كأنما لا تكفي المشاكل والمآسي العراقية الراهنة لتضاف مشكلة جديدة كبرى قد تلهب المنطقة! هكذا فهمنا من تصريحات السيد وزير الخارجية العراقي الأستاذ هوشيار زيباري وهو بصدد التعليق على عمليات حزب العمال الكردستاني التركي الموجود في العراق داخل الأراضي التركية. الأستاذ هوشياري قال من قلب متألم، وحرص وطني وقومي، فهو كردي أيضا، بأن على مقاتلي حزب العمال ترك العراق لأهل العراق إذا لم يكفوا عن تنفيذ عمليات ذهب الآلاف من الأتراك ضحايا لها في مواجهات دامية.

أجل، ألا تكفي العراق والعراقيين هذه الأوضاع الجهنمية التي يمرون بها لكي يتعرض البلد لاجتياح عسكري خارجي سيشكل اختراق السيادة الوطنية، وسيزيد الأوضاع تعقيدا فوق تعقيد؟

بالإشارة إلى أية من هذه المشكلات الكبرى يمكن أن نبدأ ؟ هل بالعجز الحكومي، وانفراد السيد رئيس الوزراء باتخاذ القرارات الهامة؟ هل التدخل الإقليمي، وخصوصا من سوريا وإيران، والغزو القاعدي الذي يشجعه النظامان المذكوران، وأوساط خليجية نافذة، سياسيا وماليا؟ هل فقدان الأمن؟ هل فقدان الخدمات؟ هل الفساد المالي الذي أودى ب18 مليار دولارا كان يمكنها إعادة تعمير العراق، ووضع الحكومة العراقيل أمام التحقيق القانوني في معظم قضايا الفساد؟ هل الطائفية، ومحاولات قيام فيدراليات طائفية؟ هل انفلات المليشيات الحزبية، ولاسيما مليشيا جيش المهدي الإرهابي، التابع المطيع للمصالح الإيرانية؟ هل اختراق المليشيات لقوات الشرطة ومشاركتهم في الهجوم على القوات الأمريكية، التي تتعاون مع القوات العراقية في محاربة العنف والإرهاب، وإذ الحكومة تعتبر نفسها صديقة للأمريكان؟ ؟ هل في التردي المروع لوضع المرأة العراقية، ومطاردة المليشيات في البصرة وغيرها للنساء لحد الاعتداء بحجة quot;حشمةquot; الملابس، وفرض الحجاب رسميا حتى على التلميذات الصغيرات بعد قرار وزير التربية العراقي بفرض الحجاب على الطالبات، وهو ما أشرف على تطبيقه منذ أيام، حتى في باريس، وهو يزور المدرسة العراقية، ويشاهد بغضب شديد التلميذات بعمر الست سنوات غير محجبات؟ هل في المليوني مهاجر، والتهجير الطائفي الداخلي لآلاف العائلات العراقية؟ هل في التطهير الديني بحق للمسيحيين، والصابئة المندائيين، والحملات على الأيزيديين؟

ألا تكفي هذه المشكل والمآسي الكبرى لتزيدها التهابا مشكلة حزب العمال، وتسخين العلاقات مع تركيا في قضية هي تركية بحتة لا عراقية؟

نعم، إن أكراد المنطقة الموزعين على تركيا، والعراق، وإيران، وسوريا، والبالغ عددهم أكثر من ثلاثين مليون نسمة، لهم مشروعية التمتع بكل الحقوق القومية وفقا لميثاق الأمم المتحدة في حق تقرير المصير، ووفقا للإعلان الدولي لحقوق الإنسان. إن الجميع على علم تام بمعاناة أكراد العراق، ومآسي البطش والاضطهاد المستمرين، وحتى وقوعهم ضحايا للغاز القاتل؛ وفي تركيا تعرضت القومية الكردية لاضطهاد عنصري دموي، وحرمان من أبسط الحقوق، كما هم محرومون منها في سوريا؛ وفي إيران يواصل نظام ولاية الفقيه البطش بالأكراد بعد ما تعرضوا له زمن الشاه. في العراق هكذا كانت الحالة الكردية في معظم عهود العهد الملكي، ثم جاء عبد الكريم قاسم لينفتح عليهم، وليعتبر العراق شراكة بين القوميتين الكبيرتين، ثم تراجعت الخطوات بسبب انجرار القيادة الكردية لرفع السلاح ضد النظام، ثم انقلاب شباط الفاشي لعام 1963، وصولا لعهد صدام الذي انقلب على الوعود والاتفاقات ليشن سلسلة حروب داخلية ضد الشعب الكردي، حتى قيام فيدرالية كردستان في بداية التسعينات على أثر انسحاب حكومة صدام من الإقليم بتوهم أن الأمور فيه ستنفلت. هذه باختصار الحالة الكردية في البلدان الأربعة.

لقد ووجهت الأمة الكردية بالعنصرية المتعددة الجنسية، ومنها الشوفينية العربية التي لا تقر للكرد بأي من الحقوق. غير أنه، ولحسن الحظ، وجدت حركات وقوى سياسية تعترف للأكراد المجزأين حتى بحق تقرير المصير الكامل، ومنها الحركة اليسارية، وكل القوى الديمقراطية، والقوميون التقدميون كالحركة الاشتراكية العربية، وغيرهما، وبالمقابل تحمل بعض الأوساط وبعض المثقفين الأكراد هوس التعصب القومي الضيق، مما يضر بالقضية ضررا بليغا، وهو ما أدركته القيادات الكردية في العراق.

إن شرعية الحقوق الكردية لا تعني الانجرار وراء العاطفة، ولا ممارسة عمليات إرهابية يكون المدنيون ضحاياها الأوائل. وحقوق القضية الكردية لا يجب النظر إليها بصورة مطلقة بعيدا عن الظروف وتوازن القوى الدولية والإقليمية. إن للأكراد في كل بلد ظروفهم وأوضاعهم المتميزة، وإن حل مشاكلهم لا يمكن أن يتم إلا داخل البلد المتواجدين فيه، وبالتضامن مع شعبه والقوى الوطنية كافة، ولذلك رفضت القيادات الكردستانية العراقية الانفصال عن العراق، ورفعت شعار الكفاح العربي ndash; الكردي المشترك، وبالطبع نضيف إلى الشعبين كل الأقليات العراقية الأخرى، ومنها التركمان، والكلدو ndash; آشوريين.

إن المسألة كما نعتقد هي كالتالي:

أولا - إن قضية أكراد تركيا تحل داخل تركيا وليس باستغلال الضيافة الكردية في كردستان العراق لتكرار الاعتداء على أراضي بلد مجاور يرتبط اليوم بعلاقات تعاون مع الحكومة العراقية ومع القيادات الكردية في كردستان؛

ثانيا- إن العمليات الجارية من الأراضي العراقي تعتبر انتهاكا لسيادة دولة مجاورة، مثلما إن أي اكتساح تركي هو انتهاك للسيادة العراقية؛ وتركيا لا ترسل الإرهابيين للعراق كما تفعل إيران حتى تعامل هكذا؛

ثالثا ndash; إن هناك حدودا ومواصفات للتضامن الكردي ndash; الكردي. إن من الطبيعي أن يتضامن أكراد العراق مع مطامح الشعب الكردي في تركيا، وإيران، وسوريا، ولكن التضامن لا يعني القبول بوضع كوضع حزب العمال في استخدامه السلاح من داخل العراق. نقول سواء كان حزب العمال إرهابيا، كما يعتبره الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، أم لا، فإنه يبقى حالة تركية لا حالة عراقية، وليس من مصلحة العراق وكردستان ترك الأمور تسير كسيرها لحد اليوم، وإلا فقد تنفجر الأوضاع، وتتهدد مكاسب كردستان التي حققها شعبها بنضال طويل وشاق، وبعون غربي فعال منذ 1991؛

رابعا ndash; إن حل الأزمة يجب أن يكون سلميا بمشاركة الحكومتين التركية والعراقية، وحكومة كردستان، والولايات المتحدة، وبريطانيا. إن تركيا مدعوة لبذل جهود أكثر لكسب التأييد للحل السلمي لأن الحل العسكري لن يكون لا لصالح العراق ولا لصالح تركيا ولا للقضية الكردية عموما، بل، وكما قال الكاتب العراقي عادل حبة، فقد يهدد باشتعال الفتن الدامية في العراق بين القوميتين الكردية والتركمانية، وبتعقيد إضافي لمشكلة كركوك. نعرف أن الحل السلمي يواجه مقاومة شديدة من الشارع التركي الذي استفزه الكمين الذي قتل 12 جنديا تركيا، وأدى لأسر ثمانية، ومظاهرات الشارع التركي تنادي بالثأر، والمعارضة تتهم الحكومة بالجبن. رغم ومع كل هذه الصعوبات فإن حلا مشتركا وناجعا وسريعا هو الحل المطلوب، مع تفهمنا لمشاعر الشارع التركي.

في هذه الظروف الدقيقة جدا فإن مسؤوليات خاصة تقع على حكومة كردستان والقيادات الكردية كافة، من أجل ضمان عدم تكرار الهجمات من أراضي كردستان، ومطالبة حزب العمال بتسليم سلاحه لحكومة الإقليم والعيش في أمان، وإلا فمغادرة العراق، كما طالب الأخ هوشياري.

نعتقد أنه ليس من مصلحة شعبنا الكردي اعتبار القضية قضية كردية عراقية، ولا تجاهل العواقب الوخيمة لاستمرار الحالة الراهنة، ولا تجاوز مواقف الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، أصدقاء الشعب الكردي.

إننا نأمل بتوصل الجميع لحل يحافظ على سيادة كل من العراق وتركيا ويؤدي لتعزيز تعاونهما، ويخدم مصالح كل من أكراد العراق وتركيا.

لقد اتخذت الحكومات التركية في السنوات الأخيرة بعض الخطوات الجزئية في الانفتاح على الأكراد، ويوجد اليوم ما بين 20 نائبا كرديا أو أكثر في البرلمان التركي، والقوى القومية الكردية الواعية في تركيا مدعوة للعمل السلمي من أجل توسيع هذه الخطوات، وفي السير التدريجي نحو الحكم الذاتي مستقبلا. أما العمليات الدموية والعمياء، التي يذهب المدنيون أولا ضحاياها، فإنها تسئ إساءة كبرى وفي الصميم للشعب الكردي ومن شانها تسعير الموجة العنصرية في تركيا والنفخ في مشاعر العداء بين الطرفين.

هل سوف تسير الأمور بالاتجاه السليم؟


أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلاف تسبب ملاحقة قانونية