نعتقد أن هذه هي آخر حروب إسرائيل. إما أن تنتصر فيها وتفرض سلمها على عالم عربي استسلم بمعظمه لها من زمان، أو أن تُهزم في لبنان، فتكون بداية موتها كما حذر من ذلك شيمون بيريز. المعادلة صارت معروفة: تنتصر المقاومة إذا لم تُهزم بالضربة القاضية، وتُهزم إسرائيل إذا لم تنتصر بالضربة القاضية. استعراض سريع:
على الرغم من أن بعض الأصوات ما تزال تصر على أن العدوان الحالي هو نتيجة quot;مغامرةquot; حزب الله غير محسوبة النتائج، فإن الوقائع تشير إلى أنها حرب مقررة كانت تنتظر ذريعة. إذا كانت المقاومة لم تحسب حساب معركة من هذا الحجم وأثرها في المدنيِّين، فإن إسرائيل كذلك لم تحسب حساب ضراوة المقاومة وأثرها فيها جيشًا ودولة.
الخطر الأكبر على إسرائيل هو في ترجرج قيادتها السياسية والعسكرية. هآترز صوَّرت ما دار في اجتماع التصويت على قرار توسيع الحرب كما يلي نقلاً عن وزير حضر الاجتماع: quot;لو صوَّت كل وزير كما يتكلم لكان هناك أكثرية معارضة للمقترح. ولكنهم لم يصوتوا ضده لأنهم كانوا خائفين أن تظهر الشقوق في دعم جيش الدفاع الإسرائيلي للملأ، ولحزب الله. ولكن الشقوق موجودة وظاهرة للعيان. هناك خلافات بين أولمرت ووزير دفاعه بيريتز، وخلافات بين وزيرة الخارجية تسيبي ليفناي، ورئيس الأركان حلوتس، وأخرى بين رئيس الموساد داغان ورئيس شعبة الاستخبارات آموس يالدين، وبين وزير الدفاع الحالي بيريتز والسابق موفاز، وبين موفاز وآفي ديختر. كل من الموجودين في الاجتماع الوزاري كان معنيًا في خلاف أو أكثر.quot;
أثناء كتابة هذا المقال، وردت أخبار عن تعليق الحكومة الإسرائيلية قرارها توسيع العمليات البريَّة. وكذلك وردت أخبار عن خسائر جديدة لها في مرجعيون والخيام، أدَّت إلى انسحاب القوة المهاجمة. إذا عطفنا هذه الأخبار على تغيير قائد الجبهة الشمالية في منتصف المعركة، تبدَّى لنا رأس جبل جليد التخبط الإسرائيلي وترجرج قادتها.
الخطر الأكبر على المقاومة وعلى لبنان هو من الترجرج العربي وانتهازية بعض اللبنانيين. منذ عقود وقادة الدول العربية مستكينون إلى quot;واقع حالquot; الهيمنة الأميركية، ومشدوهون أمام خفة يد المؤسسة الإسرائيلية وقدرتها على فرض تغيير مستمر في الأجندة الدولية منذ أوسلو إلى خريطة الطريق. في المقابل، ومنذ التحرير، كانت المقاومة في الجنوب تهيِّئ نفسها ليوم المعركة. نعتقد أن الدول العربية لم تستوعب بعد أن الاستكانة والاندهاش لم يعودا يجديان، ولا إلى أبعاد صد المقاومة للهجوم العسكري طوال شهر كامل وانعكاسات ذلك على المجتمعات العربية. هذا الترجرج انعكس في تعامل الدول العربية مع المعركة منذ بدايتها والأداء دون المستوى للوفد العربي في اجتماع مجلس الأمن الأخير. الانتهازية اللبنانية، تبدت فيما حذر منه غبطة البطريرك صفير منذ أيَّام، وفي بعض التصريحات التي لا تتوقف عن التشكيك في المقاومة ودورها وquot;لبنانيتها.quot;
خسارة المقاومة تشكل خطرًا على لبنان. كيف؟ بعد الخسائر العسكرية والنفسية التي أنزلتها المقاومة في صفوف الإسرائيليين، لا يمكن في رأينا أن تنتصر إسرائيل عسكريًّا على المقاومة بالضربة القاضية ولكن يمكن جرَّها إلى خسارة سياسية في حال لم تكن المؤسسة السياسية في لبنان على مستوى صمود المقاومة. هذا ما نوَّه به السيد نصر الله في خطابه أمس، إذ حذَّر من مغبّة الخروج على إجماع quot;النقاط السبع.quot; الضغوط الأميركية على الدولة اللبنانية ستستمر بهدف إحداث ثغرة سياسية تمهِّد لعزل المقاومة وإضعافها. في هذا خطر كبير على لبنان. فإذا كانت إسرائيل تسعى للتعويض عن خسارتها العسكرية بنصر سياسي، فإن المقاومة لن تقبل أن يتحول نصرها العسكري إلى هزيمة سياسية.
في المقابل، يمكن أن يشكل انتصار المقاومة خطرًا عليها لبنانيًّا وعربيًّا. لبنانيًا، ومع تأكيد المقاومة أنَّ النصر هو للبنان، لكل لبنان، وللعرب، ولكل الشرفاء في العالم، هناك أصوات لا تني تسأل عمَّا بعد انتصار المقاومة؟ وسؤالها على خطين طائفي وسياسي. هناك من يخاف في لبنان أن يؤدي انتصار حزب الله إلى قيام دولة دينية فيه، وسياسيًا هناك من يخاف على التركيبة الإقطاعية الطائفية وتوازناتها والشراكات المتبدلة المرتكزة عليها. هذا الخوف بعضه طبيعي نتيجة تاريخ لبنان وتركيبته الطائفية، ولكن بعضه الآخر مفتعل وغير صادق في طرحه.
أمَّا عربيًّا، فالأمر أدهى. إن انتصار المقاومة يعري الأنظمة العربية ويكشف عجزها، ويعطي أملاً جديدًا للفلسطينيين، ويدفع المواطن العربي إلى التساؤل عن أمور كان يأخذها على أنها من مشيئة الله لا يمكن تغييرها، مثل أزلية الحكام العرب وحتمية الهزيمة أمام إسرائيل. هذه التعرية هي ما يجب أن تخشى المقاومة منه، ومن انعكاسه عليها، لا سيما إذا تلاقت الإدارة الأميركية ndash; الإسرائيلية والأنظمة العربية والانتهازية اللبنانية على رؤية موحدة لخطر المقاومة على كل منها.
وبعد، لا شك في أن هناك خطرًا كبيرًا في أن تتمدد الحرب إقليميًّا باتجاه سورية. لقد بات واضحًا اليوم أن الولايات المتحدة أرادت من الجمهورية العربية السورية أن تقوم هي بما تعجز إسرائيل عنه اليوم، أي نزع سلاح المقاومة. إن تكرار معزوفة quot;سورية تعرف ما يجب عليها القيام بهquot; في السنة ونصف الماضية التي رافقت المتغيرات الأساسية التي طالت لبنان منذ استشهاد الرئيس الحريري، تدل اليوم على ما كان مطلوبًا آنذاك، وتدل على المدى الذي كانت الولايات المتحدة مستعدة للذهاب إليه لإغراء سورية ndash; أو تهديدها - للتورط في حرب كالتي تعاني منها إسرائيل. سورية رفضت الإغراء، وأصغت للوعيد وخرجت من لبنان. بخروجها تعاظم الدور الإيراني في لبنان أضعافًا مضاعفة، وبذلك أهدت السياسة الأميركية انتصارًا ثانيًا لإيران في المنطقة، بعد أن أهدتها جائزة الرابح الأكبر في العراق. لن نستغرب أن تهاجم إسرائيل سورية هربًّا من هزيمتها في لبنان.
إن معزوفة quot;... يعرفون ما عليهم فعلهquot; التي تعزفها الإدارة الموحدة الإسرائيلية - الأميركية أمامنا سوريين وفلسطينيين ولبنانيين، تدلُّ على أن الحل الوحيد الذي تراه هو في دفع أطراف عربية لقتل أطراف عربية أخرى معارضة للاحتلال. هذه المعزوفة هي نتيجة ما سميناه في مقال سابق لنا باللغة الإنجليزية quot;Intellectual Incestquot; أو quot;السِفاح الفكريquot; بين مجموعات صهيونية ndash; يهودية ومسيحية - تعزل نفسها عن العالم، ولا تصغي إلا لنفسها، فتتلاقح وتنجب مسخًا بعد مسخ من السياسات أحادية الجينات الوراثية. هذه السياسات تهددنا جميعًا.
نختتم عمَّا نقول بهذه العيِّنة على لسان جون هاجي John Hagee، مبشر إنجيلي أقام حفلاً كبيرًا في واشنطن منذ أيام تأييدًا لإسرائيل تحت عنوان quot;معجزة آلهيةquot;، حضره عدد كبير من الجمهوريين، وأرسل إليه كل من الرئيس بوش والسفير الإسرائيلي في الولايات المتحدة رسالة شكر وتأييد. العبارة تقول: quot;إن دعوة إسرائيل كي تمارس ضبط النفس تخالف وثيقة السياسة الخارجية لله.quot; نعم إنها حرب إسرائيل الأخيرة.
التعليقات