الزيارة الملكية المفاجئة التي قام بها العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني للعاصمة السورية دمشق ولقائه الرئيس السوري بشار الأسد يوم الثامن عشر من نوفمبر الماضي، من الملاحظ أنها جاءت أياما قليلة قبل استحقاق مهم وهو انعقاد مؤتمر أنا بوليس الدولي حول السلام في الشرق الأوسط، وسواء كان العاهل الأردني يحمل رسالة أمريكية للرئيس السوري أم لا كما تناقلت بعض وسائل الإعلام، فقد أثمرت هذه الزيارة تفهم الجانب السوري للخلفية التي سينطلق منها مؤتمر أنابوليس بعد الاتصالات الحثيثة والزيارات العديدة التي قام بها العاهل الأردني لبعض عواصم القرار، وقد أعقب الزيارة الملكية قراران رئاسيان سوريان مهمان:

الأول: حضور مؤتمر أنابوليس

وكانت القيادة السورية قد أصرت على عدم حضورها المؤتمر ما لم يدرج موضوع الجولان المحتل على جدول أعماله، وقد لاقى هذا الإصرار تفهما عربيا وعالميا واسعا لأنه منطقي خاصة للدول والقوى التي تسعى فعلا لسلام شامل وعادل في الشرق الأوسط، وهذا ما عبر عنه أمجد العضايلة مدير الإعلام والمعلومات بالديوان الملكي الأردني قائلا: quot;إن الجانب الأردني ابلغ السوريين تفهم عمّان لموقف دمشق الرافض لمؤتمر أنا بوليس quot;، وهذا التفهم الأردني ينفي توصيف بعض وسائل الإعلام الزيارة الملكية الأردنية أنها تعني (كسر مقاطعة محور الاعتدال العربي لدمشق)، فهذا التوصيف حسب تحليلي لا أساس له من الصحة فمهما كانت التباينات في وجهات النظر السياسية بين الأقطار العربية فهي لم تخلق محور اعتدال و محور تشدد كما يحلو للبعض أن يوصّف، فالدول العربية وافقت بالإجماع على المبادرة السعودية للسلام التي طرحت في الدورة الرابعة عشرة للقمة العربية في بيروت في مارس من عام 2002 التي نصّت على إنهاء الاحتلال الإسرائيلي لكامل الأراضي العربية المحتلة عام 1967 مقابل السلام والاعتراف بدولة إسرائيل، وبموافقة كافة الدول العربية عليها بما فيها سورية أصبحت تعرف بالمبادرة العربية، وهذا يؤكد أنه لا يوجد (محور اعتدال) يريد السلام مع إسرائيل بأي ثمن و (محور تشدد) تحاصر جيوشه دولة إسرائيل، خاصة أن الاتصالات السورية الإسرائيلية العلنية والسرية المباشرة وعبر وسطاء دوليين لم تتوقف، حتى في ذروة الحرب الإسرائيلية مع حزب الله في تموز من عام 2006، وأعقب ذلك زيارة رجل الأعمال السوري الأمريكي الجنسية إبراهيم سليمان لإسرائيل في الثاني عشر من أبريل الماضي بدعوة من لجنة العلاقات الخارجية والدفاع في الكنيست الإسرائيلي، وقد نفت السلطات السورية علاقتها بهذه الزيارة أو أن يكون إبراهيم سليمان مبعوثا رسميا لينقل وجهة النظر السورية، إلا أن المفاوض الإسرائيلي (ألون ليئيل) اعتبر أن سليمان هو (رجل الدبلوماسية السرية بطبيعته وهذا مؤثر، وما يتوجب فعله الآن هو إفساح المجال أمام الجمهور الإسرائيلي لسماعه ومواصلة جمع المعلومات حول ما إذا كان التغيير الذي يشير إليه في سورية تغييرا حقيقيا)، وأكّد أن (سليمان أثبت في الماضي أنه مقرب جدا من القيادة السورية وأنه سيطلع إسرائيل على الأجواء السائدة في دمشق تجاه الإسرائيليين. في السنوات الثلاث الأخيرة تحدثنا معه ولم نكتف بذلك فقط إنما فحصنا الأمور بواسطة تركيا وسويسرا وتلقينا تأكيدات على التغير الحاصل في القيادة السورية تجاه إسرائيل). وفي الأيام القليلة الماضية أكدّ موقع الحركة السورية القومية الاجتماعية كما نقلت صحيفة الوطن الكويتية يوم السبت الموافق الأول من ديسمبر الحالي نقلا عن مصادر مقربة من وزير الإعلام السوري quot; أن روسيا تقوم بوساطة بين سورية وإسرائيل حيث يتم الإعداد لخطة تعطي لسورية السيادة على مرتفعات الجولان لكنها تسمح لإسرائيل باستئجار الهضبة الاستراتيجية لمدة طويلة quot;، و أيا كانت صحة هذه المعلومات فقد أعقب الزيارة الملكية الأردنية لدمشق الموافقة على إدراج احتلال الجولان السورية لجدول أعمال المؤتمر وحضور سورية ذلك المؤتمر، الذي أعاد لأذهان الجميع أنه لا سلام عادل في الشرق الأوسط بدون الانسحاب الإسرائيلي من كافة الأراضي العربية المحتلة: الفلسطينية والسورية واللبنانية، لذلك كان القرار السوري بالمشاركة في المؤتمر قرارا صائبا كي لا يقال أن سورية هي التي تعطّل مسيرة السلام في الشرق الأوسط، خاصة أن المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية تراوح مكانها منذ توقيع اتفاقية أوسلو عام 1993، ولا يمكن تحميل أي طرف عربي مسؤولية تعثر مفاوضات مسيرة السلام، وكان عدم حضور سوريا للمؤتمر سيعطي ذريعة إعلامية تستغلها إسرائيل لتحميل الجانب السوري مسؤولية هذا التعطيل، لذلك كان تقييم وزير الإعلام السوري السابق مهدي دخل الله للمؤتمر إيجابيا للغاية بعكس غالبية المحللين السياسيين العرب، فقد قال في مقابلة مع (راديو سوا) يوم التاسع والعشرين من نوفمبر الماضي: (بالتأكيد هو اجتماع دولي واسع ومرموق ولا يمكن أن يقال أنه فشل حتى لو لم ينتج عنه أي شيء. عكس التوقعات كانت نتائج المؤتمر مؤتمر أنابوليس أفضل بكثير، وكانت له إيجابيات معينة خاصة أنه أعاد مسألة السلام في الشرق الأوسط إلى الساحة الدولية والشيء الثاني أنه بحث قضية السلام الشامل وليس فقط الاتفاقات الثنائية.....لم ترد سوريا أن تخرج عن التضامن العربي وعن الإجماع العربي خصوصا في إطار مؤتمر المتابعة العربية ولطالما أكدت أنها مع الإجماع العربي، وهناك أمران مهمان الأول أن مؤتمر أنابوليس جدّد الاعتراف الدولي بدور سوريا وعدم إمكانية عزلها والأمر الثاني هو أن سوريا لا تخرج عن الإجماع العربي وأكدت للعالم أجمع أنها تريد السلام الشامل). وتصريحه هذا يؤكد تماما ما ذهبت إليه قبل قليل من أنه ليس صحيحا أن هناك معسكر اعتدال عربي ومعسكر تشدد وممانعة، فالكل مع الإجماع العربي الذي يؤيد السلام الشامل والعادل، لذلك كان تعليقه على الرفض الإيراني لمؤتمر أنابوليس والمظاهرات التي خرجت في طهران ضده هاتفة (اخجلي يا سورية):

quot; هذا موقف إيراني وكما تعلم أن إيران ضد عملية مدريد وهي ضد المفاوضات الإسرائيلية العربية بينما سورية كانت أحد أركان عملية مدريد، وتؤكد سورية دائما على المفاوضات وعلى عملية مدريد ومرجعيتها، وهذا خلاف قديم بين سورية وإيران وليس بالشيء الجديد quot;.

الثاني: الإفراج عن معتقلين وسجناء أردنيين

القرار الرئاسي السوري الذي أعقب الزيارة الملكية الأردنية وبناءا على طلب العاهل الأردني هو إيعاز الرئيس بشار الأسد للجهات السورية المعنية للإفراج عن 18 معتقلا وسجينا أردنيا من السجون السورية، وقد وصل السجناء المفرج عنهم يوم التاسع والعشرين من نوفمبر الماضي للحدود الأردنية مثمنين وعائلاتهم الجهود الملكية التي تابعت أوضاعهم وتوصلت للإفراج عنهم. وهذه الخطوة من الرئيس السوري بشار الأسد تحمل دلالات عديدة منها إعادة الدفء للعلاقات السورية الأردنية خاصة أنه وحسب تصريح وزير الإعلام الأردني ناصر جودة quot; أن هذه الخطوة تأتي بتوجيهات من الرئيس السوري وفي سياق الالتزام الأردني السوري الذي تمّ التأكيد عليه خلال زيارة الملك عبد الله الثاني للعاصمة السورية دمشق مؤخرا بحل قضية الموقوفين والمحكومين في البلدين quot;. ومن المهم مواصلة العمل من خلال اللجنة التي تتابع القضية من الجانبين، لأن عدد المعتقلين الأردنيين يناهز 250 شخصا، كان المحامي هاني الدحلة رئيس المنظمة العربية لحقوق الإنسان في الأردن قد أعلن في الثاني والعشرين من فبراير الماضي أسماء 52 منهم، كلهم موقوفين لأسباب سياسية أو أسباب مجهولة، رغم التزوير الفاضح الذي مارسه (عمار قربي) رئيس المنظمة الوطنية لحقوق الإنسان في سورية، هذا التزوير الذي كشفته جريدة (الحقيقة ndash; صحيفة سورية حقوقية علمانية):
www.syriatruth.org
يوم الأول من ديسمبر الحالي تحت عنوان:

فضيحة ترقى إلى حدود الجريمة يرتكبها ناشط حقوقي سوري لصالح تبرئة المخابرات السورية من دماء ومصير المعتقلين الأردنيين ومفقوديهم في السجون السورية

وجاء في التفاصيل أن عمار قربي قد صرّح لمراسل جريدة الشرق القطرية في دمشق نافيا أن يكون في السجون السورية معتقلون سياسيون أردنيون، مدّعيا أن كثيرا منهم دخل الأراضي السورية بصورة غير شرعية بهدف الهجرة إلى أوربا. وقد شنّت الصحيفة السورية المذكورة هجوما عنيفا عليه جاء فيه حرفيا: quot; وبغض النظر عما يظهره هذا التصريح من جهل فاضح بقضايا المفقودين في السجون السورية، ومن أمية فاقعة في أصول العمل الحقوقي، فإن تصريحا غبيا من هذا النوع (بافتراض حسن النية)، وإجراميا (بافتراض سوئها) يرقى إلى حد الجريمة بالمعنى الدقيق للكلمة، ذلك لأنه يبرىء المخابرات السورية والنظام السوري عمليا من المساءلة عن مصير عشرات المفقودين الذين اختطفوا وهم طلاب في جامعة دمشق أو أماكن عملهم في سورية بسبب صداقات مع معارضين سوريين يساريين (كما في حال الأخوين عبيدات، وفاء و هاني) أو بسبب الإدلاء في جلسات خاصة بأحاديث تناصر النظام العراقي السابق، كما في حال حاتم زريقات الذي كان يدير متجرا للأدوات الإليكترونية الصوتية والأشرطة في مدينة حمص السورية. هذا فضلا عن أن تصريحا أحمق من هذا النوع يشكل إهانة شخصية لهولاء يمسّ كراماتهم على نحو مباشر من حيث أنه يسبغ عليهم صفات جنائية وإجرامية رغم أنهم معتقلون ومختطفون لأسباب سياسية وأسباب تتصل بحرية الرأي والحريات العامة الأخرى quot;، وتورد الصحيفة السورية قائمة ب 52 أسما من هؤلاء المعتقلين، هي نفس الأسماء التي أعلنها المحامي الأردني هاني الدحلة سابقا.

وأستطيع القول القاطع أن الرئيس بشار الأسد والمخابرات السورية في هذه القضية تحديدا أصدق من عمار قربي، فلا يمكن أن يوافق الرئيس بشار على الإفراج عن ثمانية عشر معتقلا أردنيا، لو كانوا معتقلين لأسباب جنائية وبحقهم أحكام قضائية صادرة عن محاكم عادلة، لذلك فالمؤكد أن الذين تمّ الإفراج عنهم هم كما وصفتهم جريدة الحقيقة السورية!

آفاق مستقبلية للعلاقات السورية الأردنية

أتوقع بعد هذه الزيارة الملكية الأردنية وما استدعته من قرارات رئاسية سورية، أن تشهد العلاقات بين البلدين تطورا إيجابيا ملحوظا خاصة أنه بمنطق العقل والمصلحة العامة لا توجد بين البلدين مشاكل صعبة بقدر ما هي تباين في وجهات النظر فيما يتعلق بالتعاون الاقتصادي والحدود والمياه والتعاون الأمني، ويبعث على هذا التفاؤل البيان المشترك الذي صدر في أعقاب الزيارة الملكية حيث تمّ الاتفاق على توقيع اتفاقيات بين البلدين بهدف تعزيز التبادل التجاري ومنها اتفاقية تزويد الأردن بالقمح السوري، كما كان هناك تطابق في وجهات النظر حول تفعيل الاتفاقات الموقعة بخصوص حصص البلدين في مياه نهر اليرموك، والتحضير المشترك لإنجاح القمة العربية التي ستعقد العام المقبل في دمشق لضمان نجاحها فيما يخدم العمل العربي المشترك. إن سورية والأردن بسبب عدم وجود مشاكل جذرية بينهما يستطيعان أن يكونا نموذجا للعمل العربي الذي يخدم مصالح الشعبين الجارين، وهذا ما نأمله أن نكون محكومين للإيجابيات وتقليل السلبيات فكفانا شرذمة لا مبرر موضوعي لها.
[email protected]


أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلاف تسبب ملاحقة قانونية