للأحزاب الدينية في العراق أساليب غريبة ولكنها مكشوفة لتمرير مخططاتها ومحاولة فرض منطلقاتها وتمرير أفكارها من خلال الإستعانة ببعض العناصر المجتمعية ذات الإرتباطات الحزبية، وقد أفرزت أزمة السلطة القائمة في العراق والصراع المحتدم بين القوى السياسية والدينية والطائفية والعشائرية حقيقة الوضع الهش في العراق ومدى تخلف النخب السياسية العراقية بل وإنتهازيتها ووصوليتها وخيانتها لكل آمال وأحلام الشعب العراقي الذي تخلص من الفاشية البعثية ولكنه أبتلي للأسف بسلسلة لا تنتهي من الفاشيين الجدد من مختلف الملل والنحل العراقية؟ والذين يتصارعون ويتدافعون بالمناكب على كل شيء وكأن العراق ضيعة خاصة لهم ولأحزابهم التعبانة التي عانت من كل أمراض الغربة والتوحش القاتلة، فحزب الدعوة الإسلامية مثلا لم يعد ذلك الحزب القديم والمعروف بعد سلسلة الإنشقاقات في صفوفه والتي خلقت حزبا آخر أكثر ولاءا لدولة الولي الإيراني الفقيه التي تتربص بالعراق الدوائر، وتحاول إبتلاع الإرادة الشيعية الحرة من خلال عملائها ومواليها الكثر في الساحة العراقية الملغومة بألف لغم ولغم والتي تحتاج لعقود طويلة وتضحيات قاسية لتطهيرها من مخلفات الفاشية البعثية البائدة أو إفرازات عصر الفوضى الراهن، وقد بات واضحا أن بعض القوى السياسية العراقية تحاول القفز على جملة من الحقائق والثوابت الستراتيجية المعروفة في الساحة العراقية من خلال تبنيها لأدوار ومواقف هي أكبر من حجومها بكثير وتتناقض كل التناقض مع الجهود الدولية المخلصة لإنتشال العراق من وهدته وخيبته الثقيلة والمزمنة والتي لا تتعلق بالمرحلة الراهنة فقط بل تمتد لعقود طويلة سابقة، ففشل العملية السياسية في العراق أمر ذو جذور تاريخية يمتد لبداية تأسيس وتكوين الدولة العراقية الحديثة في صيف 1921 وحيث تكونت ملكية دستورية هاشمية قلقة ومتوترة كانت عرضة للصراعات الطائفية والإثنية وللتدخلات العشائرية المنبثقة من طموح زعماء العشائر الذين تحالف بعضهم مع النظام الجديد فيما كانت عشائر أخرى عرضة لمناورات السياسيين المتصارعين لذلك كانت الأحداث العسكرية والعمليات الحربية في منطقة الفرات الأوسط منتصف ثلاثينيات القرن الماضي ترجمة حرفية لحالات الشد والجذب في السياسة الداخلية ومما خلق سوابقا لبروز قيادات عسكرية عراقية تفننت في قمع شعبها مثل بكر صدقي وغيره من الضباط الذين دمروا الحياة السياسية في العراق فيما بعد!.

اليوم.. و مقابل الأزمة العنيفة التي تمنع تشكيل الحكومة العراقية رغم مرور أكثر من أربعة أشهر على الإنتخابات النيابية يبدو أن بعض الأطراف مستعدة لإقتباس تراث الماضي وتوريط العشائر العراقية في الصراعات السياسية عن طريق إستمالة بعض قادتها بإغراءات معينة ومعروفة، ولعل قمة الموقف قد تجسد في بعض البيانات الصادرة عن بعض العشائر والتي تهاجم سفير الولايات المتحدة الأمريكية في العراق الدكتور (زلماي خليل زاده) والذي تتهمه بعض الأطراف العراقية بإتهامات طائفية سخيفة وبكونه يسعى لإشعال الحرب الأهلية في العراق؟ إضافة إلى سلسلة متنوعة ولا تنتهي من الإتهامات الواهية والدالة على ضيق أفق وسماجة عقول بعض الأحزاب العراقية؟ كل ذلك لمجرد أن السفير الأميركي وهو مفوض من الإدارة الأميركية قد عبر عن حقيقة إستئثار قادة الأحزاب الدينية والطائفية بالكعكة العراقية ومحاولة فرض تصوراتها وتأخير إنجاح وتطوير العملية السياسية! وهي حقيقة يلمسها الشارع العراقي المفجوع بإنعدام الخدمات وبتدهور الأوضاع الأمنية وبإزدهار عصابات الموت والقتل والخطف والجريمة، بينما يصر قادة الكتل السياسية على التشبث بمواقعهم ومناصبهم وكأن العراق بأسره مجرد إقطاعية مسجلة لهم!! وهو تصرف لا يختلف عن ممارسات وأساليب نظام صدام البائد وعصابته النافقة من البعثيين، فخلال الأيام الأولى من سرقة البعثيين للسلطة في العراق عام 1968 رفعوا شعارا مجلجلا يقول: { لا طائفية و لا عشائرية في عراق البعث }!!، ولكنهم على مستوى التجربة التطبيقية لم يكونوا أبدا أمناء لهذا الشعار، بل مارسوا سياسة معاكسة بالكامل تمثلت في تشجيع العشائرية وتنمية الروح والمشاعر الطائفية وهو ما أدى في نهاية المطاف لكل هذا الخراب العراقي الذي نراه جاثما على صدور العراقيين؟، واليوم يجنح السياسيون العراقيون صوب العشائر في صراعهم مع بعض الأطراف الأميركية، فقد أصدر مجلس عشائر بابل تحذيرا للحكومة الأميركية يطلب منها سحب السفير الأمريكي الحالي بحجة أصوله البشتونية وعدائه لمذهب (أهل البيت)!! وهي حجة مضحكة وسقيمة سبق وأن كتبنا عنها في مقال سابق بعنوان (عراقية السفير الأمريكي)! وإنني في الوقت الذي أعجب فيه من بيانات العشائر المثيرة للشفقة والغثيان فإنني أستذكر مواقف الجبن المهينة لرؤساء تلك العشائر أمام رئيس النظام البائد الذي كان يمعن في إذلالهم بطرق شتى معروفة ومخجلة أيضا دون أن يجد ردا منهم!؟ وهي صفحات سوداء ومخزية في التخاذل نعرفها جميعا ولا نرى داعيا لإستحضارها؟، المهم أن إستعمال العشائر في الصراع السياسي هو ظاهرة من ظواهر التخلف الإجتماعي ودليل آخر مضاف على فشل الأحزاب الدينية والطائفية التي باتت ممارساتها تهدد وحدة العراق ومستقبل شعبه ... فهل سيكون (مجلس قيادة العشائر) هو الشكل الجديد لديمقراطية الأحزاب الدينية الحائرة أمام واقع العراق الجديد المعقد والمتداخل؟.. العراق يسير اليوم أمام منعطف تاريخي حاسم وسيكون الفشل المأساوي هو النتيجة الحتمية لمن يسلم الأمور لشلة من الجهلة والطائفيين والمتخلفين تاريخيا... إنها ساعات الإمتحان العراقي الصعبة.

[email protected]