إما أن ينخرط المثقف الفلسطيني في السياسة، فينغمس كلياً في أوحال الحياة، وإما أن يعتكف في بيته (غير العاجي بالمناسبة) ويتفرّغ لمشروعه الإبداعي. ولا خيار وما من خيار ثالث أمامه. أمران كلاهما مرّ، بالطبع. فواجبه الأخلاقي تجاه قضيته وواقعه المعقد، يمنعه ضميرياً من الابتعاد عن هموم الناس ومشاغل الوطن السليب. وفي الجانب الآخر، فإنه لا يستطيع حمل بطيختين بيد واحدة: بطيخة الأدب وبطيخة السياسة. فماذا يفعل؟ وكيف هو الطريق إلى حل ثالث لا يجوع الذيب معه ولا تفنى الغنم؟
لم أشعر بثقل هذه الإشكالية، إلا بعد عودتي من زيارتي الوحيدة لفرنسا. فقد ذهبت إلى هنالك، في شأن شعري، وكنت أظن أنني في وارد مسألة إبداعية خالصة، لكنني فوجئت، أنا نصير مسألة التفرغ للإبداع، والابتعاد ما أمكن عن وحول وألاعيب السياسة، بتركيز الفرنسيين، سواء من كانوا مشرفين على المهرجان، أو غيرهم من الصحافيين الثقافيين والإعلاميين العادين، بل وحتى عموم الناس هناك، على كوني فلسطينياً بالتوازي مع كوني شاعراً، وفي حالات معينة غير قليلة، على دعوتي للحديث أمام الجمهور ووسائل الإعلام، بصفتي مواطناً فلسطينياً جاء من داخل أرض الصراع الساخنة، ونسي هؤلاء مسألة الشعر والشاعر. حتى ليصح العتبُ وتصح العتبى على طريقة عمنا المرحوم شكسبير: حتى أنتِ يا فرنسا!

نعم: حتى العمة الكبرى فرنسا، صاحبة أعلى صوت في الحداثة وما بعدها، وفي الشعر البرناسي وغير ذلك مما يشبهه، تناديني كفلسطيني لا كشاعر، في غير مرة!
والحق إنني لو كنت أعلم بهذا مسبقاً، لكنت ربما أرحت نفسي ولم أتكبّد عناء سفرة عوليسية، لأينَ منها أهوال عوليس ذاته. فيكفي أن يعلم القارىء، أنني احتجت لكي أقطع عشرين متراً، هي المنطقة البرية الفاصلة بين حدود مصر وفلسطين، إلى الاستيقاظ في الرابعة صباحاً، وإلى الانتظار في صهد شمس الصيف، وأخيراً إلى عبور الجانب المصري، بعد تعرضي لعدة إذلالات من الجنود ومحققي الشاباك، وقد أوشكت شمس المغيب على الزوال!
يوم طويل كامل، وعرق وجوع وحرّ، بل نشفان ريق وعَمَيان نظر، لقطع مسافة، لا تحتاج، في الوضع الطبيعي، إلى ثلاث دقائق مشياً على قدمين بشريتين أو دقيقتيْن ركوباً على ظهر حمار كسول!
إنه إذاً قدر المثقف الفلسطيني، بصفته مواطناً ومثقفاً ينتمي إلى بقعة صراع ساخنة ملتهبة. بقعة هي قلب العالم وصندوق أسراره الأسود، (على الأقل كما يقال!) ومع ذلك، وبفضل تعقيدات السياسة وأهوائها، صارت هي الهامش وهامش الهامش البعيد!
أقول، عدت من فرنسا، وقد جرت في طبقاتي الجيولوجية، مياه كثيرة. إذ انتبهت، إلى مسؤوليتي الأخلاقية، كمثقف، تجاه هذه المأساة، ذات الفصول المتعددة المتجددة. حتى بدا خياري السابق، واطمئناني إليه، كرجل عزلة، لا يهمه سوى الكتابة الأدبية، عابرة الزمن، خياراً مشكوكاً به ويفتقر إلى المضمونية، في أرض، هي بالذات، أرض طوفان.
إن الفلسطيني، مواطناً ومثقفاً، هو أبعد الناس طراً عن هذا الخيار. ذلك قدره، ولو حاول التعالي عليه، وتناسيه، فسيذكّره به، حتى الفرنسيون البعيدون. هؤلاء المتطرفون في حداثتهم الفنية والفكرية، كما هي حداثتهم الاجتماعية، فعلى أي جانب يا صديقي تميل!

عدتُ إلى بلادي، لأرى، ما تعوّدت على تجاهله، والنأي بنفسي عنه: غول الفساد والبيروقراطية وغول تآكل المجتمع الفلسطيني من الداخل. فالسلطة بحزبها الحاكم المتفرد الفاسد، هزمت شعبها داخلياً، سواء بقصد أو بدونه، فسهُلَ على عدوها الخارجي الإجهاز عليه، بأقل الوسائل تكلفة، وأيسرها بالمطلق. ذلك أن أي شعب مهزوم داخلياً، من السهل الإجهاز عليه خارجياً. لذا، رأيت أن من واجبي مقارعة غول الفساد، من منطلق وطني في المقام الأول. وكنت، في الشهور الأولى لتكوّن جسم السلطة الإداري، قد رأيت نذراً غير مشجعة، فانبريت لها، تقريعاً وسخرية ولوماً، في الصفحة الأخيرة من صحيفة الحياة الجديدة، المقربة من السلطة. لكني آثرت آنذاك، ألا أنغمس كلياً في متاهة وتسطيح اللغة الصحفية العارية، فاستعنت بمخزوني الأدبي والفني، وكتبت بلغة جديدة، أقرب إلى الأدب الساخر والسوداوي، منها إلى لغة العمود الصحفي المعهودة. ما كلّفني مزيداً من المشقة، في كتابة عمود يومي صغير، أقرب على الومضة، ولهذا أعطيته هذه الصفة. لكن ومضاتي تلك، لم تؤد الغرض، وبقيت في وارد الأدب والفن والفكر وأحياناً الفلسفة. وما شجعني على ذلك، هو ثقتي الكاملة، بأن أباطرة العهد الجديد، لا تعنيهم الكلمة، حتى لو كُتبت بماء القلب أو دم الوريد. فالمرحلة مرحلة هبْش ولطْش، والشاطر من يهبش ويلطش أكثر. إن من الحكمة، في حال كهذا، ألا يحمّل المرء كلماته ما لا تحتمل. لذا، يئست بعد سنوات، وعدت إلى عزلتي، كما تعود الزوجة الحردانة إلى بعلها، بعد أن ذاقت صنوف الضيق والتبرم من أهلها الأقربين.

عدت إلى رحمة الفن، بديلاً عن قسوة الواقع. وظللت غارقاً في هذا الوهم (الفقير لكنْ الرحيم) سنوات وسنوات، إلى أن قيّض لي زماني زيارة جنوب فرنسا. كان غول الفساد، خلال هذه السنوات الرمادية، قد صار أسودَ تماماً، ومرعباً تماماً، وكامل الخِلْقة وشائهاً تماماً. وكانت الناس قد ضجّت منه، وقرفت من رموزه، وأعلنت غضبها الجامح، على كل (كلب) من هذه الكلاب المسعورة، التي توغل في دم ولقمة الناس، دون رادع من ضمير أو قانون، علناً وعلى رؤوس الأشهاد.

كنتُ أستمع وأرى، ثم أنظر إلى شريحة المثقفين، فأراهم إما سلبيين تماماً، ولا تعنيهم سوى مصالحهم الشخصية الصغيرة، وإما مقهورين قرفانين متألمين، وما بيدهم حيلة. فالسلطة تهمّشهم وتضطهدهم، ومثقفو السلطة، يمارسون عليهم استعلائية وعنجهية من هو قريب من مراكز القرار. أي كان ما يجري لدينا وعندنا، نسخة فوتي كوبي مما كان يجري قديماً، في دول الجوار. شيء لا شك مؤسف ومؤس، ولكنه، مع ذلك، يحدث يومياً، فيلقي مزيداً من الصديد على الجرح المفتوح المزمن. إسرائيل المحتلة الكولونيالية العاتية من جانب، وسلطة فلسطينية ولو اسماً من الجانب الآخر. وكلاهما يمارس قمعاً وقهراً على الفلسطينيين، ومن بينهم المثقفين. لكن إسرائيل، تفعل ما تفعل لصالح كيانها ووجودها، ورؤاها الاستراتيجية. فلمن ولصالح من يفعل ما يفعل هؤلاء السلطويون؟ لا شك كان السؤال جارحاً وحارقاً، وبالأخص، حين تعرف بأن هؤلاء يعملون لصالحهم فقط، على طريقة أنا ومن بعدي الطوفان، دون أن يُنقص ذلك من قدر مزايداتهم (الوطنية) وترديدهم لكليشيهات، أكل عليها الدهر وشرب وبال!

وكيل وزارة، مثلاً، يذلّ الأدباء، لكي يطبع لأحدهم كتاباً في وزارته المصونة. ووزير سياسي، فاشل في السياسة، ومحسوب على الأدب، وفاشل فيه أيضاً، فهو في أحسن الأحوال، كاتب تسجيلي، ومصور فوتوغرافي، مباشر وسطحي، إنما يمارس مهنته هذه المرة، بالكلمات لا بالكاميرا. والكل يعلم أنه تبوأ هذا المنصب، بفضل كتابته منشور عن رئيسه، حين تعرّض الأخير لمحنة الضياع في الصحراء الليبية. هذه هي كل مؤهلاته، وعلينا نحن سيئي الحظ، أن نحتمله ونتحمّله، إلى ما لا نهاية، بفضل ذلك الكتاب _ المنشور. آخر وكيل وزارة وشاعر معروف، ملأ الوزارة بالجهلة وغير ذوي الاختصاص، وأفسدها، فصار التافه فيها، والمحصن ضد المعرفة، يتحكّم في شؤون الشعراء والفنانين، ممن رماهم حسن تقديرهم المبالغ فيه للعمل في مكان (محترم)، فأصبحوا يعضون إصبع الندم على استقتالهم من أجل العمل في هذه الوزارة بالذات، ولم يذهبوا إلى مكان آخر، على الأقل لا يمارس الاضطهاد ضد الموهوبين من المبدعين. وزارة فاسدة لا يصل فيها ولا يترقى إلا من يجيد العمل ك (حذاء للوزراء). و (حذاء الوزراء) هذه، تسمية لمهنة راجت بين المثقوفين من الانتهازيين الفلسطينيين، فوصلوا عن طريقها إلى مراتب عليا، ليس أكثرها، مرتبة المدير العام، كما تعرفون.

كل هذا يحدث، ونحن لا زلنا بعد، محتلين ومدعوساً على رقابنا، ولا يتحرك رئيسنا ذاته، إلا بتصريح من مجند إسرائيلي بسيط أو مجندة بوهيمية تعلك لبان الشيكلتس، لتقتل ضجرها على الحواجز. فإذا كان هذا هو حال وزارة ثقافة، فما بالك بما يحدث في وزارت أخرى، استولى عليها الرعاع، غير المؤهلين، إلا بتأهيل واحد وحيد، هو القرب من هذا المسؤول أو ذاك؟ لقد كتبتُ، على ما أتذكر، ومضة صغيرة، في السنوات الأولى لتكوّن السلطة، قلت ما معناه: إن كل ما يجري في الأراضي الفلسطينية جدير بشيء واحد فقط هو: الاحتقار. ويومها فاع عليّ أحد كبار الأباطرة، ممن ينظرون إلى الشعب وبقايا الوطن، كرهائن لديهم، موبخاً ومزبداً: بأي حق تكتب هذه السموم ونحن مَن وظّفناك! يريد الأخ أن يعيّرني بلقمة عيش متواضعة، هي حقي كمواطن فلسطيني، مثل غيري من المواطنين الفلسطينيين. ما يعني أنهم فعلوا معي معروفاً، فوظفوني، رغم أني لست محسوباً على حزبهم، ولا على أي حزب آخر، وفي هذا المسعى، ما فيه من كرم وأريحية ومنّة مسؤولينا الكبار الخلوقين. قلت له: لقد كنت أعمل شيف حلويات غربية داخل المدن الإسرائيلية وفي الفنادق الكبرى هناك، وكنت أكسب في الأسبوع، ما لا أكسبه عندكم في شهر، فبأي معروف ومنة تتبجّح عليّ؟ استحِ يا رجل. لكن الرجل مثل غيره، خلع برق الحياء والخجل والقيم النبيلة، ما إن وطأت قدماه المباركتان تراب وطننا الحزين.

جاؤوا جوعى، وأُتخموا. وكنا متخمين، وتحت حكمهم جعنا. هذا هو حالنا وحالهم باختصار مخلّ، تقتضيه مقتضيات الكتابة في مقال محدود.
.... ولنا عودة.