرى عن الفنانين التشكيليين والمطربين وكتاب الاغنية من مرتزقة الديكتاتورquot;. ويطالب أيضاً بقطع رزق اثنين من العاملين في الإعلام، وهما الشاعر جواد الحطاب، ونوفل ابو رغيف الموسوي، بإقصائهما quot;من عملهما في القنوات الفضائية كي لا نتذكر قصائدهما المعيبة والمخيبة في حضرة صدامquot;. ويقول في خاتمة آخر حلقة نشرها:
quot;ونحن نطالب:
القضاء الاعلى
والبرلمان المنتخب
ورئاسة الجمهورية
ورئاسة الوزراء
بمحاسبة الكتاب والملحنين والمغنين الذين غنوا لصدام واعوانه وكتبوا الكلمات الصاعقة بحب الطاغية وتمجيد خيباته وتقديمهم لمحاكمة خاصة بتهمة خدش الذوق العام وتخريب الذائقة العراقية عن اعمالهم المسيئة والمنافية للاخلاق والشعور والذوقquot;.
والغريب أن هذا الكاتب، الذي يخشى من وضع اسمه على تقريره (وهو كذلك بامتياز، ولا يمت بصلة إلى الدراسة، أو البحث الثقافي المتعارف عليه)، يضع في سلة واحدة أسماء مبدعين عراقيين بارزين مثل: حسب الشيخ جعفر، ولطفية الدليمي، ورشدي العامل، وعلي جعفر العلاق، مع من كانوا مداحين بالفعل مثل: لؤي حقي، ورعد بندر، وعبد الرزاق عبد الواحد، وأديب ناصر (وهو فلسطيني وليس عراقياً)، وغيرهم. كما أنه يساوي، في توجيه اتهاماته، بين أسماء عشرات الشعراء والقصاصين والكتاب الذين رفضوا نهج النظام الدكتاتوري السابق قبل سقوطه بأكثر من عقد، وعملوا مع فصائل المعارضة ضده، و اختاروا الاغتراب واللجوء والهجرة، ولايزال أغلبهم خارج العراق، مثل: عدنان الصائغ، وهادي ياسين علي، ومحمد تركي النصار، ودنيا ميخائيل، وفضل خلف جبر، ووسام هاشم، وسعد جاسم، ونصيف الناصري، وصلاح حسن، وعلي السوداني، وفيصل عبد الحسن، وغيرهم. أقول يساوي هؤلاء مع الذين ظلوا يمدحون، ويطبلون للنظام إلى يوم سقوطه. والمضحك في الأمر أن عدداً من الكتّاب الذين ترد أسماؤهم في هذا التقرير، بوصفهم مجرمين، على رأي الكاتب الشريف، الذي يطالب بإنزال القصاص بهم، كانت صحيفة (الزوراء) البغدادية، قد صنفتهم، في تموز (يوليو) عام 2000، بأمر من عدي صدام حسين، بأنهم مرتدون! ضمن قائمة اشتملت على 31 اسماً، ولم يرد في تلك القائمة طبعاً لا الاسم الحقيقي لهذا الكاتب، ولا اسمه المستعار (ساهر فاضل الهاشمي)!
إن مثل هذه التقارير المشبوهة، التي تسارع بعض مواقع الانترنيت العراقية إلى نشرها للأسف، تشكل سابقةً خطيرةً يجب فضحها، لأنها تحرق الأخضر بسعر اليابس، كما يقول المثل، وتخلط بين الأسماء الثقافية التي اختارت بمحض إرادتها، طمعاً بالجاه والمال، الوقوف إلى جانب الدكتاتورية، والأسماء التي تعامل معها النظام بشتى أساليب
الترهيب والترغيب لربطها بعجلته الجهنمية، فرضخت، بفعل ظروفها القاهرة، إلى تلك الأساليب، وكتبت مقالاً، أو قصةً قصيرةً، أو قصيدةً، أو روايةً حول الموضوعات التي كان يروج لها النظام، ولم تكن كلها نتاجات quot; تستخف بعواطف الناس المغلوبين على أمرهم quot;، أو تمجّد بطولات القائد، وتحول هزائمه إلى انتصارات مؤزرة، كما يزعم صاحب التقرير الدكتور ساهر فاضل الهاشمي. ثم أين نضع مطالبته بإحالة أكثر من نصف أدباء العراق وكتّابه وفنانيه إلى محكمة مجرمي الحرب، من الصورة التي نرسمها للعراق الجديد: عراق الديمقراطية والتسامح والحرية؟
[email protected]
التعليقات