تقوم الدول الحديثة على ما يُعرف بمبدأ حكم القانون (rule of law)، ويعنى ذلك أن يكون للدولة دستور، ينبنى عليه ويتفرع منه نظام قانونى سليم. والدستور لفظ من أصل فارسى، انتقل إلى اللغة العربية بما يشير إلى القانون الأساسى، الذى يصدر من الشعب بنواب عنه، ويشتمل على المبادىء الرئيسية المعتبرة دولياً، وينظم سلطات الدولة الثلاث: التنفيذية، والتشريعية، و القضائية، وطريقة عمل كل منهم، بحيث يكون هناك فصل بين السلطات الثلاث. كما ينظم الدستور حقوق وواجبات كل من الحكام والمحكومين.
ويلى الدستور فى الأهمية قوانين بذاتها، مثل القانون المدنى وهو ينظم علاقات التـّعامل بين الأشخاص، الطبيعية والاعتبارية (مثل الشركات والهيئات والمؤسسات وغيرها، مما يضفى عليها القانون شخصية قانونية، فتعتبر فى نظر القانون كالأشخاص الطبيعيين لهم حقوق وعليهم واجبات). ثم القانون الجنائى (أو قانون العقوبات أو قانون الجزاءات) وهو ndash; بما يتفرع عنه من قوانين جنائية خاصة، يضع الحدود بين الأشخاص، بحيث يكون أى تجاوز لها جريمة يعاقب عليها القانون، حماية لأشخاص الناس وأموالهم وأعراضهم. ويلى ذلك فى الأهمية قانون الاجراءات المدنية (قانون المرافعات) وقانون الاجراءات الجنائية، وينظم كل منهم ndash; فى مجاله ndash; طريقة عمل المحاكم المدنية أو الجنائية، وأساليب التعامل معها أو الطعن على أحكامها.
والدستور والقانون ndash; أى قانون ndash; مجموعة من النصوص أو المواد. والنص ndash; أىّ نص ndash; لا ينطق بذاته و لا يفض معناه ولا يحسم فيما يقصده. ومن ثم احتاجت النصوص إلى من يفسرها أو يشرحها أو يطبقها. وقد فطن إلى ذلك على ابن أبى طالب، فكان يقول عن القرآن إنه quot;حّمال أوجهquot;، وقد نهى مشايعيه عن أن يجادلوا خصومهم بآيات القرآن، وقال فى ذلك إن القرآن لا ينطق بلسان، وهو ما يشير إلى أن لأى شخص أن يستنطق النصوص بما يراه، ولو كان غرضا أو مرضا، ولا يمكن مجادلته فى ذلك، لأن الجدال سوف يكون كلاما فى كلام، لا يحسمه شىء ولا يقطعه إلا السيف.
وفى تفسير النصوص عموما مدرستان، مدرسة تفسير النصوص على الظاهر، وأخرى تفسير النصوص بالتزام روحها وما قصدت اليه. وبين هاتين المدرستين الجادتين توجد مدرسة التلاعب بالألفاظ، والمجادلة فى كل شىء.
ففى عهد معاوية ابن أبى سفيان (الخليفة الخامس ومؤسس الخلافة الأموية) قتل أنصاره عمار ابن ياسر الذى رُوى أن النبى قال عنه (تقتله الفئة الباغية). فتلفـّف أشياع على ابن أبى طالب مقتله، ورددوا قول النبى تدليلا على أن أنصار معاوية هم الفئة الباغية، لكن هؤلاء ردوا القول بأن قالوا: إنما قتله من أخرجه إلى القتال فجعلوا بذلك من على ابن أبى طالب ومشايعيه quot; الفئة الباغية quot;.
ومعاوية هذا هو الذى قال: إنما أحكم بأمر الله، وردد فى ذلك الآية (يؤتى الحكم من يشاء وينزع الحكم ممن يشاء) وأضاف: لو لم يرد الله لى الحكم لنزعه منى، وهى مغالطة لم يستطع أحد أن يجادله فيها، وتشى بالسبب الذى قال عنه على ابن أبى طالب (القرآن حمال أوجه) ونصح مشايعيه ألا يحاجّوا خصومهم بالقرآن.
ويحلف القاضى قبل أدائه أعمال ولايته القضائية، يمينا بأن يحكم بين الناس بالعدل، وأن يحترم القوانين. ولهذا الحلف دلالات كثيرة منها ألا يمتنع القاضى عن الحكم بنص فى القانون مهما كانت وجهة نظره فى ذلك، لآنه ينتزع باقتناعه سلطة التشريع كما يغفل المحكمة الدستورية العليا، التى سوف يلى فيما بعد بيان عن اختصاصها. ومن جانب آخر فإن على القاضى أن يحكم بنص القانون، مادام ظاهراً واضحا، لا يحتاج إلى تفسير أو تأويل. فإن غمض النص أو زاغ معناه فإن على القاضى أن يستقصى المعنى الحقيقى له من قراءة الأعمال التحضيرية للقانون (وللقانون المدنى المصرى مجموعة من الأعمال التحضيرية، والتى تبين النص منذ أن تم اقتراحه، والمناقشات التى تمت بشأنه، والنتيجة التى انتهت إلى النص كما هو فى القانون). فإن لم يكن للقانون أعمال تحضيرية، لجأ إلى الظروف التاريخية التى ظهر فيها النص ليفهم منها سبب وضعه وما إذا كان هذا السبب يتلاءم مع الظروف التى استجدت أم لا ؟ وعليه إن وجد ضرورة لتفسير النص أن يلتزم التفسير المعقول الذى يقول به غيره ممن كان فى وضعه، ولا يلجأ أبدا إلى التفسير الغريب أو الشاذ، لأن المتقاضين وجمهور المتعاملين لم يتبعوا إلا المعقول فى فهم النصوص أو تفسيرها، وتطبيقها على غير هذا النحو فيه غدْرُُ بالمتقاضين وهدْرُُ لأسلوب التعامل السليم بين الناس.
وفى عام 1969م حين أصدرت السلطة ما يُسمى آنذاك بقوانين الاصلاح القضائى أنشأت ما سمته المحكمة العليا، ثم أُلغيت هذه المحكمة واسـْتـُبدلت بها المحكمة الدستورية العليا. واختصاص هذه المحكمة أساسا أن تحكم فى المنازعة التى ترفع اليها بعدم دستورية قانون أو نص قانونى، فتقدره وتعيّره (تضعه على معيار) النصوص الدستورية لترى ما إذا كان موافقا للدستور أم أنه على غير ذلك، فتحكم بعدم دستورية النص أو القانون.
وقد رأس هذه المحكمة فى مصر من كان يرى أن يتجاوز هذا الاختصاص الواضح فى قانونها، ليجعله كاختصاص المحكمة العليا فى الولايات المتحدة، والفرق بين المحكمتين كبير وخطير. ففى النظام القانونى الانجلو سكسونى - الذى تتبعه كل من انجلترا والولايات المتحدة ndash; يقوم النظام القانونى على ما يسمى بالسوابق القضائية (Precedences) أى إنه يكون للمحاكم أن تشرع أو أن تلتزم السوابق القضائية فى نفس الموضوع أو أن تخرج عنها بحكم تبين فى أسبابه وجهه نظرها. أما النظام القانونى المصرى (وباقى النظم القانونية) فهى تستوى على التشريع أو سن القوانين (Statute). ويكون سن القوانين بواسطة السلطة التشريعية، كما يكون التطبيق من ولايه السلطة القضائية.
وفى تجاوز المحكمة الدستورية العليا لاختصاصها، ومحاكاة المحكمة العليا فى الولايات المتحدة، استلبت سلطة التشريع وخرجت عن اختصاصها فـَصارت جهة تشريع، لا تتبع النظام المقرر فى وضع التشريعات، وتشيح عن حقوق الكثيرين ابتداء من السلطة التشريعية حتى رئيس الدولة.
وقد كان هذا التجاوز خاصة فى مسألة ايجار الأماكن (وهى مشكلة ظهرت فى الحرب العالمية الثانية، وكان من الضرورى أن تلتفت اليها الحكومات بحلول مناسبة، لكنها لم تـُحل حتى الآن). ولما تبينتُ هذا التجاوز الصارخ، وأدركت أثره على المجتمع، لم أعارضه بصفتى قاضياً، فلقد تركت القضاء منذ فترة، وولاية القاضى لا تكون كما أن كلمته لا تنفذ إلا فى نطاق اختصاصه القضائى (Jurisdiction). ولو أدرك الناس ذلك لما ساءلنى بعض السادة القراء عن أوضاع وأحكام لا صلة لى بها، ولا يكون رأيى عنها إلا رأى المفكر أو الكاتب أو الناقد، إذ لا ولاية قضائية لى بشأن هذه الأحكام أو المسائل. إنما شرعت قلمى بنقد أحكام صدرت عن المحكمة الدستورية العليا متجاوزة ولايتها، وتلحق أضرارا جسيمة فى المجتمع، لا تحمد عقباها.
ولعل رئيس الجمهورية قد قرأ المقالتين الأوليتين أو أنّ رأيى عنهما قدْ عرض عليه فطلب من وزير العدل الأسبق أن يجمع بى لتدارس الأمر ووضع حل لاصلاح قضائى شامل. ولما اجتمعت بالسيد الوزير أفصح لى بعد لأْىِ عن هذه المهمة، وقال لى: أنا وأنت مكلفين من رئيس الجمهورية بإجراء اصلاح شامل للنظام القضائى. وأثناء أن كنت أجلس معه اتصلت رياسة الجمهورية تليفونيا فقرر أن فلانا (وذكر اسمى باحترام شديد) موجود معى ونحن نبحث فى الأمر، كذلك اتصل به رئيس مجلس الشعب فكرر نفس الكلام وإن كان ذلك بتبسط فى الحديث. أدركت من هذا أن الأمر جاد، وأن رئيس الجمهورية انتبه إلى ما كتبته عن خطورة عدم تطبيق بعض القضاة نصُوصا بذاتها، كما انتبه إلى ما يؤدى اليه تجاوز المحكمة الدستورية العليا لاختصاصها من أثر سيىءجداً على النظام القانونى خاصة، وعلى سلطات الدولة عامة. فسألت الوزير: وماذا يرى فى ذلك ؟ قال أن تضع مشروعاً للاصلاح وأن أضع مشروعاً آخر، ثم نجتمع سويا بعد أسبوعين أو ثلاثة للتوفيق بينهما، والخلوص إلى وجهة نظر واحدة بشأن الاصلاح القضائى.
وضعت المشروع من جانبى، وانتظرت أن يتصل بى وزير العدل اسبوعين ثم ثلاثة ثم خمسة فلم يرد علىّ اطلاقا. اتصلت بالمدير الفنى لمكتبه فقال إنه سوف يحدثه فى ذلك ثم يرد علىّ، غير أنه لم يفعل.
كان وزير العدل قد لحظ أن رئيس الجمهورية يقرأ لى، وأنه طلب اليه أكثر من مرة أن يأخذ رأيى، كما كان قد طلب منه أن أضع مشروعا بقانون لمكافحة الأرهاب، فخشى وزير العدل من أن اكون البديل له وأن آخذ مكانه، مع أنى أومن بمقولة فولتير: ماذا يضرنى ألا ألبس تاجا ما دام فى يدى قلم ؟ فالقلم فى يد من يملك استعماله استعمالا صادقا هو تاج أكبر من منصب الوزير. لكن ماذا أقول ؟ لقد عانيْت من الحسد الكثير، حتى صرت من مظاليم القضاء، والشاعر يقول:

كل العداوات قد تـُرجى مودتها .. إلا عداوة من عاداك عن حسد

[email protected]

أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلاف تسبب ملاحقة قانونية