نبتت البذرة الأولى للرهبنة المسيحية في مصر، ومنها انتشرت إلى جميع أنحاء العالم المسيحي، ورغم أن الأمر الإلهي للبشرية حسب ما جاء في سفر التكوين يقول: quot;أثمروا واكثروا واملأوا الأرض وأخضعوهاquot; تك 1 : 28، وهو الذي يشكل القاعدة العامة لحياة الإنسان المسيحي، وهي ما يتطابق مع تكوين الإنسان البيولوجي والفسيولوجي، الذي قادة بالفطرة عبر مسيرته الطويلة، قبل تعرفه على الأديان بآلاف السنين، إلا أن فكرة الرهبنة بصورتها المصرية الأصيلة كما أسسها الرواد الأوائل أنبا بولا وأنبا أنطونيوس مع بدايات القرن الرابع الميلادي، بصفتها هجر كامل للحياة الدنيا (أو موت عنها) والتفرغ لعبادة الله في مغائر الصحراء، هذه الفكرة لا تعدم أساساً إنجيلياً، بصفتها خياراً شخصياً لمن يستطيع ويريد، ومن يختارها يكون قد اختار نصيباً صالحاً، بالتوقف عن الانشغال بالعالم الفاني، والتفرغ لتأسيس علاقة روحية مع السماء، وهذا لا يستدعي منا أو من أي أحد مناقشة أو جدال، نظراً لأن المسيحية لم تحدد قالباً واحداً بتفصيلات دقيقة، تحشر فيه جميع المؤمنين، وتلزمهم جبرياً بكافة معالمه، وإنما توقفت المسيحية عند التوجهات العامة، التي تنحو للسمو الأخلاقي والتسامح والمحبة، ليتحقق للإنسان الوضع الأمثل، الذي خُلق عليه الإنسان في البداية quot;فخلق الله الإنسان على صورته. على صورة الله خلقهquot; تك 1 : 27، ليس في الطبيعة الإلهية، وإنما في كمال الأخلاق المتمثلة في مفهوم quot;الله محبةquot;، فبالحب خلق الله الكون وما فيه من كائنات، وبالحب وحده يصل الإنسان بممارساته إلى الصورة التي أوجده عليها الخالق في البدء، بحيث يمكن تلخيص المسيحية في عبارة واحدة، وكل ما عداها تفصيلات اجتهادية يجوز عليها النقاش والقياس، لتقدير مدى تطابقها مع القاعدة المسيحية الواحدة الوحيدة وهي: quot;أن كل ما يصدر عن المحبة ويؤدي إلى المحبة هو من الله، وكل ما يصدر عن غير المحبة ولا يؤدي إلى محبة هو من الشيطانquot;.
لسنا هنا في معرض السرد والتحليل التاريخي لبدايات الرهبنة المصرية وأسباب نشأتها ورواجها في القرن الرابع الميلادي وما تلاه، وإن كان المؤرخون قد أرجعوا هذا الرواج إلى عوامل شتى بالإضافة إلى العامل الروحي الديني، مثل الهروب من الاضطهاد الديني بعصوره المتعاقبة، وما ذهب إليه البعض من عصر جدب جنسي ساد في مصر في بعض الفترات، ربما نتيجة شدة وطأة الفقر، المهم أن الرهبنة المصرية أخذت في صورتها الأولى شكل الانعزال الفردي (أو الموت) عن العالم للتفرغ للعبادة، ثم أخذت على يد الأنبا باخوميوس أب الشركة (292- 348م) شكل الحياة الجماعية وفق قواعد وقوانين صارمة، أخذت مع الوقت تزداد كماً وصرامة، تحت مظلة الطاعة العمياء غير المشروطة من التلميذ لأبيه الروحي أو معلمه أو رئيس الجماعة (الدير)، وهذا أيضاً لا يستدعي منا نقاشاً أو جدلاً، طالما أن الانضمام لسلك الرهبنة قائم على الاختيار الحر، مع إمكانية ارتداد الفرد عنه، دون أن تترتب عليه بناء على ذلك آثاراً سلبية تذكر.
لكن الأمر لم يقتصر في يوم من الأيام في الماضي البعيد أو القريب أو الحاضر على ما ذكرنا، فانقطاع الرهبان (أو موتهم) عن العالم، رغم أنه الأساس لحياتهم وتكوينهم وتربيتهم النفسية، إلا أن هذا المبدأ لم يتم احترامه بصرامة يوماً ما، فقد كانت قيادات الرهبان دائماً على اتصال بقيادات الكنيسة وشعبها، وكانوا يخرجون حين يتم استدعاؤهم، أو يروا هم وجوب ذلك، للتدخل في الصراعات الدائرة في العالم (الذي ماتوا عنه) لينصروا هذا الطرف على ذاك، وهذا يختلف بالطبع جذرياً عن الرهبنة الخادمة التي عرفها الغرب المسيحي، والتي نذر فيها الرهبان أنفسهم لخدمة البشر باعتبارها هي العنصر الأساسي في عبادة الإله، فانتشر الرهبان الكاثوليك في أنحاء العالم يحملون مشاعل العلم والعلاج والغوث للمنكوبين والضعفاء في مجاهل المعمورة في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، وبالتالي لم تكن فلسفتهم الانقطاع أو الموت عن العالم، وإنما تكرس حياتهم لخدمة هذا العالم، فكانوا ومازالوا جزءاً منه، ولنقل أنه الجزء الخير والمنير، وبالتالي كانت ثقافتهم وتكوينهم النفسي يتسق مع رسالتهم، أما رهبان مصر فكانوا أشبه بميليشيات عسكرية غير مسلحة، لكنها بأعدادها وبقدرتها على حشد الجماهير ذات وزن لا يستهان به في الصراعات الداخلية بين المصريين، والتي لم تنقطع طوال الحكم الروماني، وقد فعلوا هذا بقيادة الأنبا أنطونيوس لمؤازرة أثناسيوس في صراعه مع آريوس، وتكرر هذا عبر مراحل التاريخ القبطي الحافل بالصراعات التي أخذت شكل الخلافات العقائدية أو اللاهوتية، ورغم أن الاستدلال بحوادث التاريخ لإسقاطها على الحاضر ليس دائماً عملاً منصفاً وعلمياً، لأن السياق يختلف جذرياً بين الماضي والحاضر، إلا أن حادثة مأساوية تلح علينا لاسترجاعها وتدبرها رغم مرور ستة عشر قرناً على حدوثها، فهي تدلنا وإن بفجاجة عن ثقافة الانغلاق والتعصب التي يمكن أن تترعرع في ظل الانعزال في الصحراء، وفي ظل نظم وتعاليم شمولية تدعي امتلاك الحقيقة المطلقة، حتى لو كانت في عباءة المسيحية التي هي بالحق محبة خالصة.
هي قصة quot;هيباشياquot; فيلسوفة الإسكندرية الجميلة، تلقت quot;هيباشياquot; مبادئ العلوم عن والدها quot;ثيونquot; الذي كان يقوم بتدريس الرياضيات والفلك في المتحف، ثم دخلت عالم الفلسفة علي مذهب مدرسة الأفلاطونية الحديثة التي نشأت في الإسكندرية، وتصف دائرة المعارف البريطانية quot;هيباشياquot; بأنها فيلسوفة مصرية وعالمة في الرياضيات، واجتمعت لها الفصاحة والتواضع والجمال مع قدراتها العقلية الممتازة، فجذبت عدداً هائلاً من المعجبين بها، وبلغ من رباطة جأشها، ودماثة أخلاقها الناشئين عن عقلها المثقف أن كانت تقف أمام قضاة المدينة وحكامها، دون أن تفقدshy; وهي في حضرة الرجالshy; مسلكها المتواضع المهيب الذي امتازت به عن غيرها، والذي اكسبها احترام الناس جميعاً.
أول مارس سنة 415 م، أيام الصوم الكبير والطريق مظلم أشد الإظلام، الصحراء المصرية بالقرب من صحراء النطرون، عربة يجرها حصانان يعترضها جمع من الرهبان المنتظر على الطريق منذ فترة طويلة ويخفيهم ظلام الليل وملابسهم السوداء، وفجأة يهجمون على العربة وبقسوة ووحشية يفتحون بابها، ويجذبون امرأة بارعة الجمال، رشيقة القوام، ذكية العينين، ساحرة الوجه، ويجرونها جراً ويذهبون إلى كنيسة قيصرون، حيث تقدمت مجموعة منهم وقاموا بنزع ثيابها حتى تصبح عارية كما ولدتها أمها، ثم تقدم أحد الرهبان، بطرس قارئ الصلوات، وبمساعدة بعض الرهبان الذين أمسكوا الجسد العاري تماماً وشلوا حركته، وبسكين حاد النصل وبيد لا ترتعش ذبحها بطرس ذبح الشاة، ولم يكتف الرهبان بذلك، بل عكفوا على مهمة بالغة الغرابة وغير مسبوقة، بتقطيع الجسد إلى أشلاء مستمتعين ومنتشين بما يفعلون، ثم أمسكت كل مجموعة شلواً بعد شلو، وراحت تكشط اللحم عن العظم بمحار حاد الأطراف، وفى شارع سينارون، أوقدوا ناراً متأججة وقذفوا بأعضاء جسدها وهى ترتعش بالحياة، هكذا كانت نهاية الفليسوفة المصرية العظيمة quot;هيباشياquot;.
لا نريد أن نلمح من هذه القصة إلى وصف رهبان اليوم بما اتصفت به تلك الزمرة التي ارتكبت تلك الجريمة في بدايات القرن الخامس، فالبون شاسع بين العصرين زمانياً وثقافياً، لكن ما نريد إلقاء الضوء عليه هنا، من حيث تأثير تدخل قوة الرهبان في مجريات الأمور الدنيوية، هو طبيعة هذه القوة الخاصة، فهي ليست مكون طبيعي من مكونات المجتمع، تختلف في هذا الملمح أو ذاك لكنها ضمن دائرة الحياة المدنية، كحالة رهبان الخدمة الغربيين، إنما هي قوات خاصة، تحيا حياة جافة أشبه بالحياة العسكرية، ومبرمجة ثقافياً على فكر أحادي صارم يزعم لنفسه امتلاك الحقيقة المطلقة، ويقوم على مبدأ الطاعة العمياء التي لا تعرف المناقشة أو المراجعة، وهو ما قد يعده البعض ضرورة لانتظام الحياة الرهبانية، لكنها في معرض الفكر المسيحي لحياة المؤمنين العاديين أمر استثنائي وخارج عن السياق، وبالتالي يكون التدخل الرهباني في أمور العالم ليس فقط خلطاً للأوراق الدينية والدنيوية، لكنه بمثابة غزو عسكري صحراوي، ليس فقط لمصر الخضراء، ولكن أيضاً لفلسفة الحياة المسيحية، القائمة بالأساس على الحرية المتمثلة في ثلاثة مبادئ:
middot; quot;كل الأشياء تحل لي ولكن ليس كل الأشياء توافقquot; 1كو6 : 12.
middot; quot;كل الأشياء تحل لي ولكن ليس كل الأشياء تبنيquot; 1كو 10 : 23.
middot; quot;كل الأشياء تحل لي لكن لا يتسلط علي شيءquot; 1كو 6 : 12
هذه الحرية هي ما يسميها الكتاب quot;حرية مجد أولاد اللهquot;، فهي حرية الإبداع والبناء وتعمير العالم، وهي النقيض لحياة العزلة وفرض الرأي الواحد والرجل الواحد، الذي يتحكم في مصير شعب يعيش في العالم، ويستمد منه خبراته المادية والروحية، التي تختلف تماماً عن روحانيات النساك في الصحارى ومغائر الجبال، ومن هنا علينا أن نعيد النظر في القرن الواحد والعشرين في النتائج التي تترتب على قيادة الرهبان لمختلف أنشطة كنيسة توسعت صلاحياتها وأنشطتها كثيراً عن الكنيسة الأولى، وتعقدت احتياجات شعبها المادية والحضارية، والقصد بالطبع ليس استهداف أشخاص الرهبان، وإنما الثقافة التي حكمتهم فترة طويلة وخطيرة في حياتهم، والتي شبهناها بالثقافة العسكرية، وإذا كنا جميعاً نتحدث في ضرورة وضع نهاية لحكم مصر سياسياً بواسطة العسكريين، فإن مسألة حكم الكنيسة من قبل الرهبان جديرة بالبحث، فربما هذا هو المدخل لحل مشكلة الزواج والطلاق في الكنيسة الأرثوذكسية، بالإضافة إلى مشكلة ثقافة الانعزال وأحادية الرأي والخضوع والديكتاتورية، تلك المشاكل التي إن تغاضينا عليها اليوم فلن يحتملها الغد.

[email protected]