كثيرة هي الأمور التي لم يكن العقل البشري قادرا على تخيلها، وقبولها، وبالتالي توقع حدوثها. فما من امرئ في مجتمعاتنا كان له- قبل اختراع الراديو- أن يتخيل هذا الجهاز العجيب الرهيب! الذي كان حينها- بعكس اليوم- أصدق المتكلمين، وحجة الناس في الأخبار والمعلومات. لا بل حين دخل هذا الجهاز بلادنا، أدهش الجميع، وظن الكثيرون من رجالنا ونسائنا أن عفاريت تسكن فيه، وكل من كان يراه ويسمعه في ذلك الحين، كان ينظر في ثقوب التهوية الموجودة في جزئه الخلفي لعله يرى عفريتا من أولئك العفاريت الناطقة الساكنة فيه. وكان الناس يتجمعون حوله مستمعين مكذبين، غير مصدقين. وحين يشوش الإرسال ويطلق زمجرة متقطعة متتالية أشبه ما تكون بصوت الرعد، كانوا يخافون، ويحثون بعضهم بعضا على الابتعاد عنه أو قطع الطاقة عنه، خوفا من انفجاره، وحدوث ما لا تُحمد عقباه.
والشيء نفسه حدث في آخر خمسينات القرن العشرين حين دخل التلفزيون بلادنا، فكان الناس يتحلقون حوله ويدققون النظر من خلال ثقوبه الخلفية بغية رؤية الراقصين والراقصات، والمغنين والمغنيات. وكم من النساء في بعض البيوت أمرهن رجالهن أن ينزلن الأغطية على وجوههن خشية أن يراهن المذيع..
وكم استغربت حين قيل لي في مطلع سبعينات القرن العشرين، أن بلاد الكفار ستخترع آلة منزلية رخيصة الثمن على غرار آلة تسجيل الأغاني، لكنها تسجل من التليفزيون الصوت والصورة المتحركة معا، وتعيد بيسر وسرعة عرض ما سجلته.
أقول استغربت الاختراع، وبدأت أقلب الأمور في ذهني حول كيفية عمل تلك الآلة العجيبة، فتخيلت أن تحتوي على كاميرا تصور ما تعرضه شاشة التليفزيون، وعلى بكرة كبيرة من شريط فيلمي، تُحمض بعد التصوير في غرفة مظلمة، ليعاد عرضها بعد ذلك بواسطة آلة عرض صغيرة، تشبه إلى حد كبير الآلة المستخدمة في عرض الأفلام السينمائية. ولم يكن بإمكاني- أنا الهاوي الشغوف آنذاك بالتصوير الفوتوغرافي- أن أتخيل تسجيلا للصورة المتحركة بدون كاميرا، وأن أتخيل فيلما يتحول من نيجاتيف إلى بوزاتيف، بلا أدوية (تحميض) وبلا غرفة مظلمة، أو أن أستوعب حينها أن تسجيل الصورة، وإعادة عرضها، لا يحتاج لأكثر من سلك نحاسي يصل بين جهاز التسجيل والتليفزيون. ولماذا الاستغراب؟ فهل كان بإمكان أجدادنا قبل اختراع الهاتف، أن يتخيلوا رجلا يسكن في الربع الخالي، يتحدث مع رجل آخر يسكن شمال الأطلسي؟ لا بل يتحدث معه ويراه؟
لا شك أن جميع هذه المخترعات العظيمة التي يستخدمها اليوم شبابنا، بل قل أطفالنا، قد أضحت مفهومة آليتها، مقبولة من عقولنا، لكنها قبل اختراعها كانت مخالفة لتصوراتنا ومداركنا وبرمجة عقولنا. فهل كان لنا أن نتخيل مثلا أن بإمكان أية عيادة طبية، معرفة جنس الجنين- ذكر أم أنثى- وهو في رحم أمه؟ والقاعدة المتوارثة الثابتة في قلوبنا عقولنا تقول: (لا يعلم ما في الأرحام إلا الله خالقها وباريها).
وإذا كانت في تلك الآونة هكذا هي حدود مداركنا ومعارفنا، وقدراتنا العلمية والعقلية، ونحن أبناء النصف الثاني من القرن العشرين الذين عرفنا السينما، والمحركات البخارية، والطائرات، والكهرباء، والهاتف، والدولاب وغيرها من المخترعات.! فكيف كانت حال أجدادنا الذين عاشوا قبل ألف عام؟ كيف كانت مداركهم وقدراتهم العقلية؟ وكيف كانوا يفكرون ويعتقدون ويتخيلون؟
لم تعد قصص جون فيرن مجرد قصص وأوهام وحكايات خرافية، أو شطحات جريئة كما وصفها آنذاك أصحاب الخيال العلمي. فرواد الفضاء يدورون الآن حول العالم بأقل من ثمانين دقيقة، وليس بثمانين يوما كما تخيل (فيرن) وكان يأمل، وكذبنا تخيلاته.
في الشهر الرابع من هذا العام تناقلت وسائل الإعلام بعناوين بارزة، خبر اكتشاف علماء الفلك- بواسطة التلسكوب هاريس- لكوكب جديد يقع ضمن مجموعة (الميزان) الشمسية. وقيل أنه صالح للحياة البشرية، فحرارته معتدلة، وتجري على سطحه مياه سائلة. أطلقوا عليه اسم (c-581) يبعد عن الأرض مسافة (20) سنة ضوئية لا غير. ويدور حول نجم يُعرف باسم (القزم الأحمر). وقد قلب اكتشاف هذا الكوكب كل المفاهيم التي استبعدت العثور على كوكب صالح للحياة البشرية الأرضية. وقدر العلماء أن وزنه يعادل خمسة أضعاف وزن الأرض، وقطره وجاذبيته يفوقان قطر وجاذبية الأرض بمرة ونصف المرة، وحجم شمسه يعادل عشرين ضعفا لحجم القمر.
ولكن السؤال هو: هل من الضروري أن تكون شروط الحياة على الكواكب الأخرى مطابقة لشروط الحياة على كوكب الأرض؟ ألا توجد على أرضنا أشكال أخرى من الحياة لا تحتاج للأوكسجين، يُطلق عليها اسم البكتيريا الهوائية، ووجود الأوكسجين بنسبة معينة يعتبر ساما لها.! ألا توجد أنواع من البكتيريا تعيش في البراكين وأخرى تأكل الحجر، وبعضها الآخر ينتج الحديد؟ ألا تفرض علينا المعارف الجديدة التي نكتسبها كل يوم أن نجدد صور الحياة في أذهاننا؟
والسؤال الأهم: هل نحن وحدنا في هذا الكون الفسيح المترامي الأطراف الذي لا حدود له؟ ألم يخلق الله إنسا وجنا ليعبدوه إلا في كوكب الأرض؟ لماذا نشك في احتمال وجود حياة- قد تكون ذكية راقية، وقد تكون غبية- على كواكب أخرى في هذا الكون الذي تبلغ عدد مجراته في سلسلة درب التبان فقط عشرين مجرة، ضمن قطر مقداره مليون ونصف سنة ضوئية (السنة الضوئية هي المسافة التي يقطعها الضوء في سنة واحدة، وسرعة الضوء هي ثلاثمائة ألف كيلو متر في الثانية الواحدة) وإن عدد النجوم المقدرة في مجرة درب التبان وحدها هو ثلاثين مليار نجم، وكل نجم يدور حوله عدد من الكواكب. ومع هذا فإن النجوم التي يرصدها التلسكوب الإلكتروني ويقدر عددها ب (عشرة قوة واحد وعشرين، أي عشرة وأمامها إحدى وعشرين صفرا) تعتبر رقما صغيرا بالمقارنة مع أعداد السحب السديمية الحلزونية التي يرصدها ذاك التلسكوب!
آلاف السنين مرت والناس تؤمن أن الأرض مسطحة، وأن الشمس تدور حول الأرض، وأن كوكبنا هو مركز الكون، بالرغم من أنه كوكب عادي ضئيل الحجم، يبعد ثلاثين ألف سنة ضوئية عن مركز مجرة درب التبان، مما يعني أننا لسنا سوى جزءا لا يكاد يذكر في هذا الكون الذي لم يتم سبره حتى الآن. وقد يكون للحديث صلة.
[email protected]
أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلاف تسبب ملاحقة قانونية
التعليقات